كتب

كيف أقنع ابن تيمية التتار بالانسحاب من دمشق؟

قصة ابن تيمية مع التتار في دمشق والقاهرة.. محطات تاريخية- (عربي21)

الكتاب: "ابن تيمية.. الفقيه المعذب"
الكاتب: عبدالرحمن الشرقاوي
الناشر: دار الشروق، ط4، 2017

لم يكن اسم الشيخ تقي الدين بن تيمية مطروحاً بين العامة قبل فترة بسيطة، حيث كانت وفاته في السجن في القرن الرابع عشر الميلادي نهاية لاتصاله المباشر بالعامة؛ لتصبح آراؤه وفتواه شأناً من شؤون الدارسين والمختصين في العلوم الشرعية.

لكن الظروف التي يمرُّ بها العالم الإسلامي اليوم، أعادت بعث مذهب ابن تيمية بعد حوالي سبعة قرون على وفاته، في ظروف تكاد تكون مشابهة للظروف التي نشأت في ظلها أفكاره ومعتقداته، بغض النظر عن صحتها أو خطئها، كما أعادت إلى الواجهة الخلاف حول آراء شيخ الإسلام بين من يعتبره المدافع الأقوى عن الدين الحنيف ومنهاج السلف الصالح، ومن يعتبره المؤسس الفعلي لكل حركات التطرف الديني والعنف باسم الدين.

عاش ابن تيمية حياة من المعارك المتصلة، حارب فيها بالقلم، وباللسان، وحتى بالسيف نفسه، كانت معاركه تهدأ في بعض الأحيان، لكنها لم تنقطع قط، وهي حتى إذا توقفت، أثارها هو بنفسه من خلال رأي يخالف به ما ألفه الناس، أو حدة يصدم بها أحد مجادليه، أو حملة يشنها على ما يراه بدعة أو مخالفاً للسنة.

كذلك، عاش ابن تيمية عصرا مليئاً بالفتن وتكميم الأفواه، كما كان عصر التوترات السياسية باحتضار الدولة العباسية في بغداد وغزوات المغول المتكررة على الشام، أمَّا ما تلا عصر ابن تيمية فكان أيضاً كفيلاً بتراجع أفكاره واقتصارها على فئة من التابعين له، خاصَّةً بعد قيام الدولة العثمانية في القرن السادس عشر التي آثرت التعامل مع الآراء الأقل تعصباً وشدَّة من آراء ابن تيمية.

وكباقي كتبه الإسلامية كتب الشرقاوي "ابن تيمية.. الفقيه المعذب" بلغة أدبية وشعرية تستشعر فيها صلته بالشخصية التي يكتب عنها، وتميز أسلوبه بالسهولة وبتحويل السيرة والحقائق إلى رواية، تشعر معها بأنك ترى أمام عينيك ما تقرأه.

نسب ابن تيمية ونشأته:

ولد أحمد تقي الدين عام 660 هـ، في مدينة حران بسوريا، وفي السابعة من عمره أغار التتار على المدينة، فهاجرت أسرته إلى دمشق، حيث استقر به المقام.

يقول الكاتب في صفحة (9): "وفي الحق، أن أحمد بن تيمية ورث الموهبة والعلم عن أبيه شهاب الدين عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية، وعن جده مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن عبدالله بن تيمية الحراني شيخ الإسلام.. وكانت أمه تيمية امرأة متفقهة في الدين، تعظ النساء والرجال، وكانت غزيرة العلم، فانتسبت إليها الأسرة: ابنها مجد الدين الذي أصبح شيخاً للإسلام، ثم ابنه عبدالحليم، ثم حفيده تقي الدين".

ويصف الكاتب الظروف التي نشأ فيها ابن تيمية فيقول في (صفحة 15): "كانت الدولة الإسلامية قد تمزقت إلى دويلات، وكان التتار ـ على الرغم من هزيمتهم في عين جالوت قبل أن يولد ابن تيمية ـ مازالوا يغيرون على الشام، والصليبيون مازالوا يحلمون بامتلاك أرض المسلمين. والعصر ملئ بالفساد: فالولاة يرتشون، ولا يؤدون الأمانة ويبطشون بمن يقاومهم، ومن العلماء من ينافقهم طمعاً في العطاء!! وما عاد رجال كالعز بن عبدالسلام يفرض عليهم هيبة الدين، ولا كالنووي ينصح الحاكم، فإذا رفض الحاكم نصيحته جابهه بأنه مملوك ينهب ما ليس له، وعليه أن يذعن لرأي أهل التقوى، والجمود يبسط سلطانه على العقول، فلا أحد يفكر خارج المذاهب الفقهية المتوارثة، وكل حزب يتعصب لمذهبه ويقلد السلف، ويكيد كل واحد لأخيه. دور اللهو والفساد والخمارات أصبحت أكثر عدداً من المدارس، والمشعوذون المنتسبون إلى الصوفية يبهرون العامة بفنون الشعوذة، ويؤثرون عليهم، ويشيعون الفساد".

عمرت مدن الشام ومصر بالعلماء والفقهاء من أهلها، ومن الذين لاذوا بها، منذ زحف التتار على بلاد الإسلام، واستيلائهم على بغداد، وما أكثر الذي كانوا يعيشون في مصر والشام من علماء الأندلس والمغرب منذ مزقتها الخلافات الداخلية، فانهارت دولة الإسلام في الأندلس، وبطش حكام المغرب بمن يخالفهم في المذهب.

كان في هذا الحشد من العلماء النازحين ثراء للحياة الفكرية، تموج بالأفكار والآراء، ويشتد فيها الجدال بين أتباع المذاهب الفقهية، بين المقلدين والمجددين، بين أهل الشريعة من أتباع السلف، وأهل الحقيقة من المتصوفة، بين أصحاب الفلسفة، وعلماء الدين، وبين أهل علوم الدنيا.

كان العصر غير بعيد بموقف "العز بن عبدالسلام" الذي أفتى بأنه لا ولاية للمماليك على المسلمين لأنهم مماليك عبيد، فلابد من عتقهم ليحق لهم أن يحكموا. 

ما كان ابن تيمية على هذا الرأي، بل كان يدعو الناس إلى طاعة أولي الأمر ما استقاموا، فإذا عصوا الله فلا طاعة في معصية، كان يرى في المماليك محاربين أشداء، يحمون الثغور، ويدافعون عن الدين والأمة من غزوات التتار والصليبيين، من أجل ذلك احترمه الولاة والأمراء، وأقروا كل ما يعمله ـ على رأس طائفة من الشباب ـ وأعلنوا أنه ينفذ إرادتهم في إغلاق الحانات، ودور اللهو، وبيوت الفساد، وتطهير الشباب من مظاهر التخنث والتشبه بالنساء.

جهاده ضد التتار:

عاد التتار إلى الشام سنة 699 هجرية، والشيخ تقي الدين بن تيمية في نحو التاسعة والثلاثين، ودمشق مشغولة بالحوار حول صفات الله تعالى والأسماء الحسنى، والحوار يتحول إلى مشاحنات، ويمتد إلى القاهرة وسائر المدن.

يقول المؤلف في (صفحة 45): "كان سلطان مصر والشام هو الناصر محمد بن قلاوون، وحين علم بزحف التتار على الشام تحدث مع أهل مشورته من الأمراء فرأى بعضهم أن يسالموا التتار ويعاهدوهم، فهم الآن مسلمون!، واستشار السلطان أصحاب الفتوى من العلماء والقضاة والفقهاء، فأفتوه أن التتار مسلمون حقاً، إلا أنهم أصبحوا بزحفهم على بلاد غيرهم من المسلمين، غزاة بغاة، يجب قتالهم شرعاً، وخرج عسكر السلطان يقوده أمراء تمزقهم الخلافات والأطماع، وهج الشمس على خوذاتهم، وعلى الدروع والملابس الموشاة بالذهب، ولا شيء في الصدور غير هواجس الدسائس، وأحلام السلطة، والقلوب خواء".

انكسر جيش السلطان أمام التتار، وفر الأمراء بأحلامهم، يقودون جنداً لم يحاربوا إلا معركة واحدة أبلوا فيها أحسن البلاء، لكن أمراءهم لم يثبتوا، وفروا حرصاً على حياتهم، فانكشفت دمشق أمام التتار الزاحفين، ووقفوا على أبوابها.

سيطر الذعر على الناس، وفر كل من في دمشق من أولي الأمر، حتى العلماء والفقهاء، ولم يعد على السجون حراس، فخرج اللصوص ينهبون ويعتدون، ولم يبق في دمشق إلا نفر قليل من كبار رجالها، على رأسهم تقي الدين بن تيمية، الذي طاف بالطرقات والجوامع يحض الناس على الجهاد، وأمر أتباعه من الشباب أن ينهضوا للقبض على اللصوص الذين هربوا من السجون، فيجب أن يأمن كل من بقي في دمشق على ماله وعرضه، وعلى الذين لا يريدون جهاد التتار ـ لأنهم مسلمون ـ أن يدركوا أن التتار خوارج، وقد أوجب الله قتالهم، وقد قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمثالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حرًّض على قتال الذين استحلوا دماء سواهم من المسلمين.

يقول المؤلف في (صفحة 46): "طاف الشيخ بتجار السلاح، يفتيهم أن مقاومة التتار جهاد في سبيل الله، فليجاهد هؤلاء التجار في سبيل الله بأموالهم، ولهم أجر الجهاد بالنفس، فليبذلوا السلاح لمن يريد بلا مقابل، أو بثمن بخس. وفي ساعات قلائل، استطاع تقي الدين أن يستنفر سواد الناس، فأغلقوا أبواب دمشق، ووقفوا دونها مسلحين ما استطاعوا، وعلى رأسهم أتباع تقي الدين من الشباب المدربين، وأمسك هؤلاء الشباب باللصوص والفتاك الذين فروا من السجون، وأعادوهم إليها، وعينوا عليهم حراساً من أشد شباب دمشق صلاحاً وصلابة وقوة".

اطمأن كل من في دمشق على عرضه وماله، وأصبح تقي الدين بن تيمية هو حاكم دمشق الفرد المطاع، فأمر بإغلاق الحانات، ودور الفساد وإراقة الخمور، ومضى الشيخ يفتش عن أحد من الفقهاء، وأهل الشورى والأعيان، والأمراء وولاة الأمر فلم يجد أحداً منهم يشاوره، فروا جميعاً خارج دمشق، وتركوا الرعية وحدها تواجه التتار!.

ثم علم الشيخ أن بعض ولاة الأمر والفقهاء، قد أسرعوا إلى معسكر التتار، يرحبون بسلطانهم "قازان"، ويعلنون له الولاء، فهو سلطان مسلم، ما غزا الشام وطرق عاصمته، إلا لإصلاح ما فسد من أمور المسلمين، وعلم أن هؤلاء المنافقين، يطالبون قائد القلعة التي تحمي دمشق بأن يسلم القلعة للتتار حقناً لدماء المسلمين: أهل الشام والتتار على السواء!. فأرسل ابن تيمية إلى قائد القلعة رسالة عاجلة: "لو لم يبق في القلعة إلا حجر واحد فلا أسلمن ذلك الحجر إن استطعت".

استقوى قائد القلعة بنصيحة الشيخ فرفض التسليم، على الرغم من إلحاح أكثر الأعيان والفقهاء عليه أن يلقي السلاح ويذعن ويستسلم.

نظر ابن تيمية ومن اجتمع بهم في الأمر كله، فوجدوا أن التتار يستطيعون أن يحاصروا دمشق، حتى يهلك أهلها جوعاً، ويستطيعون بأدواتهم الحربية الحديثة أن يحرقوها ويدمروها، وما في المدينة غير السيوف والحراب وقضبان الحديد، وقطع الحجارة، لكنه رغم ذلك رأى أن من بقوا في المدينة يجب ألا يستسلموا، فمن قبل اقتحم الصليبيون مدينة "المنصورة" في شمال مصر، فقاومهم أهل المنصورة بالحراب والسيوف والقضبان الحديد، والحجارة والزيت المغلي تصبه النساء من فوق أسطح المنازل، وأمسك الناس بخناق قائد الحملة الملك لويس التاسع في أحد طرقات المنصورة فأسروه، وفر جنده، لكن الجيش المصري قطع عليهم طريق الفرار، وسجن الملك لويس التاسع، ولم يفكر الصليبيون بعد ذلك في مغامرة كتلك.

ستقاوم دمشق، وتظل تقاوم، إلى أن تهب جيوش العرب والمسلمين لنجدتها، لكن أين هم العرب والمسلمون؟ إن بأسهم بينهم لشديد، فقد مزقتهم الخلافات الداخلية، فشغلوا بها، ولن يشهر أحدهم سيفاً لنصرة إخوانهم المكروبين. إذن لا بد من حل آخر.

قرر ابن تيمية أن يذهب إلى معسكر التتار للقاء "قازان" سلطان التتار، فوجد عنده عدداً من علماء دمشق وأمرائها، يداهنون سلطان التتار الذي أعجب لهذا الشيخ الأعزل.

عن هذا اللقاء، يقول المؤلف في (صفحة 52): "واستمر الشيخ يقول للمترجم: قل للسلطان: إنك تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت، عاهدا فأوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت، وجرت... ومازال الشيخ بالسلطان، حتى وعد السلطان بأنه سيسير في الناس سيرة مسلم، حسن الإسلام، وسيسحب جيوشه الجرارة ويقفل راجعاً إلى بلاده".

مرت ثمانية أيام، ولم يف قازان بوعده، بل انطلق بعض جنوده مع بعض أفراد من الباطنية والحشاشين الذين حالفوا التتار، فهاجموا أطراف دمشق، وأحرقوا وأتلفوا، وسبوا النساء، كل ذلك تحت راية الإسلام!!، فخرج ابن تيمية مرة أخرى إلى قازان، يشكو إليه عدوان جنده على دمشق، فوعده قازان بأنه سينسحب الآن بجيشه، وطالبه ابن تيمية بفك الأسرى، ففك قازان الأسرى المسلمين، لكن ابن تيمية أقنعه بأن يطلق الأسرى من المسيحيين واليهود، فكلهم من أهل الشام، وهم أهل ذمة، في ذمة الله ورسوله، فأطلق قازان الأسرى جميعاً، وأذن بالرحيل، وترك دمشق، والشام جميعاً.

ضجت دمشق بالفرح، وخرجت النساء بأطفالهن مهللات، وأقيمت الزينات، وعاشت دمشق أياماً وليالي تحتفل بانتصارها دون أن تراق دماء بنيها.

 

التتار ومصر

وفي القاهرة عاصمة الدولة، كان السلطان الناصر محمد بن قلاوون منذ عاد بالجيش المنكسر، يعد العدة لكرًّة أخرى على التتار، ويبتهل إلى الله ألا يجعل ولايته نحساً على الأمة، فإذ بالحمام الزاجل يحمل إليه رسالة عاجلة من دمشق، أن الشيخ تقي الدين بن تيمية، أحد كبار الفقهاء في دمشق، قد أقنع التتار بالانسحاب فانسحبوا.

بعد أيام، أرسل السلطان قازان إلى السلطان محمد بن قلاوون وفداً من ثلاثة رجال كبار: عراقي هو قاضي الموصل، والثاني إيراني، والثالث تركي، يطلب الصلح، رحب السلطان محمد بن قلاوون بالصلح، وأقام لضيوفه احتفالات كثيرة، وعاد الوفد إلى سلطانهم قازان يصفون له ما شاهدوه في مصر من غنى، وما عاينوه من دقة في نظام الجيش، وما أتيح لهم أن تعرفوا عليه من أسرار أخرى، فقد كانوا كلهم جواسيس!!.

كان قازان يطمع في الاستيلاء على مصر ليحكم الدنيا من القاهرة، فأرسل هذا الوفد ليعمل على كسب ثقة السلطان، ويتعرف على كل ما تحتاجه خطة الغزو، وأرسل مع هؤلاء الثلاثة حرساً ضخماً وفير العدد، كلهم جواسيس، ولم يكد يمضي عام على انسحاب قازان بعسكره، حتى شاع أنه يستعد لغزو مصر والاستيلاء على مقر السلطنة في القاهرة، وما كان انسحابه عن الشام، أو دعاؤه بالصلح إلا خدعة، إلى أن يتعرف على مصر ودروبها، ويحشد لها ما يقهرها.

فخرج ابن تيمية إلى الطرقات يخطب الناس، وانتقل من مسجد إلى مسجد، يحرض الناس على القتال، و"يقنعهم أن السلطان قازان لا عهد له، وهو غادر فاتك، يقود فئة خارجة عن الإسلام، ومن والاهم فهو منهم، ومن خافهم، فقد عصا الله ورسوله".