كتاب عربي 21

الأمة المسلحة (1/2)

1300x600
(1)
"تحصل أشياء في نطاق الأمن لا تصل إلى علمي، أسمع بيانات في إذاعة إسرائيل وأقرأ بعد ذلك في الصحف من دون أن أعرف خلفيتها الحقيقة"، بتلك الكلمات صاغ موشيه شاريت -ثاني رئيس للوزراء 1953 : 1955- شكل العلاقات المدنية العسكرية بـ "إسرائيل"، ومنذ ذلك الوقت لم يختلف الوضع كثيرا، فهناك صورة لحياة ديموقراطية تمارس فيها الانتخابات على عدة مستويات، إلا أنه في النهاية يبقى لتلك الحركة حدودا لا تتجاوزها إذا تعلقت بما يسمى "جيش الدفاع".

للعسكر دور كبير -منذ بدءالاحتلال- يضاهي الدور السياسي المدني إن لم يكن يفوقه، فعمليات الاستيطان والتربية والهجرة كلها مهام كلف بن جوريون الجيش بها، ولا يزال إلى الآن يقوم بجزء منها، وفي أول عقدين تقريبا كان أي رئيس للوزراء يجمع مع منصبه وزارة الدفاع، إلى أن تم تعيين أول وزير للدفاع عام 1967، بخلاف حضور رئيس الأركان الاجتماعات الأمنية لمجلس الوزراء، لا باعتباره مرؤوسا بل باعتباره صاحب قرار وندا لأعضائه.

(2)
الدعاية الإسرائيلية للتقرب إلى الغرب تقوم على أمرين: المظلومية والقيم المشتركة، فهي تشير لكونها دولة ديموقراطية مثل دوله، كذلك تشاركهم في الوقوف ضد "الإرهاب"، تلك القيم بالإضافة لما تعرضت له على يد الغرب وزعمها ما تلاقيه من العرب سهّل عملية التقارب وأحيانا الابتزاز، وهي تقوم بتلك الدعاية بإصرار ودأب ولا تمل الحديث عما تمثله وما تواجهه.

يحكي أحد العاملين السابقين بوزارة الخارجية الأمريكية أن أي زيارة لوزير الخارجية الأمريكي إلى "إسرائيل" لابد من اصطحابه لزيارتين: الأولى إلى متحف الهولوكوست (ياد فاشيم) والثانية جولة بالهليكوبتر تقطع "إسرائيل" في 90 دقيقة، فزيارة المتحف لأجل تذكيرهم بما لاقى اليهود من اضطهاد ومحاربة وأنهم ليسوا على استعداد لتكرار تلك التجربة، والأهم للإشارة للوزير بأنه آن للمعاناة أن تنتهي، أما الجولة حتى يرى انعدام عمق الأراضي لهم، مع وجود جيران يتأهبون للخلاص منهم، الأمر الذي قد يجعل هناك سببا لزيادة الاستيطان والتوسع بالأراضي المحتلة، فيتم التغاضي عنه أو الاكتفاء بمجرد الشجب والاستنكار.

 دعاية بهذا الشكل تقوم على خلفية واحدة تبين العقلية الحاكمة لهذا المجتمع، ولا تخطئ العين كونها أمنية، باعتبار قضايا الأمن التي تحتل الأولوية كالعمق وتهديد الحياة، مع الوضع في الاعتبار أن قضايا الاستيطان خصوصا من ملفات الجيش كما سبق.

(3)
أشارت دراسة سابقة لمركز الزيتونة (سنة 2011 تحت عنوان "صناعة القرار الإسرائيلي.. الآليات والعناصر المؤثرة") للآتي:

 يشكل الضباط المتقاعدون ما يقارب ثلاثة أرباع المديرين التنفيذيين في مختلف المجالات الاقتصادية، ومنذ1960 يشكل "كبار" الضباط المتقاعدين 10بالمئة من الكنيست "البرلمان الإسرائيلي".

 تحتكر المؤسسة العسكرية بشكل شبه كامل عملية تزويد وسائل الإعلام بالأخبار المتعلقة بها، وبالتالي فإنها تمتلك القدرة على التلاعب بالصحافة والإعلام، كما يسيطر الجيش على عملية مراقبة الإعلام من خلال مكتب الرقابة العسكرية، ويمتلك المكتب صلاحيات واسعة كمنع نشر مواد معينة، وإغلاق جريدة أو وسيلة إعلامية ما، كما أن معظم المراسلين العسكريين يخدمون في الاحتياط.

 يبدأ التجنيد الإلزامي من سن 18 عاما ومدته ثلاث سنوات للذكور وسنتان للإناث، ويظل الفرد في قوات الاحتياط حتى بلوغ الخامسة والأربعين إن كان مقاتلا، أو الحادية والخمسين إن كان في خدمة مدنية، ويتم الاستدعاء لمدة شهر سنويا.

 أظهرت الدراسة أن توغل العسكريين بالدولة بلغ حدودا تهدم أي إمكانية لتوصيف مدني للدولة هناك، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي. أما على المستوى الإعلامي فالصورة لا تختلف مطلقا عن الدول الموسومة بالشمولية والحكم العسكري الحديدي، وقد وضح هذا جليا في معركة "العصف المأكول" وبدا حجم السيطرة العسكرية غير الاعتيادية على التصريحات والأرقام التي تخرج من الإعلام "الإسرائيلي".

 كما أن حالة التجنيد الإلزامي المتسعة للجنسين لا يتم الإعفاء منها إلا للمتدينين بالأساس والعرب وطبقات أخرى قليلة، لكن يبقى أن مجمل الدولة ينخرط في الجيش، تلك الصورة تقول إن ما كان حلما لدى الطامحين لتأسيس الدولة عن وجود "أمة مسلحة" لم يعد حلما، بل هو واقع قائم ومضطرد يصفه بعض المعلقين الإسرائيليين بقولهم ليست "إسرائيل" دولة لها جيش بل هي جيش له دولة. فكل فرد فيها بالفعل يحمل أو حمل السلاح في وقت ما، والذين تم إعفاؤهم بالاعتبار الديني يقفون بين الجنود وعّاظا وداعمين.

هذه الصورة وما سيتم استكماله بالمقال المكمّل يطرح تساؤلا وجيها: "هل إسرائيل دولة مدنية أم عسكرية؟".
يتبع..