ملفات وتقارير

"عربي21" ترصد مأساة انقطاع الكهرباء في العراق.. من يقف وراءها؟

شهد العراق خلال السنوات الماضية تظاهرات واسعة بسبب تردي الكهرباء- فيسبوك
لم يكن يتوقع أحد أن دولة مثل العراق، الغني بالنفط والغاز يعاني من أزمة كهرباء خانقة، تمثل إحدى المشكلات الرئيسية لمواطنيه، تبلغ ذورتها في فصل الصيف اللاهب من كل عام، حيث تتجاوز درجات الحرارة في البلاد 50 درجة مئوية.

تاريخ الكهرباء في العراق
دخلت الطاقة الكهربائية العراق عام 1917، واستمر تطورها بالتوازي مع الثورة النفطية، حتى نقلت الحكومة العراقية عام 1955 ملكية شركة كهرباء بغداد إلى دائرة حكومية سميت مصلحة كهرباء بغداد.

استمر تطور الطاقة الكهربائية في العراق حتى وصل إلى 9496 ميغاواط قبيل حرب الخليج الثانية عندها كان عدد سكان العراق حوالي 18 مليون نسمة ما يعني أن نحو 90% من سكان العراق حصلوا على الكهرباء خلال الثمانينات، وهي نسبة كبيرة مقارنة بالبلدان الأخرى في تلك الفترة.

خلال حرب الخليج الثانية دمرت نحو 92٪؜ من مرتكزات شبكة الكهرباء العراقية بفعل الضربات الجوية والصاروخية  حتى فقدت أكثر من 8585 ميغاواط، وانخفض إنتاج الطاقة إلى (1598) ميغاواط فقط عام 1991, بسبب الضرر الكبير الذي لحق بقطاع الكهرباء حيث أصاب الشبكات ومحطات التوليد، فقد وصلت ساعات قطع التيار المبرمج إلى 18 ساعة يوميا.

شهد العراق في الفترة 1991-1993، حملة إعمار واسعة لتدارك آثار الحرب إلا أن قدرته على إنتاج الطاقة الكهربائية انخفضت إلى نحو 5300 ميغاواط جراء نقص قطع الغيار اللازمة بفعل الحصار الاقتصادي المفروض على العراق.

خلال غزو العراق عام 2003 تعرضت محطات توليد الكهرباء لقصف مباشر من القوات الأمريكية ما أدى إلى انخفاض إنتاج الطاقة الكهربائية إلى نحو 20٪ فقط من القدرة الأصلية للمحطات الكهربائية العراقية، ونتيجة لذلك، لا تصل الكهرباء في منازل بغداد سوى 3-5 ساعات فقط يوميا.



احتياجات العراق من الكهرباء
في حزيران/يونيو 2008 قالت وزارة الكهرباء العراقية إن هناك فجوة كبيرة بين استهلاك الكهرباء وإنتاجها في البلاد، إذ يبلغ الطلب 10500 ميغاوات بينما لا تزيد قدرة شبكة الكهرباء عن 5500 ميغاوات.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ذكرت وزارة الكهرباء العراقية، أن العراق ينتج 19.5 غيغاوات من الكهرباء سنويا، فيما يحتاج إلى 26.5 غيغاوات، حيث يعوض الفارق باستيراد 7 غيغاوات من إيران.

ولتوفير الكهرباء على مدار 24 ساعة قالت الوزارة في تصريحات للمتحدث باسمها أحمد العبادي في حزيران/يونيو 2021 إن العراق بحاجة إلى 27 ألف ميغاوات من الطاقة، لتوفير الكهرباء على مدار 24 ساعة للمواطنين.

وأشار العبادي إلى أن العراق يحتاج إلى 70 مليون متر مكعب من الغاز لرفع إنتاج الطاقة الكهربائية إلى 22 ألف ميغاوات، ويستورد 20 مليون متر مكعب منها من إيران. كما يستورد العراق 1200 ميغاوات من الطاقة الكهربائية من إيران، في حين يحتاج إلى 27 ألف ميغاوات لتوفير الطاقة الكهربائية 24 ساعة يومياً، حيث أن حجم الحاجة المحلية للكهرباء وصلت عام 2023 إلى 35 ألف ميغاوات بحسب وزارة الكهرباء العراقية.



عقود مليارية
منذ العام 2003 سمع العراقيون عشرات الوعود الحكومية بإنهاء الأزمة حيث أكد نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الطاقة، حسين الشهرستاني في عام 2012، بأن العراق سيصل إلى مرحلة الاكتفاء الكامل من الكهرباء، بل أنه قد "يصدرها إلى الأسواق المجاورة".

لكن لم يلمس العراقيون أي أثر لتلك الوعود حتى الآن رغم عشرات العقود التي وقعت مع شركات عالمية للطاقة.

أبرز العقود في 15 عاما
أيار/مايو 2008 وقع العراق عقدا بقيمة 179 مليون يورو مع جنرال إلكتريك لشراء ثمانية مولدات تعمل بالغاز الطبيعي سيركب معظمها في العاصمة بغداد.

حزيران/يونيو 2008 وقع العراق عقدا مع شركة جنرال إلكتريك الأمريكية لإقامة ثلاث محطات كهرباء كبيرة بقيمة 480 مليون دولار.

تموز/يوليو 2010 وقع وزير الكهرباء العراقي بالوكالة حسين الشهرستاني عقداً مع شركة الستوم الفرنسية لإنشاء محطة بخارية لإنتاج الطاقة الكهربائية بطاقة 1200 ميغاواط وإعادة تأهيل محطة أخرى.

تشرين الثاني/نوفمبر 2017 وقعت حكومة حيدر العبادي مع شركة (ايه.بي.بي) السويدية لتنفيذ مشاريع لنقل الطاقة الكهربائية لصالح وزارة الكهرباء مقدرا قيمة العقد بنحو 500 مليون دولار. 

أيار/مايو 2018 وقعت وزارة الكهرباء العراقية اتفاقات مع شركتي جنرال إلكتريك وسيمنس بشأن صفقات محتملة لتطوير البنية التحتية للكهرباء، بسعة تجهيز تصل إلى 11 ميغاواط وبتكلفة 15 مليار دولار.

أيلول/سبتمبر 2019 وقعت وزارة النفط العراقية عقداً مع شركة "توتال إينرجي" الفرنسية بقيمة 27 مليار دولار، لتنفيذ أربعة مشاريع في مجال الغاز والطاقة الكهربائية.

تموز/يوليو 2020 وقعت وزارة الكهرباء العراقية، عقدا مع ائتلاف شركات تقوده "سكاتك" النرويجية لإنتاج 525 ميغاوات كهرباء من الطاقة الشمسية بقيمة ٥٠٠ مليون دولار.

تموز/يوليو 2020 وقع العراق عقدا مع شركة "أبوظبي لطاقة المستقبل" لبناء 5 محطات للطاقة الشمسية لإنتاج ألفي ميغاوات من الكهرباء.

آب/اغسطس 2021 وقع العراق اتفاقا مع شركة "باور تشاينا" الصينية، لإنشاء محطات طاقة شمسية بسعة 2000 ميغاواط.

أيار/مايو 2021 وقّعت وزارة النفط العراقية، عقدا مع شركة "توتال إينيرجيز" الفرنسية بقيمة 27 مليار دولار، لتنفيذ أربعة مشاريع في مجال الغاز والطاقة الكهربائية.

آذار/مارس 2023 وقع العراق 3 عقود مع شركة سيمنز الألمانية لتأهيل ثلاث محطات للطاقة الكهربائية.

تموز/يوليو 2023 أطلق العراق وشركة "توتال إنرجي" مشروعاً بقيمة 10 مليارات دولار يهدف خصوصاً لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ومن الغاز المحترق في الحقول النفطية، بهدف تحديث قطاع الكهرباء الذي يشهد أزمة متفاقمة.


الربط الكهربائي مع الدول العربية
حاولت الحكومات المتعاقبة في العراق تخفيف الأزمة عبر مشروع الربط الكهربائي مع الدول العربية لسد جزء من حاجة البلاد من الطاقة الكهربائية. 

وكانت وزارة الكهرباء العراقية قد أبرمت في أيلول/سبتمبر 2019 اتفاقية مع مجلس التعاون الخليجي لإنشاء خطين لنقل الطاقة الكهربائية بطول 300 كيلومتر، حيث سيزود المشروع في حال إتمامه العراق بمئات الميغاوات من الطاقة الكهربائية.

وفي أيار/مايو الماضي أعلنت وزارة الكهرباء إدخال الربط مع الأردن إلى الخدمة مطلع شهر تموز الجاري بطاقة 50 ميغاواط كمرحلة أولى، بعد وضع حجر الأساس للمشروع عام 2022.

وحول الربط مع دول الخليج أكد المتحدث باسم الوزارة أحمد موسى خلال تصريحات في أيار/مايو الماضي أنه سيكون جاهزا الفترة المقبلة من دون تحديد سقف زمني لافتا إلى توقيع خمسة عقود بشأن الربط الخليجي، الذي يحتاج نحو 12 شهراً ليدخل حيز التنفيذ.

وسبق أن وقع كل من العراق والسعودية في كانون الثاني/يناير العام الماضي مذكرة تفاهم في مجال الربط الكهربائي بين البلدين، إذ يفترض أن يزود الربط الكهربائي مع السعودية، العراق، بنحو ألف ميغاواط خلال المرحلة الأولى، وذلك عن طريق محطة "عرعر" الحدودية.

أما الربط الكهربائي الثاني، فإنه سيكون من "محطة الوفرة بالكويت لمحطة الفاو جنوبي العراق" بحسب الرئيس التنفيذي لهيئة الربط الكهربائي الخليجي أحمد الإبراهيم.

ويسعى العراق لتعدد مصادر استيراد الكهرباء، بعد أن كان يعتمد على إيران وحدها خلال السنوات الماضية عبر استيراد 1200 ميغاوات من الكهرباء، فضلا عن وقود الغاز لتغذية محطات الطاقة الكهربائية المحلية.


الدور الإيراني
ويعتمد العراق على الغاز المستورد من إيران في تشغيل محطات توليد الكهرباء جنوبي البلاد وفي حال توقف إيران عن إمداد العراق بالغاز فإن العجز في الكهرباء قد يتجاوز نسبة الثلث بحسب وزارة الكهرباء العراقية.

وفي أوقات ذروة الطلب على الكهرباء في العراق في فصل الصيف تسد إيران العجز لدى الجانب العراقي، إذ يستورد العراق ما بين 1.5 إلى 1.8 مليار قدم مكعب من الغاز الإيراني يومياً.

ويعد العراق من أكبر مستوردي الكهرباء من إيران حيث يستحوذ على 92 بالمئة من مجمل الكهرباء الإيرانية المصدرة للخارج، بما يعادل من 1500 و2000 ميغاوات من الطاقة الكهربائية، بموجب اتفاق وقعه البلدان عام 2005، وفقا لبيانات شركة "ساتكاب" الإيرانية لصناعة وتوفير السلع المائية والكهربائية.

ومع كل صيف تخفض إيران إمدادات الغاز إلى العراق ما ينعكس سلبا على قطاع الكهرباء، وتعزو ذلك لأسباب عدة تارة فنية وأخرى بسبب تأخر العراق عن دفع مستحقات الغاز الإيراني التي تصل لمليارات الدولارات.

آخر فصول الأزمة مطلع تموز/يوليو الجاري عندما خفضت إيران إمدادات الغاز للعراق إلى النصف بسبب مستحقات بقيمة 11 مليار يورو موجودة في حساب مصرفي عراقي لا يمكن لطهران استخدامها بسبب العقوبات الأمريكية، بحسب ما أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في كلمة بثّت عبر التلفزيون الثلاثاء.

غير أن السوداني تحدث عن حل جديد يكمن بالمقايضة العينية، النفط الخام أو النفط الأسود مقابل الحصول على الغاز الإيراني.

وفي حزيران/يونيو الماضي، أعلن العراق سداد جميع مستحقات الغاز الإيراني، حيث أكد مسؤول بوزارة الخارجية العراقية، دفع نحو 2.76 مليار دولار من ديون الغاز والكهرباء لإيران، بعد الحصول على إعفاء من العقوبات من الولايات المتحدة، وفقا لوسائل إعلام عراقية وعربية.

وبحسب بيانات لجنة الطاقة النيابية العراقية في عام 2021 فقد بلغ حجم الديون الإيرانية المترتبة على العراق أكثر من 16 تريليون دينار (نحو 11 مليار دولار)، تراكمت بسبب العقوبات الأمريكية على إيران والتي استحصل العراق استثناء منها عدة مرات.

ويصل إنفاق العراق السنوي على الغاز الإيراني والغاز القادم من كردستان العراق، بحسب بيان لوزارة الكهرباء، في أبريل/نيسان الماضي، إلى نحو 8 تريليونات دينار (6 مليارات دولار أمريكي).



الكهرباء.. باب الفساد الأكبر
يصنف العراق ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم، إذ احتل المرتبة 157 عالميا بين 180 دولة ضمن مؤشرات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية لعام 2021.

يقود البحث في ملف الفساد الإداري والمالي في العراق إلى جبل جليد لم تظهر منه سوى القمة، ولعل هذا يفسر إقرار المسؤولين الحكوميين أنفسهم بتغول الفساد حتى بات ظاهرة يصعب القضاء عليها.

في تموز/يوليو 2011 أثار تصريح وزير المالية آنذاك رافع العيساوي جدلا واسعا، عندما تحدث عن هدر 80 مليار دولار على قطاع الكهرباء منذ العام 2003 وهذا المبلغ يكفي لشراء شقة مؤثثة في منتجعات أوروبا لكل عائلة عراقية، بحسب كلام الوزير.

تبع حديث الوزير تصريح لرئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي في كانون الثاني/يناير 2021، يقول فيه "إن الحكومات المتعاقبة أنفقت ما يناهز 62 مليار دولار على قطاع الكهرباء منذ عام 2013، لكن من دون توفير الخدمات بشكل كاف بسبب سوء التخطيط والفساد".

من جانبها ذكرت لجنة التعاقدات الكهربائية في مجلس النواب العراقي في تقرير لها نشر عام 2020, أن حجم الإنفاق الكلي في وزارة الكهرباء منذ عام 2005 ولغاية عام 2019، بلغ نحو 97 تريليون دينار عراقي.

هذه الأرقام الفلكية كما يصفها خبراء الاقتصاد توحي بحجم الفساد في ملف الكهرباء بالعراق ولعلها السبب الأبرز وراء استمرار الأزمة منذ 20 سنة.


لمصلحة من؟
وقال الكاتب والباحث السياسي العراقي نظير الكندوري "إن مشكلة الكهرباء هي مشكلة سياسية أكثر منها فنية"، مضيفا: "الدولة المجاورة (يقصد إيران) تحاول الحفاظ على العراق كبلد تابع لها ومعتمد عليها في كل شيء، وبالتالي فإن ضرب هذا القطاع المهم سيحقق التبعية العراقية لإيران، وسيعود لإيران بالمنافع الاقتصادية الكبيرة من العراق، وهذا ما نراه جليًا الآن من خلال تصدير كل شيء للعراق من إيران، صناعيا كان أم زراعياً".

وأضاف الكندوري في حديث لـ "عربي21": "إن المشاريع التي تستهدف تحسين إنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية في العراق ترصد لها مبالغ مليارية، وهي بالتالي فرصة مثالية للفاسدين لسرقة المال العام، من خلال مشاريع وهمية لا تؤدي إلى تحسين واقع الطاقة الكهربائية في العراق، وباختصار، فإن تحسن الكهرباء يمكن ربطه بالسيادة الوطنية، فكلما كان البلد فاقدا للسيادة الوطنية، تعذر عليه إنجاز مشاريع كبيرة تخدم البلد من مثل منظومة كهرباء تغطي احتياجاته".

وعند سؤاله عن تأثير تردي الكهرباء على الشارع العراقي الغاضب أجاب الكندوري "كان تردي الكهرباء سببا لخروج العديد من التظاهرات "المطلبية" ضد كل الحكومات المتعاقبة بعد 2003 وحتى الآن".

وتابع: "في البلدان الديمقراطية الحقيقية يمكن أن يكون لهذا النوع من التظاهرات تأثير كبير على الحكومات، ولوجدنا الحكومات والأحزاب تسارع بإيجاد حل لهذه المشكلة، لأن ذلك يهدد وجودها بالسلطة وأن الشعب سوف لن يعيد انتخابها، بينما في العراق، فإن أحزاب السلطة لا تلقي بالاً لهذا الموضوع، لأنها مطمئنة على بقائها في السلطة رغم رفض الشعب لها، ولأنها مدعومة من إيران وكذلك الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية. وبالتالي فإنها غير ملزمة بتحقيق مطالب الجماهير الشعبية".

سخرية واسعة
وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي موجة غضب وسخرية من استمرار أزمة الكهرباء في العراق منذ 20 عاما، حيث تناقل مغردون تصريحات لمسؤولين تتحدث عن انتهاء أزمة الكهرباء، كما سخروا من تحميل بعض المسؤولين المواطن العراقي مسؤولية انهيار الكهرباء في البلاد.