كتب

التجار الفاتحون.. قصة انتشار الإسلام في آسيا الشرقية

امتلك الأوروبيون الأراضي في شرق آسيا وأفادوا من نفوذهم السياسي والعسكري لبسط هيمنتهم على الملاحة هناك.
الكتاب: التجار والإيمان، ثقافة المسلمين وتجارتهم في المحيط الهندي
الكاتب: باتريشيا ريستو، ترجمة أحمد عبد العزيز العباسي
الناشر: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة ط1، أبو ظبي 2009.
عدد الصفحات: 190 صفحة.

1


يدرس الأثر "التجار والإيمان، ثقافة المسلمين وتجارتهم في المحيط الهندي" للباحث باتريشيا ريستو عوامل انتشار الإسلام في المحيط الهندي. فمعلوم أن شعوب تلك البلدان لم تدخل الإسلام إثر حملات عسكرية وفتوحات شأن أغلب الأقطار الإسلامية. ولغياب الوثائق التاريخية التي تحدّد التفاصيل الدّقيقة، وللإجابة على السؤال كيف وصل الإسلام إلى تلك البقاع البعيدة، يلجأ الباحث إلى دراسة العلاقة القائمة بين المعتقد والثقافة والاقتصاد، فينطلق من دور البحارة الآسيويين المسلمين في نشره، وهذا أمر معلوم.

ولكنه يعمل على تفسير أسباب قدرتهم على التأثير في معتقدات شعوب بأسرها، محاولا سد ما يراه فراغا في تدوين تاريخ المنطقة. وليس هذا العزم بالأمر الهيّن. فمن العناصر التي تجعل الخوض في المسألة شائكا اتساع المدة الزمنية والجغرافية والتحديات اللغوية.

يلاحظ الباحث أنّ ما حُبّر من هذا التاريخ مُشبع بالتعصب الإيديولوجي. فالطرح المادي الماركسي الذي يفسر سيرورة التاريخ بالصراع الطبقي قاصر عنده على تقديم الإجابات العميقة عن سؤال أسلمة المجتمعات الآسيوية الشرقية. والرأسمالية تجعل من المبحث دفاعا عن مبررات وجود الأوروبيين هناك. ويغلب في طرح المسألة الاعتقاد بسمو البعد الأخلاقي الروحاني في آسيا، مقارنة بالرؤية الأوروبية الصاخبة والمتعجرفة. فيلقي العداء وسوء الفهم بين المسيحية والدين الإسلامي ظلاله على المسألة. "ولعلّ أسوأ وأخطر أنواع التعصّب [كذا] هو الإصرار على وجود التناقض الثنائي بين أوروبا وآسيا، أو بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي".

2

يضبط باتريشيا ريستو مصادرات بحثه. فيجعل مدار أولها على  دور العوامل الطبيعية والرياح أساسا، في وحدة دول المحيط الهادي وتماسكها رغم تشتت أصقاعها. فهي التي تقرر المراسي للسفن. فتكون في أشهر الشتاء كثيفة وتهب غرب الهند والصين، وفي أشهر الصيف أو بداية من شهر نيسان/أبريل حتى أيلول/سبتمبر تهب في الاتجاه المعاكس، فتطوي سرعتها المسافات البعيدة بين أصقاعها. ويكون لهذه الرياح الموسمية دور مهمّ في تنشيط التبادل التجاري أولا. ويفرض على التجار الإقامة في البلدان المضيفة لطول فترة الموسم. ومن هنا منشأ التواصل الثقافي الإيجابي بين البلاد العربية وشرق أفريقيا، وبين الصين والشرق الآسيوي عامة.

الطرح المادي الماركسي الذي يفسر سيرورة التاريخ بالصراع الطبقي، قاصر عنده عن تقديم الإجابات العميقة على سؤال أسلمة المجتمعات الآسيوية الشرقية. والرأسمالية تجعل من المبحث دفاعا عن مبررات وجود الأوروبيين هناك. ويغلب في طرح المسألة الاعتقاد بسمو البعد الأخلاقي الروحاني في آسيا مقارنة بالرؤية الأوروبية الصاخبة والمتعجرفة.
وتتعلّق ثاني المصادرات بإطلاق صفة إسلامية على المناطق التي سكنها المسلمون. فقد ظهر الجدل يميل إلى نزع تلك الصفة على بلدان المحيط الهندي والاكتفاء بكونها مجتمعات ذات غالبية مسلمة. ويردّ الباحث هذا الاختلاف إلى عدم معرفة المجادلين بطبيعة الدين الإسلامي. فالتّصور المسيحي للذات يتجسد في إطار عقائدي روحاني منعزل على الحياة منقطع عن الدنيوي. ويمكن اختزاله في العبارة "اعطوا ما لقيصر لقيصر ولله ما لله". أما الإسلام الصحيح وفق كثير من الباحثين، فأسلوب حياة ورؤية يشمل كل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلا تكاد تحصل القطيعة بين المادي والروحي إلا في ممارسات بعض الجماعات الصّوفية.

3

لشرح هذه المفارقة بين الديانتين، يعود إلى بداية نشأة الدولة الإسلامية، فقد شكّل النبي محمد نواتها الأولى وجعل نفسه على رأسها. ثم نشأت الشريعة في ظلها، فكانت تحميها وتعمل بها لحماية نفسها في الآن نفسه. وللمرء أن يتبيّن صدى هذا الاختلاف عند المقارنة بين علم اللاهوت الذي يعمل على صياغة المعتقدات المسيحية بشكل متناسق، مداره على استكشاف الذات الإلهية وصفاتها وعلم الشريعة التي تنظم كل شؤون حياة المسلم من الشعائر الدينية إلى المعاملات اليومية من بيوع وشراء وتدبير للشأن العام.

ولهذا التباين صدى مباشر على الأرض؛ فمصالح المبشرين في التجمعات السكانية التي تحوّلت إلى المسيحية عن طريق الحملات التبشيرية، كانت تختلف عن مصالح الشركات التجارية الأوروبية، بل تتضارب معها وفق الباحث. وعليه عملت تلك الجهات على استبعادهم من الهند لعملهم على تصعيد الصدام الثقافي. وبالمقابل، كان التجار المسلمون الذين يبحثون عن المال بما هو بعد دنيوي، بمنزلة دعاة للدين. وكثيرا ما كانوا يصطحبون معهم دعاة ووعّاظا. وهكذا أثروا بدورهم في كثير من التجار المحليين. وأكثر من ذلك، فقد كان لهم دور حاسم في تأسيس الحكومات في سواحل الجنوبية من آسيا وفي شرق السواحل الأفريقية، وإليهم يردّ الباحث الفضل في زرع بذور أسلمة مجتمعاتها.

4

اتسعت رقعة البلاد الإسلامية في قرون الإسلام الأولى، تلك التي يشار إليها بالعصر الذهبي. ووصل المسلمون إلى المناطق البعيدة. ولكن منطلق الباحث القائم على الربط بين المعتقد والثقافة والاقتصاد، يلفت انتباهه إلى انتشار الإسلام في حوض المتوسط وعلى امتداد الساحل الهندي، أي على ضفاف البحار. ويستنتج من ذلك وجود علاقة عضوية بين نشر الإسلام وتطوره والرغبة في السيطرة على الطرق التجارية. ويؤسس بناء على هذا الاستنتاج مصادرة سيظل يدافع عنها على مدار الأثر، وهي أنّ عناصر موضوعية جعلت العرب يتحوّلون من حياة البداوة والترحال إلى الحياة المستقرّة بريادة قريش.

وبظهور الإسلام، وجدوا الإطار التنظيمي الضروري للاستفادة من العوامل التجارية والاقتصادية وللسيطرة على طريق تجارة الذهب غربا عبر الصحراء وشمال أفريقيا. فاتجهوا صوب البحر الأبيض المتوسط. وبعد التأزم بين الأمويين والبيزنطيين برّا وبحرا، وبعد أن أضحت تلك الوجهة غير واعدة اتجهوا إلى طريق تجارة الحرير شرقا في المحيط الهندي. فمثلت منطقة السند من الشرق الآسيوي الخيار الجغرافي الأفضل، لأهميتها بالنسبة إلى عامة المحيط الهندي، حتى غدت إقليما ضمن الإمبراطورية الإسلامية. وعبرها أسس العرب مجتمعات تجارية في المدن المطلة على الموانئ، وعلى امتداد السّاحل الغربي للهند وصولا إلى المناطق البعيدة في سيريلانكا.

يبدو تفسير الباحث للتوازي بين مسار الفتوحات ومسار التجارة وأنشطة الملاحة مقنعا إلى حدّ كبير. ولكن قصر انتشار الإسلام على الرغبة في السيطرة على طرق التجارة العالمية تفسير مادي حرفي لا يخلو من سطحية.

5

واصل المسلمون توسعهم في جنوب آسيا وشرقها وفي شرق أفريقيا في العهد الوسيط (1050م- 1500م) متبعين ضفاف البحار دائما، وكوّنوا شبكات رئيسية لعمليات النقل في ظل اقتصاد يربط بين بقاع عديدة من العالم، وكأنّ تاريخ الملاحة في هذه الفترة المهمة يتحدّى التّاريخ السياسي المرتبط باليابسة. فحصل التجار المسلمون الأجانب على امتيازات في موانئ الصين. وابتعدوا عن مراكز النفوذ الإسلامية. وأسسوا شبكاتهم التجارية البحرية، التي لا تعوّل على حماية الإمبراطورية وإنما على كيانات سياسية مصغّرة، وعن طريق القواسم الثقافية المشتركة متمثلة في الشريعة. وكانوا يجلبون الرّقيق والعاج من شرق أفريقيا والأرز والقطن من المناطق الداخلية للهند (ذات الأغلبية الهندوسية). وانخرطوا في تجارة الحرير والخزف والحديد الصلب في الصين الكنشوفية، وامتد نفوذهم على طول سواحل المحيط الهندي.

يعتمد الباحث هذا العامل لتفسير العلاقة بين التجارة الإسلامية أو المرتبطة بتجار مسلمين وانتشار المجتمع الإسلامي في المحيط الهندي، فعبره تمت الدعوة إلى الإسلام. ولكنه يضيف إلى ذلك وجود أبعاد نفعية دنيوية محفّزة يفسر وفقها المؤرخون ترسّخ الديانة الإسلامية في الشرق الآسيوي في هذه المرحلة؛ ذلك أنّ اعتناق التاجر الآسيوي للإسلام، وفق تقديرهم كان يرفع من سمعته وثقته الائتمانية. و"أما القيمة النفعية (المصلحة التجارية)، فهي تابعة وهي نتاج طبيعي لمن يدخل الإسلام من التّجار ويحمل اسما إسلاميّا"، وللبرهنة على وجاهة تقديره يضيف: "من الجدير ذكره في هذا السياق وضع الحكام البوذيين في إقليم أراكان الساحلي لبورما، الذين تسموا بأسماء إسلامية ظنا منهم تحقيق بعض المصالح التجارية، غير أنهم لم يعتنقوا الإسلام".

6

في الفترة من القرن 16 إلى القرن 18م ستتغير المعطيات، وستفضي إلى تغيّر أسلوب إدارة تجارة الآسيويين المسلمين، فقد جعلت هيمنة النظام الرأسمالي وبحثه الدؤوب عن المواد الخام التي تقتضيها ثورته الصناعية وعن أسواق لتصدير البضائع المصنّعة، الأوروبيين يظهرون في شرق آسيا. وأخذ نفوذهم يتدعّم على حساب إمبراطوريات كانت تهيمن على أجزاء من آسيا، فقد تراجع العثمانيون الذين يهيمنون على مناطق انطلاقا من تركيا بعد اصطدامهم بالأوروبيين في شمال أفريقيا، وعجزهم عن غوث الأندلسيين في شبه الجزيرة الأيبيرية، وصدامهم العنيف مع الروس والنمساويين منذ بداية القرن 18 خاصة. وانهارت مملكة الصفويين الذين كانوا يسيطرون في إيران، فسريعا ما خلفهم حكم القاجار. أما المغول، فقد كانوا يسيطرون على معظم الهند ولكن حكمهم انهار بدوره وكان آخر شاه مغولي كان موجودا بشكل صوريّ، بعد أن فقد حقوق التقاعد التي كان يتقاضاها من شركة الهند البريطانية.

تراجع العثمانيون الذين يهيمنون على مناطق انطلاقا من تركيا بعد اصطدامهم بالأوربيين في شمال أفريقيا، وعجزهم عن غوث الأندلسيين في شبه الجزيرة الأيبيرية، وصدامهم العنيف مع الروس والنمساويين منذ بداية القرن 18 خاصة.
امتلك الأوروبيون الأراضي في شرق آسيا إذن، وأفادوا من نفوذهم السياسي والعسكري لبسط هيمنتهم على الملاحة هناك، وتعلّموا أسلوب استخدام الرياح الموسمية للملاحة في الشرق الآسيوي، قبل أن تتفوق سفنهم تقنيا وتصبح مجهزة التجهيز الجيد، الذي يجعلها تتفوق على نظيراتها الإسلامية أو الآسيوية. ونتيجة لهذا الصدام أثير في هذه المرحلة وعلى إيقاع التنافس على الملاحة البحرية الجدل حول الإيديولوجيا، وطرحت جملة من القضايا من بينها إلى أي حدّ يمكن اعتبار آسيا مسلمة، أو المقارنة بين روحانية الديانتين.

ما الدور الذي أداه الإسلام في القرون التي شهدت تراجع هيمنتهم على الملاحة البحرية في الشرق الآسيوي؟ لا يجد الباحث أي مقوم قادر على تقديم إجابة واضحة، فالخلفيات التي كانت تحرك المسلمين لم تكن متجانسة، نتيجة لعمق الاختلافات العقائدية بين السنة والشيعة والإباضيين. ولكن الثابت عنده أنّ الفترة الممتدّة بين القرن السابع ميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر نقطة مثّلت توقف المدّ الإسلامي، بعد أن فقد المسلمون مكانتهم البارزة في المحيط الهندي سياسيا وعسكريا وتجاريا خاصّة.

7

لا شكّ في أهمية هذه الدراسة التاريخية التي تحاول أن تجعل من التّاريخ علما، فتبحث في معطيات الماضي من منطلق العناصر المادية والموضوعية من اقتصاد وسياسة واجتماع، وتستند إلى الوثائق وتحاول قراءتها اعتمادا على الاستدلال المنطقي، وتختار ظروف انتشار الإسلام في الشرق الآسيوي، ذلك المسلك الوعر، فتبحث في وقائع كاد المؤرخون أن يسكتوا عن تفاصيلها الدقيقة، ويخلص صاحبها إلى ما يلي: "لقد قدّم الإسلام إطارا يسيرا مبنيا على عقيدة مضبوطة شرعا، ومناسبا في الآن نفسه ومغريا للتجار. ومع ذلك، فقد كان هناك تنوّع كبير للمسلمين ممن كانوا يمارسون فعليا السيطرة التجارية".

ورغم كل هذه النوايا الطيبة، يثير كتاب "التجار والإيمان ثقافة المسلمين وتجارتهم في المحيط الهندي" عديد الاحترازات، فهو يصدر أساسا عن الوثائق الغربية ويهمل الوثائق الإسلامية الأقدم تاريخيا. ويقدّم من ثم قراءتها الخاصة، فيعرض وجهة نظرها التي تحكمها النفعية وتفسر الوقائع تفسيرا أحاديا مبتسرا إلى حدّ بعيد، يربط بين الوقائع بطريقة مادية آلية.