قضايا وآراء

النضال السياسي في دولة المليشيات

1300x600
قبل أن نبدأ فلنحرر المصطلحات

قد تختلف مع كاتب هذه السطور حين تغوص فيما أراد أن يوصله خلال الدقائق القادمة، لكن لكي نصل معا لنقطة وسط علينا أن نراجع مصطلحا صدرنا به عنوان هذا المقال، وهو مصطلح دولة المليشيات.

فالمليشيات في المفهوم الجمعي، هي تلك المجموعات المسلحة المنشأة خارج إطار مؤسسات الدولة، ولا تخضع للقوانين المنظمة والضابطة لتسيير هذه الدولة. وقد استطاعت بعض الدول تقنين أوضاع تلك المليشيات على خلاف المعمول به، بدلا من حلها. لكن المقصود هنا ليس ذلك التعريف، بل المقصود هو فكر تلك المليشيات وأصل تأسيسها المبني على عدم اعترافها بالقانون، ولا تقبل بالخضوع له، لذا فتجد أن فكر المليشيات مبني على مصالحها الخاصة التي في الغالب تتقاطع مع مصلحة الدولة. فالقائد المليشياوي لا يرى إلا نفسه ومجموعته، لذا فهو مستعد أن يخوض معارك سياسية أو حتى عسكرية من أجل تلك المصلحة، والمعادلة دوما عنده صفرية مبنية على الإقصاء، ولو مرحليا وبحسب الفرصة المتاحة.

فوجود مؤسسات في الدولة لا يعني بالضرورة أن الفكر الذي يحكمها يبتعد عن فكر المليشيات، والتفاصيل مفهومة. 

موجات الربيع العربي وأمنيات الشعوب

شهدت الأمة العربية موجات غضب شعبي تراوحت بين التعبير عن الغضب والانتفاضة والثورة، على التدرج أو التوصيف. وبحسب نظرة المحلل أو الكاتب، بدأت من تونس لتتلاطم أمواجها في مصر وتكون تسونامي يهز كلا من سوريا وليبيا واليمن، وتوجد ارتدادات في كل من عُمان والبحرين والسعودية، بشكل أخف. استطاعت الأنظمة في الخليج احتواءها في كل من عُمان والسعودية بهدوء تارة وبالعنف في البحرين والسعودية أيضا تارة أخرى.

وتأسس على إثر تلك الموجات نادٍ مناهض تحت عنوان الثورات المضادة، استطاع أن يخمد تلك الثورات بخطة وخلطة موحدة، كتبنا عنها مقالا بعنوان "خلطة كنتاكي الإماراتية.. هل تطيح بثورة تونس؟". ولا تزال تلك الخلطة يتم تحضيرها وتقديمها للشعوب في موجة الربيع العربي الثانية التي شملت السودان والجزائر والعراق، تلك الشعوب التي خرجت ثائرة وقدمت دماءها فداء للحرية والعدالة الاجتماعية وتداول سلمي للسلطة؛ في دولة قانون تحكمها الشفافية والمراقبة ومن ثم المحاسبة، ما يعني دولة مواطنة يشعر فيها المواطن بقيمته فيبذل وهو راضٍ ليقينه بأن الثمار إن لم تكن له فستكون لأولاده، لا لفصيل بعينه أيا كان رسمه وترسيمه.

تنوع النضال من أجل الحرية

خرجت الشعوب في الربيع العربي بصدورها العارية لتقابل بالرصاص في الأغلب وبالمطاطي في أضيق الحدود، لأن المليشيات القابضة على مقدرات بلادها لا تقبل بأن ينازعها أحد في قوتها، ومن ثم لا تقبل أن يحاسبها أحد. فتأديب من تجرأ قرار اتخذ، من بدء الخليقة، ولا يمكن التراجع عنه، وإثخان القتل مدعاة لإخافة العامة والانفراد فيما بعد بقادة أي حراك. وهناك من دفع لاتخاذ السلاح وسيلة للتغيير كما هو الحال في كل من سوريا وليبيا، وهي خيارات لا تشترى ولكن تدفع إليها الأنظمة الدموية.

وفي ظل تنامي نجاحات نادي الثورات المضادة اختارت بعض الشعوب خيارا سلميا آخر، وصولا للتغيير المنشود والأمل في دولة يحكمها القانون، مدفوعة بالمصلحة العامة في مستقبلها وتسعى لتحقيقه، فاختارت بعض الشعوب نموذج تشيلي في التغيير. فبعد أن قطع بينوشي بانقلابه التسلسل الزمني للحياة السياسية والحزبية في البلاد وعطل الدستور وما تبعه من اعتقال وقتل المعارضين للخطوة، أفرزت المعارضة شكلا جديدا للمقاومة السلمية تمثل في المقاومة من الداخل بهدف التغيير، فكان التحالف المدني بين الكنائس ونقابة العمال والحزب المسيحي والحزب اليساري، لتتكون جبهة لرفض تعديل الدستور وتمديد حكم بينوشي لثماني سنوات أخرى. فشل التحالف في وقف تمرير الدستور ومن ثم إيقاف مسيرة الدكتاتور، إلا أنه استطاع انتزاع وعد تم تضمينه في الدستور بالتحول الديمقراطي بعد ثماني سنوات، أي بعد انتهاء ولاية بينوشي. هذه الفترة كانت فترة عمل للأحزاب والنقابات لتهيئة المجتمع لجولة جديدة في معركة التحرر من النظام المليشياوي.

وعلى الرغم من أن بينوشي وضع قوانين مكبلة للعمل السياسي، مراهنا على عدم اتفاق التيارات المختلفة، استطاعت مختلف التيارات الاتحاد من أجل الخلاص من النظام القابع، واخترقت البرلمان وأصدرت تشريعات كان من شأنها تقليص صلاحيات بينوشي والطغمة الحاكمة من العسكريين، حتى انتهى الأمر بانتخاب رئيس مدني من المكونات السياسية، لتتحرر تشيلي من الحكم المليشياوي الجاثم على صدرها.

هذه التجربة الملهمة دفعت بعض الثوار للتحرك في هذا المضمار، لكن وكما أن الفيروسات تتحور، فقد تحورت الأنظمة المليشياوية لتقمع التجربة. 

بين القتل المعنوي والمادي تقف المليشيات

تتنوع أساليب القمع للأنظمة المليشياوية في عالمنا العربي للمعارضين، فالأنظمة المليشياوية لا تقبل بأي حال من الأحوال أي صوت معارض غير ذلك الذي صنعته مخابراتها أو مخابرات الدول التابعة أو الداعمة لها، فلا تسقط أنظمة بها معارضة من جدول تصنيف الأنظمة المليشياوية، ولا تغتر بذلك الصوت الذي يصرخ في ميكروفون إذاعة أو تلفزيون منددا بواقعة ما، أو قرار ما، ولا تظن أن هذا النائب الذي تم اختياره على عين الأجهزة الأمنية في تلك الأنظمة يمكن أن يمثل صوت الشعب الحقيقي، ولو فلتت في ذلك أصوات آحاد في بعض البلدان، ذلك أن خطة تجفيف المنابع من ثوابت الأنظمة القمعية.

لذا، فإن محاولات النضال السياسي عبر منظمات المجتمع المدني أو المؤسسات الدستورية تخضع أيضا لعمليات قمع شديدة لتئد أي محاولة يمكن من خلالها اختراق المنظومة. فالسماح لمجموعة مؤثرة بالدخول للمؤسسات الدستورية هو أمر من المستبعدات لكنه ليس من المستحيلات، ولنا في تحالف الأمل في مصر المثال، وهو تحالف لمن لا يعرف، مكون من مجموعة من الثوار في ثورة 25 يناير وغيرهم ممن يؤمنون بمبادئ ثورة يناير، عملوا على تنظيم الصفوف للاستعداد لخوض الانتخابات التشريعية في مصر عام 2020، في محاولة لوقف النزيف السياسي والاقتصادي والاستراتيجي الذي تعيشه مصر تحت حكم نظام 3 يوليو.

وعلى الرغم من أن أعضاء التحالف كانوا قد انقلبوا على مكتسبات الثورة ومهدوا للانقلاب من خلال الدعوة لإسقاط الرئيس المنتخب، إلا أن النظام الحالي لم يرحمهم، واعتقل أبرز رموز التحالف وأدرجهم على قوائم الإرهاب.

ولعل المثل الثاني من أم الدنيا هو النائب أحمد طنطاوي الذي شارك أيضا في ثورة يناير، ولما أبدى جسارة في المساهمة في إسقاط الرئيس المنتخب بعد الثورة وانقلب عليها مررته الأجهزة الأمنية إلى البرلمان، لكن الرجل ظن ما لم يكن يعرف وعارض، وكان جل معارضته حين تنازل النظام عن الجزيرتين المصريتين في البحر الأحمر للسعودية، فتمت مهاجمته إعلاميا وبرلمانيا قبل إسقاطه في الدورة التالية، ليلاحق فيما بعد وليحارب طواحين الهواء عبر فيسبوك وتويتر على استحياء الآن، بعد أن تم تهديده وهو من جهته فهم الرسالة.

وفي العراق كان اغتيال إيهاب الوزني رسالة سبقتها رسائل عدة للناشطين وثوار تشرين، لكن رسالة اغتيال الوزني، الذي قرر خوض الانتخابات التشريعية في العراق كوسيلة إبداعية لاستكمال النضال الثوري الذي بدأه مع ثورة تشرين، كافية لكل التجمعات الثورية التي اختارت أن تجرب الولوج إلى جحر الضب، ولمن لم يع الرسالة كان تفجير منزل حسين الغرابي، أبرز ناشطي التظاهرات في ذي قار ومؤسس حزب البيت العراقي، كرسالة تأكيدية على أن العصبة الحاكمة في العراق ومليشياتها وأجندتها لن تقبل بغريب في بيتها. فالمنظومة أغلقت على نفسها الباب وتعيد تدوير الوجوه لكي لا يمل المشاهد، غير مدركة أن المشاهد قال رأيه في تشرين 2020 وأغلق هذا المسلسل الممل وأصبح لا يشاهده، بل قرر أن يغيره.

لكن الشاهد من المثالين أن هذه الأنظمة لن تسمح بأي حال من الأحوال أن يتم التغيير بالطرق الدستورية، إذ أن هذا التعنت والقمع المعنوي والمادي من قبل تلك الأنظمة يدفع الشعوب إلى إسقاطها وإسقاط المنظومة الدستورية التي تختبئ وراءها لكسب شرعيتها. والوسائل في ذلك كثيرة، لكن علينا أولا أن نخوض معركة أهم من إسقاط تلك الأنظمة، وهي إسقاط تلك الشرعية المزيفة من قلوب وعقول العامة، وإسقاط هيبة تلك الأنظمة، وخلق وعي ثوري يدرك أهداف الوسائل والعصيان من أجل الثورة الشاملة، وتدريب الشعوب على ممارسة هذه الوسائل وخرطهم فيها، وإلا سيصدق علينا قول محمد رشيد رضا: "الثائر لأجل مجتمع جاهل، هو شخص أضرم النيران بجسده كي يضيء الطريق لشخص ضرير".