سياسة دولية

لماذا رفضت لندن نوايا عبد الناصر إقامة دولة فلسطينية بغزة.. ما علاقة الأردن؟

لندن اعتبرت إعلان دولة في غزة خطوة "خطيرة ومتطرفة" وقد يؤثر على حكم الملك حسين
لندن اعتبرت إعلان دولة في غزة خطوة "خطيرة ومتطرفة" وقد يؤثر على حكم الملك حسين
كشفت وثائق بريطانية أن لندن كانت أكثر قلقا حتى من "إسرائيل" والأردن بنوايا الزعيم المصري جمال عبد الناصر بشأن مساعدة الفلسطينيين على إقامة دولتهم انطلاقا من قطاع غزة، بعد عام من فشل الحرب الثلاثية الإسرائيلية البريطانية الفرنسية على مصر في عام 1956.

وتشير الوثائق إلى أن لندن اعتبرت إعلان دولة في غزة خطوة "خطيرة ومتطرفة"، ما دفعها للسعي لإقناع الأمم المتحدة بالضغط على الزعيم المصري كي لا يقدم عليها، بحسب تقرير بموقع "بي بي سي".

في 16 مارس/ آذار عام 1958، أعلنت مصر تشكيل مجلس تشريعي منتخب أطلقت عليه "مجلس فلسطين التشريعي"، وآخر تنفيذي للفلسطينيين في القطاع..

ورأس المجلس التنفيذي، المؤلف من 10 أعضاء، اللواء حسن عبد اللطيف، باعتباره الحاكم العسكري المصري لقطاع غزة. وضم المجلس التشريعي 30 عضوا هم: كل أعضاء المجلس التنفيذي الـ 10، وعمدة غزة، وأعضاء مجلسها المحلي، وممثلون عن مجلس اللاجئين ونقابات العمال والمهنيين، إضافة إلى 10 مصريين.

اظهار أخبار متعلقة


وما زاد من انزعاج بريطانيا إدخال مصر ثلاث سرايا من القوات الفلسطينية بأسلحة خفيفة إلى غزة للإشراف على الانتخابات.

وتكشف الوثائق أن وزارة الخارجية البريطانية تلقت معلومات تؤكد "استدعاء مصر كل الزعماء الفلسطينيين الكبار والصغار؛ لمناقشة نهج عمل ناصر المستقبلي المحتمل" و"خطة ناصر إقامة دولة فلسطينية منفصلة في غزة" بقيادة الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس.

وأبلغت بلجيكا بريطانيا، بناء على تقرير للسفارة البلجيكية في القاهرة، أن هذا إن تم "سيكون ناقوسا يؤذن بموت (نظام) الملك حسين"، عاهل الأردن.

ووفق برقية للسفارة البريطانية في القاهرة، فإن القائم بأعمال رئيس قسم فلسطين في وزارة الخارجية المصرية أبلغ السفارة الأمريكية في القاهرة أن تشكيل المجلس التشريعي الفلسطيني لغزة "هدفه فقط هو تنفيذ بنود معينة في تشريع سُن في مصر عام 1955 ولم يطبق حتى الآن"، وأن قطاع غزة "سيظل تحت إدارة وزارة الحربية" المصرية.

غير أن لجنة المخابرات المشتركة البريطانية لم تطمئن إلى نوايا ناصر، ولم تر ما يحول دون إقدامه على مساعدة سكان غزة في إقامة دولة في القطاع، قد تنضم إليها الضفة الغربية لاحقا، ثم تتحد الدولة الفلسطينية المحتملة مع مصر.

وحسب تقرير صُنف على أنه بالغ السرية، رأت اللجنة أنه "ليس هناك عائق جدي لمثل هذه العملية". وساق التقرير المبررات التالية:

أولا : غزة ليست الآن جزءًا من أي دولة، وقاطنوها أشخاص بلا دولة.

ثانيا: اتفاق الهدنة بين "إسرائيل" ومصر يقول فقط إنه "لن تتحقق أي منفعة عسكرية أو سياسية من الهدنة"، أي أنه ليس به ما يشير إلى منع إقدام الفلسطينيين على إقامة دولة حسب قرار التقسيم الصادر على الأمم المتحدة، الذي استند إليه إعلان إنشاء "إسرائيل".

ثالثا: الأردن ضم رسميا الضفة الغربية قبل عشر سنوات، ونحن (أي البريطانيون) اعترفنا بشرعية ذلك.

رابعا: إذا اختارت أي هيئة ممثلة في غزة الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر)، فلن يكون من السهل الاعتراض عليه على أسس قانونية.

خامسا: لن يكون هناك حتى أي سبب لأن تعترض الأمم المتحدة شريطة اتفاق الأمين للمنظمة مع مصر على الحفاظ على قوة الطوارئ الدولية (التي تشكلت لمراقبة الوضع بعد انسحاب "إسرائيل" من القطاع بعد حرب 1956).

ونبه التقرير الاستخباراتي إلى أن ناصر "لم يحاول حتى الآن ضم قطاع غزة على الأرجح؛ لأنه لا يرغب في أن يتولى رسميا مسؤولية الـ 200.000 لاجئ هناك". غير أنه أضاف أن الاعتراض على تولي هذه المسؤولية "لن يكون قائما بالقوة نفسها في حال انضمام دولة فلسطينية إلى الجمهورية العربية المتحدة".

ولفت التقرير إلى أن "الشيء الوحيد الذي يجعل ناصر يتردد هو الخوف من استفزاز إسرائيل". إلا أنه رجح، في الوقت نفسه، أن تقدم مصر على إعلان دولة فلسطينية في غزة، في ضوء أن "فوائد هذا لناصر واضحة بما فيه الكفاية"، وأنه "لا يبدو أن هناك الكثير يمكننا فعله لمنع هذا".

ونصح بضرورة إثارة الأمر مع داغ همرشيلد، أمين عام الأمم المتحدة.

اظهار أخبار متعلقة


ناصر و "الجمهورية الجديدة"
ولفتت لجنة الاستخبارات المشتركة انتباه المسؤولين البريطانيين إلى أن أحد أغراض ناصر هو "زعزعة الاتحاد العربي (الذي كان قائما بين الأردن والعراق في ذاك الوقت) عن طريق خلق بؤرة اهتمام بديلة للفلسطينيين الأردنيين. وأضافت أنه إذا رافق هذا مظاهرات واضطرابات في الضفة الغربية، فإن هذا سيثير مشكلة أمنية خطيرة للحكومة الأردنية".

وبعد انتهاء تشكيل المجلسين في غزة دون إعلان دولة فلسطينية، طلبت الخارجية البريطانية من سفرائها في الأردن و"إسرائيل" والأمم المتحدة، كل من موقعه، استكشاف المواقف من خطوة ناصر التي ظلت بريطانيا تخشاها.

وقال ويليام هيتر، نائب الأمين العام لوزارة الخارجية البريطانية للشؤون السياسية، إن التقارير تتحدث عن أن المجلس التشريعي في قطاع غزة قد يسلك أحد طريقين، أولهما "الاندماج في الجمهورية العربية المتحدة"، وثانيهما "أن يشكل هو نفسه دولة فلسطينية مستقلة تنضم بدورها إلى الجمهورية العربية المتحدة".

وكان في تقدير هيتر أنه "في أي من الحالتين، فإن الهدفين هما بوضوح "إعطاء دفعة لجمهورية ناصر الجديدة" و"خلق بؤرة اهتمام بديلة للضفة الغربية بالأردن، وأقل ما يمكن أن يؤدي إليه هو خلق مشكلة أمنية خطيرة للحكم الأردني".

ونبهت الرسالة إلى أنه رغم أنه "لم تجر محاولة لإقامة حكومة فلسطينية" في غزة، فإن الحاكم العسكري المصري "عبر في افتتاح المجلس التشريعي عن الأمل في أن يحضر ممثلون عن مناطق فلسطين الأخرى (جلسات المجلس)".

وأكدت الرسالة على أنه "ليس هناك مما نراه عقبة حاسمة تحول دون إقدام ناصر على هذه العملية".

وخلصت إلى أنه رغم أن شيئا لم يحدث بشأن إقامة دولة فلسطينية حتى الآن، فإنه "لا يزال ينبغي علينا أن نحسب حسابا لهذا الاحتمال، ونحاول النظر إن كان هناك أي شيء يمكننا عمله بشأنه، من عدمه". وأصر هيتر على أنه "لا يمكننا أن نستبعد كلية هذ الخطوة" في ظل "مزاياها الواضحة لناصر".

وقال السفير البريطاني في "تل أبيب"، سير فرنسيس رندل، إن الإسرائيليين "يلتزمون حالة الترقب الصامت" بشأن موضوع الدولة الفلسطينية المحتملة.

وأشار، في تقرير إلى لندن، إلى أن الحكومة الإسرائيلية "أعطت على الأرجح تعليما للصحف بأن تقلل من شأن التطورات" في غزة، واعتبارها "غير ذات أهمية رئيسية لإسرائيل". إلا أنه أضاف أنه "لا شك في أنهم (الإسرائيليين) "أكثر حرصا على ضرورة ألا يحدث تغيير جذري في الوضع القائم" في القطاع.

وقدّر السفير بأن "إسرائيل" لن تلجأ إلى السلاح في الظروف الحالية، وأرجع هذا إلى سببين رئيسيين؛ أولهما أن "إسرائيل تدرك أن أساس قضيتها القانونية (ضد إقامة دولة فلسطينية في غزة) ضعيف".

وأبلغ السفير حكومته أن مسؤولا صغيرا في وزارة الخارجية الإسرائيلي "اعترف لأحد الدبلوماسيين في السفارة بهذا". والسبب الثاني هو أن "إسرائيل سوف تنظر إلى خطوة ناصر المحتملة على أنها موجهة بالدرجة الأولى إلى الأردن وليس إليها".

وقال السفير إن المسؤول الإسرائيلي، ويدعى ولتر إيتان، أبلغه أن وجهة نظر حكومته هي أن قضايا "التعامل مع الأردن والعراق، والتخريب في السعودية، والوضع في لبنان، تأتي على رأس جدول أعمال ناصر"، أما مواجهة "إسرائيل فهي المهمة الأصعب".

اظهار أخبار متعلقة


وعزز السفير هذا التقييم، بالإفادة بأن الملحق العسكري في السفارة البريطانية "تكوّن لديه الانطباع نفسه" بعد لقائه أخيرا بمدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الذي "رفض أن يُجرّ إلى الحديث عن رد فعل إسرائيل المرجح على قيام دولة في غزة". ونقل عنه قوله إن إنشاءها "سيكون موجها إلى الأردن وليس إسرائيل"، واعتبار حشد القوات المصرية في سيناء في ذلك الوقت "استعراضا دعائيا".

وخلص السفير إلى أن "إسرائيل" ستراعي قبل كل شيء تأثير إنشاء دولة فلسطينية في غزة على الأردن. وقال: "إذا أعلنت دولة منفصلة واندمجت مع الجمهورية العربية المتحدة في ظل ظروف تشير إلى أن (الملك) حسين سيكون عاجزا عن منع الوضع في الضفة الغربية من التدهور، فإنه ربما يعود الإسرائيليون إلى غزة أو يوسعون وجودهم إلى الضفة الغربية نفسها لمنع حدوث هذا".

وختم بأنه يعتقد بأن الإسرائيليين "سوف يلجؤون للعمل العسكري فقط كخيار أخير"، إذا بدا أن خطوة ناصر المحتملة "سوف تنجح على الأرجح في الإطاحة بالملك حسين".

وفيما يتعلق بالأردن، فإن السفارة الإسرائيلية في لندن أبلغت وزارة الخارجية البريطانية أن تقارير الاستخبارات الإسرائيلية الواردة من الضفة الغربية بالأردن أشارت إلى أن إنشاء المجلسين التنفيذي والتشريعي في غزة "لهما تأثير ضئيل للغاية على الرأي العام بين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن".

وقد أثار سير تشارلز جونستون، السفير البريطاني في الأردن، الموضوع مع الملك حسين ورئيس وزرائه سمير الرفاعي، كل على حده، وتبين له أنهما "غير عابئين تماما باحتمال" قيام دولة فلسطينية في غزة واندماجها مع مصر.

وقال الملك للسفير إنه "يعتقد أن تأثير مثل هذه الخطوة على الرأي العام في الضفة الغربية سيكون أقل من أن يذكر عمليا". وأضاف الملك أن ناصر والحاج أمين "على خلاف علني الآن"، وأن نتيجة هذا هو أن "الاثنين خسرا كثيرا من الأرضية في الضفة الغربية أخيرا".

خطوة " خطيرة"
ووفق تقييم السفير، فإن الملك ومستشاريه "لا يزالون يسيطرون سيطرة كاملة على الوضع في الضفة الغربية وغيرها".

ولفت الانتباه إلى أن قرار الحكومة الأردنية إطلاق سراح دفعتين كبيرتين من المعتقلين السياسيين "ليس فقط دليل ثقة لدى الحكومة، ولكنه يشير إلى تحسين حقيقي في الوضع".

وفي رسالة بالغة السرية، طلبت إدارة الشام في وزارة الخارجية البريطانية من بيرسون ديكسن، مندوب بريطانيا لدى الأمم المتحدة، بحث المسألة مع داغ همرشلد أمين عام المنظمة، قبل زيارة مرتقبة له إلى لندن.

وقالت الرسالة إن "الأمر يستحق إقناع السيد همرشلد بأن يوضح لناصر خطر إقدامه على مبادرة جريئة بهذا الشأن". وأشارت الرسالة إلى أنه "ربما يؤدي خوف ناصر من استفزاز إسرائيل إلى أن يتمهل في الإقدام على هذا "التطور المستفز"، كما قد "تقلل إسرائيل في الوقت الحالي من مثل هذا الأمر".

غير أن الرسالة استدركت بالقول إنه إن لم تفعل "إسرائيل" هذا، فإن "العامل الوحيد الآخر المرجح أن يكون له تأثير على ناصر هو الضغط المعنوي والسياسي الذي تمثله الأمم المتحدة".

اظهار أخبار متعلقة


ولخصت الرسالة رؤية بريطانيا، المطلوب عرضها، في النقاط الأربع التالية:

أولا: لم تعلن دولة فلسطينية بعد، كما توقعنا، ولكن إقدام ناصر على مثل هذه الخطوة أمر لا يزال متاحا له في أي وقت.

ثانيا: إن فعل ناصر هذا سوف يؤدي إلى اشتداد التوتر في الشرق الأوسط.

ثالثا: قد تتأثر قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة.

رابعا: لذا، فإننا نرحب بأن يتصل السيد همرشلد بالحكومة المصرية ليوضح أنه ينبغي عليها أو على ممثليها في غزة الإحجام عن مثل هذه الخطوة "الخطيرة المتطرفة".

لم يستطع السفير لقاء همرشلد في نيويورك. إلا أن المسؤول الدولي أبلغ وزير الخارجية البريطاني سلويد لويد في لندن بأنه أرسل رسالة إلى محمود فوزي وزير الخارجية المصري، تتضمن "خطوطا لا تختلف عما تريده بريطانيا"، مشيرا إلى أنه "نظرا لأن المصريين ليس لهم حقوق في غزة، بل فقط مجرد السيطرة الإدارية بحكم الأمر الواقع، فإنه لا يمكنهم نقل الحقوق إلى هيئة جديدة".

وعندما سئل السفير البريطاني لدى الأردن عن رأيه فيما قاله همرشلد، اعتبر أن كلام الأمين العام للأمم المتحدة للمصريين "ضعيف". غير أنه رأى أن "وجهات نظر همرشلد من المرجح أن يكون لها تأثير جيد لدى عبد الناصر".

التعليقات (0)