كتب

الإخوان المسلمون بالأردن.. دراسة تاريخية وتحليلية ونقد ذاتي

الجزء الأول من كتاب الجركة الإسلامية في الأردن
ليس أقدر على كتابة تاريخ الجماعات والحركات والأحزاب من رموزها وقادتها وأعضائها الفاعلين، فهم الذين عايشوا مسيرتها عن قرب، وساهموا في صنعها وكانوا جزءا أساسيا منها، مع معرفتهم الوثيقة والدقيقة بخلفيات تلك الأحداث والوقائع، واطلاعهم التام على اتجاهات تلك القوى وتوجهاتها بحكم المعايشة الدائمة.

وإذا ما أضيف إلى تأريخ تلك الأحداث والوقائع، نفس تحليلي يحلل الأحداث ويعللها ويربط بعضها ببعض، ويقدم تفسيرات للغامض منها، ويجتهد في استكشاف وإبراز ما يُكمل الناقص من وقائعها المهمة، فإن ذلك الإنتاج يكون جامعا بين التأريخ الموثق، والتحليل المعمق، بحسب رؤية من يتصدى لتلك المهمة الشاقة.

وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فقد ارتاد مؤلفه سالم الفلاحات، المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، ميدانا ثالثا إضافة للميدانين السابقين، ألا وهو النقد الذاتي الذي عالج فيه بجرأة مواطن الخلل والقصور التي اعترت مسيرة الجماعة في الأردن، وكشف فيه عن المعوقات الذاتية، التي ساهمت بقدر كبير فيما آلت إليه أوضاع الجماعة مؤخرا من الانقسام والتشظي وتراجع حضورها وتأثيرها في المجتمع الأردني.

يقف قارئ كتاب "الحركة الإسلامية في الأردن، الإخوان المسلمون.. دراسة تاريخية وتحليلية ونقد ذاتي" الصادر حديثا بمجلديه عن دار عمار في العاصمة الأردنية عمان، على وجوه كثيرة من ممارسة المؤلف سالم الفلاحات للنقد الذاتي، وتطبيق ما يلحّ كثيرا في الدعوة إليه من ضرورة القيام بمراجعات جادة داخل أروقة الحركة الإسلامية، لأن تلك الممارسة كفيلة بمعالجة المعوقات الذاتية، وقمينة بمحاصرة مظاهر الخلل والقصور الذاتي في صفوف الجماعة. 

وإبرازا لمنهج النقد الذاتي الذي سلكه في كتابته ومعالجته، أكدّ الفلاحات في مقدمة كتابه على "أن السكوت عن الأخطاء وعدم معالجتها يجعلك تقيم على كومة من الأخطاء، ومن هنا كتبت ما عاينته وعانيت منه أحيانا، وكنت قريبا منه في الغالب، وأظن أنه محل عبرة حتى لو كان مؤلما أحيانا، فلا يصح أن يكرر العاملون في الحقل الإسلامي الخطأ نفسه، ويخسروا تجربة من سبقهم، وإن كان أي علاج لا بد أن فيه بعض المعاناة والمرارة والألم". 

نشأة الجماعة وطبيعة العلاقة مع النظام

عرض المؤلف لأبرز المحطات التاريخية التي مرت بها الجماعة منذ تأسيسها عام 1945م، ذاكرا أن الأردن الرسمي رحب بالجماعة، وحضر ممثل للملك عبد الله الأول حفل تأسيسها، وعرض الملك على حسن البنا أن يكون مبعوثه عبد الحكيم عابدين وزيرا في الحكومة الأردنية، وأن يعطي الأستاذ البنا لقب الباشاوية، وتمت بينهما مراسلات سياسية عديدة.
 
وعن طبيعة العلاقة بين الجماعة والنظام أوضح المؤلف أن التعايش بينهما هو العنوان الأبرز لتلك العلاقة، والذي كان كصورة شبه فريدة في العالم الإسلامي، وقد نقل عن النائب والوزير السابق الدكتور عبد الله العكايلة تحليله لعناصر ذلك التعايش بين الطرفين.

من أبرز عناصر التعايش تلك "إدراك الحركة الإسلامية ضعف إمكانات الدولة الأردنية واعتمادها على الدعم الاقتصادي الخارجي، وإدراك الحركة أن الأردن ليس له مقومات دولة إسلامية مما طمأن النظام، ومرونة النظام والحركة في أوقات الأزمات الحادة، واعتبار الحركة النظام الأردني أفضل من كل الأنظمة الأخرى التي بطشت في حكمها في المنطقة العربية". 

وفسر المؤلف حالة التعايش بين النظام والجماعة بصفة عامة بأن "المصالح المشتركة الطبيعية جمعت بين الإخوان المسلمين والنظام الأردني، حيث كانا مستهدفين من الأنظمة القومية العربية، وفي مقدمتها النظام المصري في عهد جمال عبد الناصر". 

لكن هذه العلاقة القائمة على التعايش دخلت مرحلة حادة جدا فيما بعد وفقا للمؤلف، والتي أرجعها إلى دخول المنطقة في شرَك الاتفاقيات الدولية النافذة (معاهدات السلام)، فأصبحت الشقة تسع بين موقف الجماعة والتزامات النظام، وبدأ التحول التدريجي السلبي في العلاقة بشكل أوضح بعد مؤتمر مدريد وأوسلو والاستعداد لوادي عربة، حيث اتسعت الشقة وأصبحت شرعية وجود الجماعة في خطر".

من المحطات التي تشير إلى تأزم العلاقة بين النظام والجماعة، والتي وصفها الفلاحات بـ"السياسة الانقلابية" في التعامل مع الجماعة في بداية ولايته كمراقب عام للجماعة (2006 ـ 2008 ) "وهو المحسوب على الجناح المعتدل والمتعقل- بحسب تعبير بعضهم"، اعتقال أربعة نواب من الحركة الإسلامية على خلفية زياراتهم لبيت عزاء أبي مصعب الزرقاوي، ومهاجمة رئيس الوزراء حينها معروف البخيت لقيادات الجماعة بشدة. 

وأرجع المؤلف تفسير ذلك إلى جملة أسباب من أبرزها: "تبني فكرة الملكية الدستورية والمشاركة فيها مع عدد من الوطنيين الأردنيين، وإنشاء علاقة إيجابية فاعلة مع "المسيحيين" بشكل عام، وإقامة علاقة مع فريق الصليب الأحمر الدولي في الأردن، والتمكن من تشكيل لجان مجتمعية مشتركة في قضايا عامة، وفضح التزوير الرسمي في الانتخابات البلدية والنيابية وما ترتب عليه من إيجابيات رغم مرارة التزوير". 

توقف المؤلف مطولا مع تجربة "حزب الوسط الإسلامي" والذي قام على تأسيسه "مجموعة من الإخوان الشباب المحتجين على سياسات الجماعة، ومعظمهم كان من شعبة السلط (مدينة أردنية).."، وكانوا يرون أن "المشروع الإخواني بعد مرور عدة عقود يحتاج إلى إعادة نظر، وأصبح غير واقعي ويحتاج إلى وسائل جديدة". 

وفي استقراء المؤلف لتلك التجربة، واستخلاص العبر والدروس منها، بعد مرور 15 عاما عليها، خلص إلى سريان "الشعور العميق والمتألم جدا بأنه قد تأصل في الجماعة منهج رفض قبول النقد، والشعور بأن طول الألفة مع الجماعة يورث الإحساس بقداستها تماما كقداسة الإسلام نفسه، واليأس من الإصلاح الداخلي للجماعة لأسباب كثيرة ذكرها المؤسسون، ومنها أن المراجعات حتى لو تمت فهي لا تناقش سوى المظاهر والنتائج ولا تذهب إلى الأسباب والأصل ويكتفي بذلك".

الإخوان وحزب جبهة العمل الإسلامي

خصص المؤلف  الباب الثالث من كتابه للحديث عن تجربة تأسيس حزب "جبهة العمل الإسلامي" بخلفياتها المؤسسة، ومساراتها الشائكة، مشيرا إلى أن "فكرته انبثقت بعد انتخابات المجلس النيابي الأردني الحادي عشر عام 1989م، وما دار حينذاك حول ضرورة عودة الحياة الحزبية، وتنظيم العمل السياسي من خلال أحزاب سياسية مرخصة".

وذكر المراقب العام السابق لجماعة الإخوان في الأردن أن "المكتب التنفيذي للجماعة كلف لجنة من الأخوة في قسم التخطيط لتقديم دراسة عن هذه الحالة المتوقعة، والتي أطلق عليها  فيما بعد "ورقة التخطيط"، وقد امتدحها المؤلف وأثنى عليها، لعمقها الفكري، وما تضمنته من بعد النظر في التخطيط لمستقبل العمل الإسلامي، وكيفية إدارته والمحافظة عليه".

ووفقا للمؤلف فإن "تأسيس الحزب كان لتشكيل جبهة تضم مختلف الطيف الإسلامي في الساحة الأردنية، ولا تقتصر على الإخوان، ولذا تمت دعوة المهندس عطا أبو الرشتة عن حزب التحرير، والقاضي مصطفى الرفاتي عن جماعة التبليغ، والشيخ حازم أبو غزالة عن الصوفية، ولكنهم اعتذروا بعد ذلك، وقالوا إن منهجهم في العمل يختلف عن هذا المشروع". 

وبيّن المؤلف أن الاتفاق في قيادة الجماعة عند تأسيس الحزب كان على النحو الآتي: "أن لا يشغل الإخوان ما يزيد على 60 بالمائة من المواقع القيادية في الحزب، وأن يستوعب الحزب جميع الإسلاميين الراغبين في العمل في إطار واسع، وأن يمكنوا من المشاركة في المواقع القيادية بحدود 40 بالمائة".

"تم ترخيص الحزب في 7-12-1992م، وبعد الانتخابات الأولى للحزب وجد معظم الإسلاميين المستقلين أنفسهم خارج المواقع القيادية في الحزب، وفسروا هذه الحالة بأن الإخوان خدعوهم واستخدموهم فقط لتمرير ترخيص الحزب ولذلك قدم عدد كبير منهم استقالاتهم من الحزب" طبقا للمؤلف.

وانتقد المؤلف تداخل الصلاحيات والمسؤوليات بين الجماعة والحزب، لافتا إلى أن من التحديات والمعيقات التي اعترضت مسيرة الحزب ـ وما زالت ـ إشكالية اتخاذ القرار بين الحزب والجماعة، وتفاوت حدة الخطاب الإعلامي والسياسي بين بعض القيادات ما يؤدي إلى مظنة وجود صقور وحمائم في القيادة. 

العلاقة بين التنظيمين الأردني والفلسطيني (حماس)

لعل من أشد الاختلافات ضراوة بين تيارات جماعة الإخوان في الأردن، طبيعة العلاقة بين تنظيم الإخوان الأردني، والتنظيم الفلسطيني (حماس)، وقد مرت تلك العلاقة بمحطات عديدة، أفضت إلى استقلالية التنظيم الفلسطيني، وإنشاء حركة حماس لتتولى مسؤولية العمل المباشر للقضية الفلسطينية، لكن الاختلافات لم تتوقف بعد ذلك حول طبيعة دور التنظيم الأردني في  خدمة القضية الفلسطينية، من غير أن يكون ذلك على حساب انشغاله وانخراطه في الهموم المحلية، والقضايا الوطنية الأردنية.

وبحسب استخلاصات المؤلف لما أورده من أحداث ووقائع وحيثيات حول العلاقة بين التنظيمين الأردني والفلسطيني فإن "تنظيم الإخوان في الأردن يعيش حيثيات القضية الفلسطينية، ويتفاعل معها بالتفصيل وهي قضيته الأولى".

وأكدّ الفلاحات أن "من أنجح مشروعات الحركة الإسلامية وأصدقها، مشروع حركة المقاومة الإسلامية حماس التي هي فوق الرأس فعلا، وللحركة اجتهاداتها ضمن ظروفها المعقدة والتآمر العالمي على فلسطين وأهلها". 

ورفض المؤلف تلك الاتهامات التي وجهت لبعض قيادات الجماعة من تيار الحمائم، بأنها عقدت صفقة مع الحكومة الأردنية لإبعاد قيادات حماس إلى خارج الأردن، وأرجعها إلى "تسريبات موجهة وقفت وراءها جهات مشبوهة"، كما أن "النقص في المعلومات، والركون إلى الانطباعات والتحليلات الوهمية، أنتج جوا من عدم الثقة بين قيادات الجماعة وأعضائها، وأنشأ بيئة فاسدة سمحت بالظنون السيئة أن تنتشر، دون اعتماد المنهج الإسلامي الصحيح في التثبت من الأحداث..". 

ونبه الفلاحات إلى ضرورة "التفريق بين الاعتراض على التداخلات التنظيمية بين مكونات الحركة الإسلامية، وبين الاشتراك في الهم والمسؤولية تجاه القضية المركزية (فلسطين)"، في إشارة واضحة منه إلى الاتفاق التام على ضرورة العمل المشترك لخدمة القضية الفلسطينية، مع الفصل بين الهياكل والترتيبات التنظيمية. 

مراجعات ونقد ذاتي

ما يلفت قارئ هذا الكتاب، تمدد نفس النقد الذاتي في غالب أبواب الكتاب ومباحثه، فالمؤلف الفلاحات وصل إلى قناعات حملته على ضرورة القيام بمراجعات معمقة لمسيرة العمل الإسلامي برمته، وسلوك مسلك النقد الذاتي كضرورة ملحة، للخروج من المأزق الخانق الذي تعيشه جماعة الإخوان المسلمين في الأردن الآن. 

وأبدى المؤلف امتعاضه الشديد من "الكولسات الداخلية" المتحكمة في اختيار القيادات، واشتكى مما أصابه جراء ذلك، خاصة بعد أن طلب المراقب العام السابق للجماعة، الدكتور همام سعيد منه قبول تولي منصب الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي، على غير رغبة منه في تولي المنصب، ثم فوجئ في الساعة السادسة من صباح يوم السبت 16-8-2014، وهو يوم اجتماع مجلس الشورى لانتخاب الأمين العام والمكتب التنفيذي باتصال أحد أعضاء المكتب التنفيذي ليقول له "إن الشباب اتفقوا على الأخ محمد الزيود (الأمين الحالي للحزب) ليكون أمينا عاما للحزب" بالطبع بدلا منه وهو المتفق عليه مسبقا.

وذكر المؤلف أنه قال لمن أخبره بقرار العزل: "الحمد لله فقد اختار الله لي الخير، سأسجد لله شكرا بعد إنهاء المكالمة معك، ولكن ما تفسير تصرفكم هذا وأنت عضو مكتب الجماعة، وتنقل قرار العزل هذا، ومن هم الشباب وما موقعهم؟ وكيف يتخذون قرارا قبل الإجماع؟ وقلت له بصراحة إنك فتان وترعى الفتنة، لقد دمرتم الجماعة والحزب بهذه العقلية". 

ووفقا للمؤلف فإن الإصلاح من داخل الجماعة بات متعذرا، خاصة في ميدان العمل السياسي، وهو ما دفعه ومجموعة من قيادات الجماعة إلى تقديم استقالاتهم من حزب جبهة العمل الإسلامي، والتوجه إلى تشكيل وإنشاء إطار حزبي جديد، تحت مسمى "الشراكة والإنقاذ"، يؤسس لعمل تشاركي يتسع لجميع أبناء الشعب الأردني، بعيدا عن الانتماءات الحزبية الضيقة.

وأورد المؤلف أن ما يقرب من (400) عضو من أعضاء الحزب قدموا استقالاتهم من عضوية الحزب بتاريخ 30-2-2015م، منوهين إلى أن "هذه الدفعة الأولى من المستقلين من الحزب وستتبعهم دفعات لاحقة في الأسابيع القادمة".

وأوضح البيان الصادر عن لجنة المتابعة لمبادرة الشركة والإنقاذ أن "الاستقالة جاءت بعد محاورات معمقة مع قيادة الحركة الإسلامية، وعلى مدى سنوات، وبعد تقديم عدة مبادرات كان آخرها مبادرة الشراكة والإنقاذ، وبعد أن وصلنا إلى قناعة بعدم توافر الإرادة لتحقيق الشراكة على قاعدة الكفاءة والمسؤولية، والسير في مشروع إنقاذ الحركة الإسلامية وإصلاحها، واختيار مسار آمن أو أقل كلفة نحو المستقبل".

ولقارئ الكتاب أن يستخلص أن ما يسعى المراقب السابق لجماعة الإخوان في الأردن، سالم الفلاحات إلى إشاعته وترسيخه هو "ضرورة الفصل التام بين العمل الدعوي والعمل السياسي، فقد ثبت أن شروط العمل في كليهما مختلفة، ويسع أحدهما ما لا يسع الآخر، ولكل منهما مؤهلات خاصة، ومواصفات محددة، ومناهج مميزة، ومواصفات قيادية خاصة حقيقة لا شكلا، وإن كان الجمع بينهما ممكنا في السابق فلم يعد كذلك الآن". 

كانت تلك أبرز الموضوعات والأفكار التي عالجها المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، سالم الفلاحات في الجزء الأول من كتابه الراصد لمسيرة الجماعة، وما اعترضها من معوقات وتحديات داخلية وخارجية.