كتب

تاريخية وعوامل تشكل مفهوم "أهل السنة والجماعة"

اشتد النزاع على تمثيل لقب "أهل السنة والجماعة" بين تيارين إسلاميين عريضين ـ أرشيفية
يكثر أهل السنة من تداول مصطلح "أهل السنة والجماعة"، تمييزا لأنفسهم عن الاتجاهات الإسلامية الأخرى، التي يدرجونها على قائمة الفرق الضالة والمنحرفة، لكن ثمة نزاعا شديدا بين أهل السنة أنفسهم على من يستحق ذلك اللقب، ليكون هو المؤتمن على أصوله العقائدية، والحارس لمقولاته الدينية الكلية.

وقد اشتد النزاع على تمثيل لقب "أهل السنة والجماعة" بين تيارين إسلاميين عريضين، أولهما: تيار الأشاعرة والماتريدية من جهة، وتيار أهل الحديث السلفية من جهة أخرى، فبينما يُصر الأشاعرة والماتريدية على أنهم هم "أهل السنة والجماعة"، يرفض السلفيون ذلك، لأنهم يعتقدون أنهم الأحق بهذا اللقب، لما يرونه في عقائدهم وأصولهم أنها تمثل الامتداد الطبيعي لما كان عليه السلف الصالح، في قرونهم الثلاثة المشهود لها بالخيرية.

في كتابه (موقف ابن تيمية من الأشاعرة)، يرى الأكاديمي الشرعي السعودي، الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود أن البحث عن نشأة مذهب أهل السنة وتاريخيته، "ينبغي أن ينصب على التسمية، أما النشأة ذاتها فواضحة، لأنها كانت مع مجيء الإسلام الذي وضح وكمل أتم كمال وأبينه في عهد الرسول، فمن جاء بعده إذا قيل عنه: إنه إمام أهل السنة في زمنه أو بعد زمنه فلأنه دعا إلى الأصول الأولى لمذهب أهل السنة، وجدد ما اندرس منها".

نشأة التسمية والفُرُقْ
ويلفت المحمود إلى أن "بدء التسمية مرتبط بنشأة الفرق، لأن من الطبيعي أن يتميز أهل السنة عن بقية أهل الأهواء من أهل الفرق الذين انحرفوا عن المنهج السوي والذين ابتدعوا أقوالا وآراء مخالفة لما كان عليه أهل الصدر الأول.

 ووفقا للمؤلف فإن "الفتنة وقعت في آخر عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان من آثارها استشهاده، ثم نشأت على أثر ذلك الفرق، وكانت أول بدعة نشأت هي بدعة الخوارج والروافض، فالخوارج كفروا عليا ـ رضي الله عنه ـ وخرجوا عليه، والروافض ادعوا إمامته وعصمته...".

وتابع المحمود سرده لتاريخية ظهور الفرق بقوله "ثم بعد ذلك أخذت البدع تتوالى في الظهور فلما كان آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في  أول عصر التابعين، في أواخر الخلافة الأموية، حدثت بدعة الجهمية والمشبهة والممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك".

وبحسب الكتاب فقد كانت "بدعتا الروافض والخوارج، من أول البدع ظهورا، وكانتا من المعالم الرئيسة في تميز أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث، ففي أجواء هذه الفتنة بدأ المسلمون يعنون بالبحث عن الإسناد، والكلام في الرجال، وذلك لأن السلف خافوا من الكذب على رسول الله، خاصة وأن دواعي ذلك موجودة في مثل هذه الظروف، روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".

في تلك المرحلة "بدأ التميز لأهل السنة والجماعة، وذلك بتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل، فمن كان من أهل السنة والاتباع، ولم يقل بقول طائفة من الطوائف المنحرفة بل ثبت على الهدى الصحيح، هدى الصحابة والتابعين، فهذا له تميز عند علماء الحديث، وروايته مقبولة مع الاعتراف بتفاوت الرجال الذين لهم هذه الصفة من ناحية الحفظ والضبط، وأما من كان من أهل البدعة فروايته مردودة إلا بشروط دقيقة".

ونظرا لأن "مذهب أهل السنة والجماعة هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه" طبقا لتقريرات المؤلف، فإن إطلاق القول بنشأة أهل السنة كما يقال نشأة المعتزلة، أو الجهمية أو الرافضة، لا معنى له، لأنه واضح تمام الوضوح، ثم يبين المؤلف أنه بهذا الاعتبار اختار أن يكون العنوان: نشأة التسمية بأهل السنة والجماعة كمصطلح عليهم، ناقلا عن ابن تيمية قوله "ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم، معروف، قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم".

ولاحظ المؤلف أن "المتتبع لنشأة التسمية بأهل السنة، يلاحظ أنها رُبطت بالإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وليس ذلك لأن الإمام أحمد هو الذي أنشأه، وإنما لأنه هو الإمام الذي امتحن فيه فصبر فصار إماما من أئمة أهل السنة، ثم ينقل عن ابن تيمية قوله: "وأحمد بن حنبل وإن كان قد أشتهر بإمامة السنة، والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة..".

تنازع الأشاعرة  والسلفيين
في سياق بحثه عمن يستحق هذا اللقب، أشار المحمود إلى "أن هناك خلطا في تحديد مذهب السلف، أهل السنة والجماعة، ومجمل اعتقادهم الذي يميزهم عن غيرهم من أهل البدع والأهواء، ومن المعلوم أن مذهب الأشاعرة قد اشتهر بين كثير من الناس على أنه هو مذهب أهل السنة والجماعة، وأن اعتقادهم يمثل اعتقاد السلف، ومن المؤسف أن هذا المفهوم سائد إلى الآن في كثير من البلاد الإسلامية" على حد قول المؤلف.

وطبقا للكتاب فإن "من أبرز العلماء الذين عملوا، بشكل قوي ومركز وشامل، على بيان الحق في ذلك، وتمييز مذهب السلف عما يدعيه هؤلاء: شيخ الإسلام ابن تيمية"، فالمؤلف يقرر بشكل مباشر وبوضوح تام أن مذهب الأشاعرة مخالف لمذهب السلف الصالح، الذي اشتغل على تمييزه بشكل مركز وشامل ابن تيمية في مجموع كتبه وتقريراته ومناقشاته ومناظرته للأشاعرة وغيرهم من الاتجاهات الإسلامية الأخرى.

وأوضح المؤلف "أن مذهب الأشاعرة قد انتشر في العالم الإسلامي، قبل ابن تيمية، وقد حدثت له عدة تطورات قربته كثيرا من المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة، ولم يأت عهد ابن تيمية إلا وقد بلغ أوجه في التطور والانتشار بعد الجهود الكبيرة التي قام بها علماء كبار من هذا المذهب كالغزالي والرازي وغيرهما.." واستنادا إلى الكتاب فإن ابن تيمية هو الذي تولى الدفاع عن مذهب أهل السنة والجماعة، بإظهار عقائدهم الصحيحة، وإبراز مناهج الاستدلال لديهم، والرد على انحرافات الأشاعرة في العقيدة، وتلبيسهم على الناس أنهم "أهل السنة والجماعة".

ولئن كان المؤلف المحمود قد بحث القضايا وقررها في كتابه انطلاقا من انتمائه السلفي، خاصة قصره لمسمى أهل السنة والجماعة على السلفية، وإخراج الأشاعرة منه، فإن أحد أعلام الأشاعرة المعاصرين في سوريا، ألا وهو الدكتور  محمد حسن هيتو، أبدى استغرابه الشديد من سؤال وجه إليه يقول: هل يُعتبر الأشاعرة من أهل السنة والجماعة؟.

جاء جواب هيتو في الكتاب المعنون بـ"أهل السنة الأشاعرة.. شهادة علماء الأمة وأدلتهم" الذي جمعه وأعده كل من: حمد السنان وفوزي العنجري، وذكر هيتو في جوابه أن صيغة السؤال السابق استوقفته طويلا، إذ وجدها "فارغة من معنى السؤال العلمي الصحيح، مما يدل على سذاجة السائل وجهله بتاريخ هذه الأمة وعقيدتها، وذلك أن ما يعرفه كل من شم للعلم رائحة، على مدى تاريخ أمتنا الطويل هو أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، وأنه إذا أطلقت كلمة أهل السنة في كتب العلم ـ على اختلاف أنواعها ـ فإنهم هم الذين يرادون بها.

وأضاف هيتو "وذلك أن الأشاعرة هم الذين وقفوا في وجه المعتزلة، فزيفوا أقوالهم، وأبطلوا شبههم، وأعادوا الحق إلى نصابه على طريق سلف هذه الأمة ومنهجهم، والإمام أبو الحسن الأشعري لم يؤسس في الإسلام مذهبا جديدا في العقيدة، يخالف مذهب سلف هذه الأمة، وإنما هداه الله تعالى لالتزام مذهب أهل السنة بعد أن أمضى أربعين سنة من حياته على مذاهب الاعتزال، عرف من خلالها حقيقة مذهبهم، وتمرس بفنونهم وأساليبهم في الجدال، والنقاش.. مما مكنه من الرد عليهم، وإبطال شبههم".
 
وقال هيتو "وعقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري التي سار عليها هي عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة وأصحابه، وهي عقيدة السلف الصالح، كما نص على ذلك أئمة أهل العلم ممن سار على هذه العقيدة، على كر العصور ومر الدهور.

وبناء على ما سبق فإن الدكتور الأشعري هيتو قرر أن الصواب في السؤال أن يقول السائل: "من يدخل مع الأشاعرة في أهل السنة والجماعة"؟ ليجيب عن ذلك بقوله: "والجواب على هذا: أنه يدخل معهم كل من سار على نهجهم، وسلك سبيلهم، وإن وقع شيء من الخلاف في بعض المسائل بينهم، فالماتريدية من أهل السنة، والأثريون من أهل السنة، إلا أن الذي ظهر من أهل السنة ومَثَّلهم في كتب العلم هم الأشاعرة، ولذلك كانت كلمة أهل السنة إذا أطلقت انصرفت في الغالب إليهم".

وتابع هيتو "على أن جمهور أهل السنة منهم، فالمالكية كلهم أشاعرة.. والشافعية كلهم أشاعرة.. والحنفية كلهم أشاعرة أو ماتريدية ولا خلاف بينهم.. وجملة كبيرة من أئمة الحنابلة المتقدمين من الأشاعرة..".

ليس صحيحا القول بأن الخلافات العقائدية بين تيارات أهل السنة باتت من الماضي، وأنها خلافات بائدة، لما لها من حضور قوي في واقع المسلمين، وسلطة حاكمة على كثير من شيوخها ورموزها وأتباعها، لكن الخلاف الأكبر الذي سيبقى قائما، هو النزاع الشديد على من يمثل أهل السنة والجماعة، مع ما يصاحب ذلك من سلوكيات ناشزة ومنفرة، كتضليل المخالف وتبديعه، واحتكار حق إدخال الناس في مسمى أهل السنة والجماعة وإخراجهم منه.