كتاب عربي 21

من مراجعات حركة النهضة: حذار من الهيمنة على الدولة

1300x600
أدركت قيادة حركة النهضة أنه لا يمكن التوجه نحو عقد مؤتمرها العاشر دون أن تدخل على وثائقها المرجعية عديد المراجعات الهامة. فما مرت به من تحولات وتجارب خلال السنوات الخمس الماضية أثر كثيرا على أوضاعها وبنيتها الداخلية، وجعلها ترتكب أخطاء كبيرة كما تحقق في المقابل مكاسب حزبية لا يستهان بها.

كما أنها تجنبت عن قصد منذ عودتها إلى المجال العام القيام بتقييم جدي وعميق للمرحلة الطويلة التي سبقت الثورة التونسية، والتي كادت أن تجعلها مهددة بالانقراض بسبب مواقف تم اتخاذها في سياق الصراع المفتوح والشامل مع نظام بن علي، وهو الصراع الذي لم نتائجه في صالح الحركة وكانت كلفته الإنسانية كارثية.

وبما أن المؤتمر القادم سيكون حاسما ومحددا لمستقبل الحركة واختبارا لمدى قدرتها على الحفاظ على وحدتها وتجديد مفاهيمها ورؤاها، فقد أقدمت على عملية استباقية عدلت من خلالها بعضا من مواقفها وجزء أساسيا من منهجية عملها وتفكيرها.

ما يحسب في الورقات التي أعدتها "لجنة الإعداد المضموني للمؤتمر" أنها تضمنت اعتراف الحركة بعديد السلبيات والأخطاء التي ارتكبتها خلال المرحلة السابقة. ويدل ذلك على المناقشات الساخنة التي كانت تندلع داخل هياكل الحركة كلما فتح المجال لممارسة النقد الذاتي، والتي كانت تتسبب في انسحاب العشرات أو المئات من أعضاء الحركة قبل أن تأت الثورة فتضع حدا لذلك النزيف، وتوفر فرصة هامة لإعادة توحيد الصفوف وتجديد التعبئة العامة.

تناولت اعترافات الحركة جوانب أساسية متعددة تراوحت بين الفكري والسياسي والتنظيمي. وسنتوقف في هذا العرض عند الحالة الخاصة بانتقالها من وضعية المعارضة التائهة في الصحراء إلى وضعية الحزب الماسك بالسلطة والذي يدير شؤون الدولة. وهي تجربة هامة وصعبة استهلكت ولا تزال كل الحركات والأحزاب التي مرت بها.

ورد في الوثيقة إشارة إلى "خطأ الظهور كحركة مؤهلة للحكم مع ضبابية البرامج التي تقدم الحلول العملية لمشاكل البلاد، ويزداد هذا التحدي حدة بقدر توغلها في العمل السياسي". وتحيل هذه النقطة إلى حالة الحماس والاندفاع الذين ولدهما الإعلان عن نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي كشفت عن تقدم الحركة من حيث عدد المقاعد التي حصلت عليها مقارنة ببقية الأحزاب المنافسة.

ومن شدة هذا الحماس تورط الأمين العام لحركة النهضة في ذلك الوقت حمادي الجبالي الذي سيصبح رئيس حكومة الترويكا، حين خاطب أنصاره معلقا على تلك النتائج بالقول أن ما حدث هو بمثابة "الخلافة السادسة".

وحتى تتمكن الحركة من قيادة الائتلاف الحكومي قامت على عجل بإعداد برنامج للحكم، لكن بينت الأحداث فيما بعد أن البرنامج الذي أعدته الحركة والذي كان يتضمن ثلاثمائة وخمس وستون مشروعا قد وضع على الرف، واستبدل ببرنامج آخر مستوحى من سياسة الرئيس السابق، والذي فرضته الحالة الانتقالية التي كانت تمر بها البلاد، إلى جانب الاضطرابات الكبرى التي حصلت نتيجة التجاذبات الحزبية.

صحيح أن الحركة اعترفت بـ"خطأ الظهور كحركة مؤهلة للحكم مع ضبابية البرامج"، لكن لا يعني هذا الاعتراف بأن "النهضة" ندمت على خوضها تجربة الحكم قبل أن تستكمل الشروط الضرورية لذلك، حيث أكدت نفس الوثيقة أن "خيار دخول الحركة إلى الحكم كان صائبا" وأن الإشكال ليس في المبدأ وإنما في "الحجم والكيفية". وهي تعتقد بأنها نجحت مع شركائها في "تأمين استمرارية الدولة"، وحققت "المصالحة النسبية مع الدولة وتطبيع الوجود في الحكم من خلال إقرار مبدأ المشاركة".

لا شك في أنه لم يكن من السهل على قيادة الحركة أن تمنع قواعدها من التمتع بثمرات الانتصار في انتخابات 2011، وهو أول انتصار معترف به تحققه في ظرف استثنائي. لكن كان بإمكان القيادة أن تبحث عن الصيغة المناسبة للمشاركة تفيد الحركة من جهة، وتحول دون اندلاع معركة سياسية طاحنة كادت أن تفتح الباب أمام حرب أهلية كانت وشيكة. فشخصيا كنت ضد أن تتولى "النهضة" قيادة الحكومة، وهي التي لم يسبق لأي عضو من أعضائها أن تعامل مع الدولة ومؤسساتها، بحكم أنهم كانوا بالسجون أو لاجئين في حوالي خمسين دولة.

وكان بالإمكان في مثل هذه الوضعية اختيار شخصية وطنية مستقلة عن الجميع تتولى رئاسة الحكومة وأن يتم تعيين أعضائها بشكل وفاقي يتسع لجميع الأطراف الفاعلة، أو أن يقع الدعوة إلى حكومة تكنقراط تتحمل تداعيات المرحلة الانتقالية الصعبة والمعقدة.

لقد اختارت الحركة منهجية مختلفة، فوجدت نفسها أمام تحديات غير مسبوقة، وهو ما جعل السنوات الأولى من الانتقال السياسي تشهد مطالب عالية جدا لم تتمكن حكومة الترويكا من تحقيق الحد الأدنى منها، كما انقسمت البلاد حزبيا واجتماعيا وثقافيا، ووجدت حركة النهضة نفسها في مواجهة معظم الأحزاب السياسية، إلى جانب النقابات والمنظمات الحقوقية ورجال الأعمال ووسائل الإعلام وجزء واسع من النخب، وهو ما خلق حالة عامة من عدم الاستقرار استغلتها المجموعات السلفية العنيفة التي انتقلت إلى تنفيذ الاغتيالات السياسية ، وأدى ذلك كله إلى صراع شوارع حاد بين النهضة وخصومها. ولم تهدأ البلاد إلا عندما انطلق الحوار الوطني، وأعلنت الحركة عن استعدادها للتخلي عن السلطة.

بقطع النظر عن تلك التجربة القاسية، فإن حركة النهضة اليوم أصبحت أكثر حذرا، حيث يستشف من المراجعات التي تضمنتها مشاريع الوثائق التحضيرية للمؤتمر أن الحركة أصبحت شديدة الحرص على توسيع دائرة التوافق، إذ بالرغم من انقسام حزب نداء تونس مما جعل النهضة تحتل المرتبة الأولى داخل البرلمان، فقد رفضت تعديل الموازين داخل الحكومة، وقبلت بأن تبقى أقل الأحزاب الأربعة المشاركة في حكومة الحبيب الصيد من حيث عدد الوزارات. وهو ما يدل على أن التجربة الصعبة أعطت أكلها، فالرغبة في التوسع تقتل أصحابها بالتخمة.