مقالات مختارة

قبائل ودول

1300x600
 حين انتقد أردوغان الموقف الإيراني في اليمن، واتهم طهران بالسعي إلى التمدد والهيمنة، معتبرا ان ذلك مما لا ينبغي قبوله أو السماح به. ثم أعلن تأييده لعاصفة «الحزم» فإن ذلك أزعج طهران وأثار استياءها. حينذاك استدعى وزير الخارجية الإيراني القائم بالأعمال التركي في طهران وأبلغه احتجاج حكومته، كما طلب منه أن تصدر أنقرة توضيحات لكلام الرئيس التركى. ولم يكتف بذلك، وإنما اتهم أنقرة بتغذية زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. وكان لكلام أردوغان صداه الغاضب بين أعضاء مجلس الشورى الإيراني، حتى ان عشرين نائبا منهم وجهوا رسالة إلى القيادة الإيرانية طالبوا فيها بإلغاء زيارة كان متفقا ان يقوم بها الرئيس التركى يوم الثلاثاء 7 أبريل الحالى (أمس الأول). بل إن عضو مجلس تشخيص المصلحة حسين مظفر طالب أردوغان بتقديم اعتذار للقيادة الإيرانية قبل اتمام زيارته.

لم تكن هذه أول أزمة بين الدولتين الكبيرتين، لأن ملف خلافاتهما يحفل بتقاطعات واشتباكات عدة، أغلبها تمحور حول العراق وسوريا. إذ طالما انتقد أردوغان موقف إيران وتدخلاتها في البلدين، وهو ما كرره في انتقاداته الأخيرة لطهران ودورها فى اليمن، حيث طالب القيادة الإيرانية بسحب قواتها من البلدين (العراق وسوريا). بالمقابل لم يخل الأمر من غمز إعلامي إيراني فى تركيا، ظل دائم التركيز على انتقاد علاقة أنقرة بواشنطن، وعضوية تركيا فى حلف الناتو والعلاقات التي تربطها بإسرائيل.

في التراشق بين البلدين فإن بعض المحللين فى بلادنا ما برحوا يستعيدون صفحات الصراع الصفوي العثماني الذى استمر نحو 25 عاما في القرن السادس عشر، وقاده السلطان العثمانى سليمان القانوني من جهة، والشاه طهماسب الأول من جهة ثانية. وذهب البعض إلى أنه لم يكن بين دولتين كبيرتين متنافستين على النفوذ، ولكنه كان بمثابة صراع الصفويين الشيعة مع الدول العثمانية التى كانت تمثل أهل السنة، ولايزال التجاذب بين طهران وأنقرة يجرى تأويله فى الوقت الراهن باعتباره صراعا طائفيا ومذهبيا.

أكثر ما يهمنا فى صراع الإخوة الأعداء الراهن ثلاثة أمور. الأول انه لم يؤد إلى خصومة أو قطيعة بينهما، وإنما ظلت الجسور مفتوحة بين البلدين طول الوقت. الثاني أنه ظل خلافا سياسيا لم يتطرق إلى تجريح القيادات والنيل من كراماتهم، بمعنى أنه ظل خلافا متحضرا حول موضوعات وسياسات بذاتها، ولم يتطرق إلى الأشخاص الذين يديرون تلك السياسات. الثالث والأهم ان الطرفين نجحا فى تحييد المصالح الاقتصادية والاحتفاظ بمسارها بعيدا عن التأثر بالتجاذب السياسى، إعمالا للمبدأ المتحضر الذى يقول إن صراعات السياسيين ينبغى ألا تنعكس سلبا على مصالح الشعوب.

لأن الأمر على هذا النحو، فإن الخلاف بين طهران وأنقرة والتجاذب الحاصل بين البلدين لم يحل دون قيام الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بزيارة طهران يوم الثلاثاء (7/4) وإجرائه مباحثات مع المرشد السيد على خامنئى والرئيس الإيراني حسن روحانى. وكان واضحا أن للزيارة علاقة بالأزمة اليمنية، لأنه لم يكن مصادفة ان الأمير محمد بن نواف ولى العهد السعودى كان قد توجه إلى أنقرة والتقى الرئيس التركى قبل زيارته لطهران، كما كان الشأن الاقتصادى حاضرا في المباحثات، لأن تركيا تعتمد إلى حد كبير على الغاز الإيراني، في حين ان المنتجات التركية تلقي إقبالا كبيرا في السوق الإيرانية.

فى متابعة مسار العلاقات بين تركيا وإيران كانت في ذهني طول الوقت مقارنة نموذج الخلافات التي تحدث في العالم العربي بوجه عام، والخلافات بين تركيا ومصر بوجه أخص. فتركيا وإيران اختلفا ولم يتخاصما ولم يتشاتما وحافظا على شبكة المصالح الاقتصادية بل عملا على زيادتها. حتى إن أردوغان وقع خلال زيارته على 8 اتفاقيات للتعاون الاقتصادي مع طهران.

(حجم التبادل التجارى بين البلدين كان قبل سنتين في حدود عشرة مليارات دولار، وفي العام الأخير وصل إلى 14 مليار دولار، والطرفان يسعيان إلى توصيله إلى ثلاثين مليار دولار خلال السنوات المقبلة). أما ما حدث فى العلاقات بين تركيا ومصر بعد 30 يونيو من العام قبل الماضى (2013) فإنه كان على العكس تماما. إذ أدى الخلاف السياسي إلى ما يشبه القطيعة بين البلدين، ومارس الإعلام المصرى دوره المؤسف والمخجل أحيانا فى التأجيج والتنديد والتجريح، فضلا عن ان العلاقات الاقتصادية أصيبت بانتكاسة كبرى أثرت على المصانع التركية فى مصر، وعلى صادرات تركيا إلى مصر ومنطقة الخليج والقارة الأفريقية. حتى اتفاقية الخط الملاحي بين البلدين التى عرفت باسم «الرورو» التي كانت مدتها ثلاث سنوات، تنتهى فى أواخر شهر أبريل الحالي، أعلنت وزارة النقل المصرية انه لن يتم تجديدها.

لأن الخلاف السياسى يؤدى إلى التدهور في مجمل العلاقات حتى بين الأشقاء فى العالم العربي، فإن تلك مسألة تحتاج إلى تفسير، وفى هذا الصدد فإنني أرجح أن ذلك السلوك وثيق الصلة بالأسلوب الذى يدار به الخلاف أو الصراع فى بلادنا. وأزعم فى هذا الصدد أن الدول تدير صراعاتها بصورة تختلف عن صداها فى محيط القبائل. إذ القاعدة أن الدول لديها ضوابطها ومؤسساتها وسقوفها الحاكمة لأي خلاف أو صراع، وهو ما يسهم فى ضبط إيقاعه ولا يسمح له بأن يهدد المصالح المشتركة، الأمر الذي يسوغ التفرقة بين السياسة والاقتصاد والرياضة والفن مثلا، ومن ثم عزل ما هو سياسي عما عداه. أما القبيلة فهي تخوض الصراع على نحو مغاير تماما. ذلك أن الخلاف مع رئيسها أو شيخها أو سلطتها الحاكمة يعد خلافا مع القبيلة كلها، ومن ثم يدخل كل مكوناتها بلا استثناء أطرافا فى الصراع. وهو تحليل إذا صح فهو يعنى أننا سياسيا مازلنا نعيش في طور القبيلة ولم ندخل بعد عصر الدولة، والله أعلم.



(نقلا عن صحيفة الشروق المصرية)