كتاب عربي 21

المليشيات الشيعية كقوى معتدلة في حرب الإرهاب

1300x600
تتوافر سياسات حرب الإرهاب الأمريكية وحلفائها على "تنظيم الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا على مفارقات خطيرة عديدة، ولعل أحد مفارقاتها الكارثية تتمثل بالاعتماد على مليشيات شيعية تمارس الإرهاب بأبشع صوره كعمليات القتل والتطهير المذهبي على أسس طائفية صريحة دون تصنيفها كحركات ومنظمات إرهابية.

فمنذ اجتياح تنظيم "الدولة الاسلامية" مناطق واسعة من العراق وانهيار قوات الجيش العراقي، اعتمدت الولايات المتحدة كعادتها نهجا براغماتيا فجا في مواجهة خطر تمدد "إرهاب" تنظيم الدولة (السني)، وأصبحت المليشيات الشيعية حليفا أساسيا في "حرب الإرهاب"، على الرغم من أن الولايات المتحدة أقرت مرارا بأن الصدع الهوياتي الطائفي وممارسات الحكومة العراقية الطائفية وجرائم المليشيات الطائفية الشيعية هي الأسباب الجوهرية في بروز تنظيم الدولة الإسلامية.  

تتعامل الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب مع إيران وأذرعها من المليشيات الشيعية بواقعية فجة، فقد باتت إيران حليفا موضوعيا، كما أصبحت المليشيات الشيعية قوى معتدلة أمريكيا وشريكا في الحرب على الإرهاب، فعندما وصل المئات من عناصر الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران إلى قاعدة"عين الأسد" العسكرية غرب محافظة الأنبار، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يعلن عن إرسال 1500 مستشاراً عسكرياً أميركياً جديداً إلى العراق وتحديداً إلى الأنبار، وبهذا فإن عناصر الميليشيات الموالية لإيران تعمل بالتنسيق مع عناصر الجيش الأميركي في قاعدة"عين الأسد"، فضلا عن غرفة العمليات المشتركة في بغداد.

لقد تغاضت الولايات المتحدة عن جرائم المليشيات الشيعة بحق السنة بصورة فاضحة، في سبيل القضاء على "إرهاب" تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي شجعها على ارتكاب سلسلة من المجازر والجرائم ضد السنة تحت ذريعة "حرب الإرهاب".

ففي 22 آب/ أغسطس قتل مسلحو إحدى الميليشيات الشيعية 68 مصليا سنياً في مسجد مصعب بن عمير في محافظة ديالى، كما أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الانسان تقريرا اتهمت فيه ميليشيات شيعية مدعومة من حكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي بخطف عشرات المدنيين السنة وإعدامهم،  وعندما بدأت الولايات المتحدة ضرباتها الجوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في 8 آب/ اغسطس صمتت عن توجيه أي انتقاد لممارسات المليشيات الدموية.

وترتبط المجاميع المسلحة الشيعية بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الايراني أو رجل الدين مقتدى الصدر أو أحزاب شيعية أخرى مهيمنة على الحكومة، وكانت هذه المجاميع قد تضخمت بعد الغزو الاميركي للعراق عام 2003 وشكلت تحت نظر الولايات المتحدة "فرق موت" ضد السنة خلال أعمال العنف الطائفي في 2006 ــ 2007.

على الرغم من التصريحات الأمريكية المعلنة باستبعاد إيران من التحالف الدولي لمواجهة تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنها تعترف بدور إيران الأساسي وتتحالف معها موضوعيا، فقد شاركت بإيران بشكل مباشر في معركة آمرلي وأدارت اربع ميليشيات على الأقل، وهي فيلق بدر الذي أنشأته ايران في الثمانينات وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا السلام، وهي نسخة معدلة من جيش المهدي بقيادة الصدر، كما ساهمت في تشكيل ميليشيات جديدة منذ حزيران/ يونيو بعد دعوة المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني إلى التطوع دفاعا عن بغداد.

لا جدال بأن المفاوضات حول الملف النووي الإيراني بين الولايات المتحدة والغرب (5+1) وإيران جاء تتويجا لتراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط عقب فشل سياسات "الحرب على الإرهاب"، التي تمخضت عن نتائج كارثية للولايات المتحدة وساهمت في تعزيز مكانة إيران كدولة إقليمية فاعلة.

فعندما دخلت سوريا آفاق الحراك الثوري منتصف آذار/ مارس 2011، أدركت إيران مبكرا النتائج الكارثية لسقوط حليفها "الأسد"، وآثاره الخطيرة على مستقبل المشروع الإيراني في المنطقة، وبهذا فقد أوكلت مهمة إنقاذ النظام السوري إلى جناح العمليات الخارجية في "الحرس الثوري" المتمثل بـ "فيلق القدس" وقائده قاسم سليماني الذي عمل سريعا على تطبيق استراتيجية التدخل غير المباشر من خلال أذرعها من المليشيات الشيعية المقاتلة كما فعلت في العراق، عن طريق أدواتها الشيعية الناعمة والصلبة ممثلة بحزب الله اللبناني والمليشيات العراقية كلواء الفضل أبو العباس.

يبدو أن النهج الواقعي الفج للإدارة الأمريكية بات مقتنعا بأن إيران تمتلك مفاتيح الحل لأزماتها في المنطقة، فالقيادات الإيرانية باتت تتحكم بإدارة المعركة في العراق وسوريا، فالجيش العراقي تتحكم فيه المليشيات الشيعية الموالية لإيران، أما الجيش السوري فيقتصر عمله على إدارة العمليات الثانوية، فالحرس الثوري الذي كان يحتفظ قبل الحرب بقوة تقدر بـ  3000 ضابط، بهدف المساعدة في عمليات نقل الأسلحة لحزب الله في لبنان وحماية خطوط الإمدادات وتوفير الدعم اللوجيستي وتدريب الضباط السوريين، أصبح الآن يتحكم بخيوط اللعبة، ويقوم الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالاشراف على العمليات الخارجية للحرس الثوري، وهو شخصية مفتاحية في مجال إدارة عمليات التدريب والإشراف والقيادة لكافة المليشيات الشيعية المقاتلة في العراق وسوريا التي تدين بالولاء للمرشد الولي الفقيه آية الله علي خامنئي في طهران.

لقد بات التعامل مع المليشيات الشيعية الموالية لإيران كحليف أمريكي باعتبارها قوى معتدلة في حرب الإرهاب أمرا واقعا عقب سقوط الموصل في10حزيران/ يونيو بيد تنظيم الدولة الإسلامية، فقد دعا رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي علناً إلى إقامة ميليشيات شعبية، الأمر الذي استجابت له المرجعية الشيعية العليا للسيستاني بالإعلان عن وجوب الجهاد الكفائي، وبدت الاستعراضات الطائفية مشهدا مألوفا لكافة التيارات الشيعبة الصدرية وغيرها، بحجة حماية المراقد المقدسة، وعملت أذرع إيران على إعادة انتشار قواتها التي تقاتل في سوريا وعودتها إلى العراق كما فعلت "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق"، وتعمل هذه المليشيات بشكل وثيق مع الجيش العراقي و"قوى الأمن الداخلي".

 وقد ظهرت مليشيات شيعية جديدة عديدة بحجة "الدفاع عن العراق"، ومنها "سرايا الدفاع الشعبي"، وفي أيار/ مايو، أعلن فيديو رسمي لـ"كتائب حزب الله" أنّ هذه السرايا تقاتل إلى جانب "قوى الأمن الداخلي" العراقية، كما  أنشأت "عصائب أهل الحق" و"منظمة بدر" العديد من "اللجان الشعبية" المتمركزة في المدن منذ نيسان/ أبريل الماضي، وفي كانون الثاني/يناير، أعلن كلّ من "عصائب أهل الحق" و "لواء الرد السريع" الذي يتبع "لواء أبو الفضل العباس والمعروف  باسم "أفواج الكفيل" الموجّه من إيران أنهما أعادا قوات من سوريا إلى العراق، وبحسب تقارير عديدة فإن  قائد "الحرس الثوري" قاسم سليماني قام عقب سقوط الموصل بزيارة ممثلي المنظمات الشيعية المدعومة من إيران بهدف إعادة هيكلتها وتفعيلها.

إن الاستراتيجية الأمريكية وحلفائها في محاربة الإرهاب تتوافر على براغماتية هشة وضارة، فالاعتماد على قوى تمارس أعمالا إرهابية كالمليشيات الشيعية المتطرفة سوف يساهم في تنامي قوة هذه الميليشيات وسيطرتها على كافة أجهزة الدولة العراقية الهشة، كما أنها تساهم في مد النفوذ الإيراني وهيمنته المضاعفة على  العراق، الأمر الذي يوفر لتنظيم الدولة الإسلامية جاذبية مؤكدة للتجنيد في صفوف السنة. 

لا شك بأن استراتيجية التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بالتحالف الموضوعي مع إيران والاعتماد على المليشيات الشيعية  سوف يساهم  بإضعاف تنظيم الدولة الإسلامية، والحد من بعض قدراته في المدى المنظور،  إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية قادر على ابتداع استراتيجيات جديدة للحفاظ على وجوده وإعادة هيكلته، كما حدث إبان حقبة الجنرال ديفيد بترايوس مع زيادة عدد القوات البرية وإنشاء الصحوات السنية.

فالحاضنة الاجتماعية  السنية قادرة على توفير شبكات دعم وحماية وإسناد للتنظيم، مالم تتم معالجة الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أدت تنظيم الدولة الإسلامية وتطوّره وتمدده، وفي مقدمتها تهميش السنّة وديمومة الانتهاكات الطائفية في المدن السُنيَّة على يد الميليشيات الشيعية، كما حدث في سامراء حيث خُطِف ما يزيد عن 170 شاباً منذ حزيران/ يونيو الماضي، وتنامي الخوف من ارتكاب الشيعة أعمالاً انتقامية ضد السكان السُنَّة، كما حدث في جرف الصخر حيث تم العثور في تشرين الأول/أكتوبر الماضي على مقبرة جماعية تضم 41 شخصاً قُتِلوا على أيدي الميليشيات الشيعية.

إن سياسات قوات التحالف المسندة من المليشيات الشيعية التي تواصل عمليات القتل وتمارس الانتهاكات الممنهجة ضد السنة تضع عموم السُنَّة أمام خيار تفضيل البقاء تحت سيطرة الدولة الإسلامية على عودة القوات الأمنية الشيعية إلى مدنهم ثانية، وتعصف بمحاولة بناء قوات الحرس الوطني، كما برهنت المعارك الأخيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية على فشل "الحشد الشعبي" وهو التسمية الجديدة للمليشيات الشيعية، والذي وصفه رئيس الوزراء حيدر العبادي بالعمود الفقري للجيش العراقي، بإلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية، وقد كشفتت الأحداث المتلاحقة عن حالة انعدام الثقة بين السكان السُنَّة والأجهزة الأمنية التي يسيطر عليها الشيعة، كما كشفت عن طوباوية وعقم الجدوى بتشكيل قوة سُنيَّة من 120 ألف إلى 200 ألف عنصر، بعد موافقة البرلمان، تحمل اسم قوات الحرس الوطني بالاعتماد على أبناء العشائر السُنيَّة بقيادة ضباط الجيش العراقي.

خلاصة القول إن إستراتيجية قوات التحالف للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية تتوافر على عيوب ونقاص بنيوية ظاهرة، فهي تعتمد على مقاربة سياسية وعسكرية براغماتية فجة، ويمثل الاعتماد على قوى تمارس الإرهاب في حرب الإرهاب أحد نقاط ضعفها وعقمها، كما أنها لا تزال لا تلتفت إلى الأسباب الحقيقية الكامنة خلف بروز ظاهرة الدولة الإسلامية، فالمليشيات الشيعية الطائفية المسندة إيرانيا أحد أهم علل وأسباب صعود تنظيم الدولة الإسلامية الذي يقدم نفسه كدرع حصين للسنة في مواجهة الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها المليشيات الشيعية.