مقالات مختارة

عن الوصائية وإلغاء حق المواطن في الاختيار

1300x600
كتب عمرو حمزاوي: تشير الفكرة الوصائية إلى نزوع الحاكم الفرد أو نخبة الحكم الشمولية/ السلطوية أو المؤسسات الدينية أو مؤسسات وأجهزة القوة الجبرية أو الحركات السياسية والاجتماعية صاحبة الإدعاء الدائم باحتكار الحقيقة المطلقة إلى أن تحدد للمواطن معايير الخير والشر/ الصواب والخطأ، والمبادئ والقيم التى يؤمن بها، والأفكار التى يثق فى صحتها، و»المعلومات والمعارف» التى يحصلها، والآمال والأحلام التى يتطلع إليها. بعبارة أخرى، تحدد الفكرة الوصائية للمواطن الكيفية التى يتعين عليه وفقا لها تنظيم حياته الخاصة والعامة، وتجرده من حقه فى الاختيار ومن تمتعه بحرية الفكر والاعتقاد والقول والفعل، وتحوله عملا من مواطن له وجوده الفردى إلى عضو/ عنصر/ طرف ينسحق داخل حدود الجماعة/ المجتمع/ الشعب/ الرعايا/ الجماهير.

وعلى الرغم من الأجندة الديمقراطية لثورة يناير 2011 والطلب الشعبى الواضح آنذاك على انتزاع الحق فى الاختيار وفى التمتع بالحريات وفى الخروج من الوصائية التى مارسها حكام مصر بمضامين مختلفة بين 1952 و2011، إلا أن محاولات فرض الفكرة الوصائية مجددا على المصريات والمصريين لم تتوقف وتعددت مصادرها.

فقد أراد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تارة منفردا وتارة موظفا للتنسيق مع جماعة الإخوان المسلمين وحركات وتيارات اليمين الدينى الأخرى، تحديد الأولويات الشعبية (الخبز والأمن والاستقرار قبل الحرية والديمقراطية) ومسارات إدارة الدولة والمجتمع والسياسة فوقيا وافتراض تأييد الناس المسبق لها أو دفعهم إلى تأييدها عبر زيف تخوين وتشويه البدائل أو نزع الوطنية عنها أو نشر الخوف من دعاتها واتهامهم ظلما بمعاداة المصلحة الوطنية والصالح العام.

وبين عامى 2011 و2013 ومع بلوغ حركات وتيارات اليمين الدينى، الإخوانية والسلفية، مواقع الأغلبية فى السلطة التشريعية (مجلس الشعب ومجلس الشورى ثم المجلس الثانى بمفرده بعد حل الأول من قبل المحكمة الدستورية العليا فى صيف 2012) والجمعية التأسيسية لوضع الدستور وفاز الدكتور محمد مرسى مرشح الإخوان المسلمين فى الانتخابات الرئاسية، تصاعدت وتائر الترويج للفكرة الوصائية ووظف الخلط المرفوض بين السياسة والدين لتبريرها.

هنا أصبح، زيفا، التصويت لصالح اليمين الدينى فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية ضرورة يمليها «صحيح الدين» على الشعب المصرى «المتدين بطبعه» وحتمية تقتضيها أهداف الخبز والأمن والاستقرار. هنا أصبحت، زيفا، موافقة الأغلبية على دستور 2012 الذى سيطر الإخوان والسلفيون على صياغته ترجمة مباشرة لقبول الناس لوصاية اليمين الدينى على الدولة والمجتمع ولاعترافهم لهم بامتلاك ناصية الحقيقة المطلقة. هنا أصبح، زيفا، النص فى دستور 2012 على دور الدولة فى حماية مكارم الأخلاق والتقاليد والعادات والطابع الأصيل للأسرة المصرية، وعلى دور المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف) فى تعيين حدود الخير/ الشر والصواب/ الخطأ والمقبول/ المرفوض للسلطة التشريعية، وعلى إخضاع الحقوق والحريات الشخصية والمدنية لقيود مصدرها فهم رجعى للدين وخلل فى التمييز بين الثابت والمتغير فى الأنساق القيمية الدينية إقرار لإرادة شعبية باحثة عن الوصاية بقدر عزوفها الدائم عن الحق فى الاختيار والحرية. هنا أصبحت، زيفا، معارضة أغلبية اليمين الدينى فى السلطة التشريعية والجمعية التأسيسية للدستور وأصبح الوقوف فى وجه سياسات وممارسات سلطوية تورط بها الدكتور محمد مرسى (من إعلان الاستبداد الرئاسى فى نوفمبر 2012 إلى انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات) بمثابة «خروج مذموم» عن الإرادة الشعبية القابلة والمسلمة بوصائية اليمين الدينى، خروج لا تمارسه إلا مجموعات وجبهات فاسدة ينبغى تكفيرها وإقصاؤها وإلغاء حقها فى الوجود.

منذ يوليو 2013، وعلى الرغم من أن الحراك الشعبى الواسع الذى جسده 30 يونيو 2013 رفض وصائية اليمين الدينى (تماما كما رفضتها من قبل الاحتجاجات الشعبية المتكررة ضد إعلان الاستبداد الرئاسى فى نوفمبر 2012 وضد دستور 2012) وطالب بإنهائها عبر آلية ديمقراطية هى الانتخابات الرئاسية المبكرة وبحث عن الانتصار لحق المواطن فى الاختيار والحرية، والدوائر النافذة فى الحكم/ السلطة والمتمثلة فى المكون العسكرى ـ الأمنى والنخب الاقتصادية والمالية والإعلامية المتحالفة تتورط فى الترويج لفكرة وصائية ذات مضامين أخرى على المصريات والمصريين وفى فرضها عليهم بأدوات متنوعة.

منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة فى الحكم/ السلطة تحتكر حق الحديث باسم الوطنية/ المصلحة الوطنية لتفرض على الناس قبول مقايضة الخبز والأمن بالحرية، ولتدفعهم إلى عدم الممانعة فى حدوث انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وللحريات أو إلى تجاهلها أو إلى التعامل معها بمعايير مزدوجة أو إلى تبريرها لأن «مصر فى خطر» ولأن «الحرب على الإرهاب» تقتضى ذلك.

منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة فى الحكم/ السلطة تختزل الوطن/ الدولة/ المجتمع فى شخص وزير الدفاع السابق المشير عبدالفتاح السيسى/ المرشح الرئاسى، وتطرحه على الناس كالبطل المنقذ أو البطل المخلص الذى تفرض دوره ضرورات «المرحلة» والقادر على «إنقاذ مصر» من «المؤامرات الداخلية والخارجية»، وتزج بهم مجددا إلى خانات الحل الوحيد/ البديل الوحيد وإلى قبول إطلاق يد المنقذ والمخلص فى الدولة والمجتمع، وبالتبعية إلى إلغاء حقهم فى الاختيار والحرية بعد أن ألغى حقهم فى التواجد فى المساحة العامة والتعبير السلمى عن الفكر والرأى بين تخومها (قانون التظاهر وغير من القوانين القمعية).

منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة فى الحكم/ السلطة تخون وتشوه المجموعات والأصوات المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، وتحيط دورها بمضامين سلبية متنوعة (الفوضى/ التخريب/ إسقاط الدولة/ تدمير المجتمع) لكى تنزع عن الناس القدرة على التفكير الحر والتدبر فى أهداف هذه المجموعات والأصوات والاستماع الجاد إلى منطقها الذى يرى الظلم والاستبداد والسلطوية كمعاول الهدم الحقيقى للدولة وللمجتمع ويسعى إلى الانتصار لتماسك الدولة والمجتمع بالحق والعدل والحرية والسلم الأهلى، وبالتبعية لكى تقضى على الحق فى الاختيار وحرية البحث عن السياسات والقرارات المثلى لمواجهة أزمات الإرهاب والعنف والخروج عن مسار التحول الديمقراطى.

منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة فى الحكم/ السلطة تحاول فرض وصائيتها على الناس وخطوط إدراكهم وأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم فى الحياة العامة والخاصة عبر آلة تزييف الوعى الإعلامية وعبر الترويج للسلطة الأبوية لوزير الدفاع السابق/ المرشح الرئاسى الحالى وصناعة صورة نمطية عنه تهدف ملامحها إلى إقرار وقبول دوره فى تحديد الكيفية التى يتعين وفقا لها أن ندير حياتنا الخاصة - من تقويم الأخلاق واستعادة التقاليد والعادات الحميدة إلى ضبط اعوجاجات أنماط الاستهلاك المنزلى، وأيضا حياتنا العامة ـ من العمل والالتزام والتوقف عن الاحتجاج والتظاهر إلى إعطاء الأولوية للخبز وللأمن وللاستقرار على حساب حقوق الإنسان والحرية والثقة المطلقة فى قيادة البطل المنقذ/ المخلص والانصهار فى الرأى الواحد والصوت الواحد وعدم الالتفات إلى المغردين خارج السرب/ الأصوات التى تريد إسقاط الدولة والمجتمع. وهنا وصائية شاملة وإلغاء تام للحق فى الاختيار وللحرية ولوجود المواطن الفرد لا يختلفان أبدا عن الفكرة الوصائية لليمين الدينى، بل تتصاعد خطورتهما اليوم على مصر نظرا للتأييد الشعبى ولتوظيف أدوات الدولة والمصالح الخاصة الاقتصادية والمالية والإعلامية لتثبيت مرتكزاتهما.


(الشروق)