قضايا وآراء

النمط المجتمعي التونسي أو "قُدس أقداس" الاستعمار الداخلي

كيف انفردت النواة الصلبة بالسلطة؟- جيتي
لقد كان خيار الاستقلال الصوري -أي "المؤطّر" والموجّه من لدن فرنسا- يحتاج إلى أيديولوجيا سلطوية جديدة، وكان على نخب "الاستقلال" ذات العلاقة المزدوجة بالثقافة الفرنسية (علاقة انبهار وعلاقة صراع في الآن نفسه) أن تعمل على خلق نوع من القطائع الجذرية داخليا وخارجيا لشرعنة النظام "الجمهوري" الوليد. ورغم أن استقلال تونس كان جزءا من خيار فرنسي عام للتخلص من بعض المستعمرات/ المحميات في إطار التحولات الجيوسياسية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فإن فرنسا قد حرصت على فرض اتفاقيات غير متوازنة لضمان مصالحها الاقتصادية والثقافية في تلك المستعمرات، بما فيها تونس التي ما زالت وثيقة استقلالها "شبه سرّية" ولا يمكن الاطلاع عليها وعلى ملحقاتها حتى من طرف المختصين.

بعد الاستقلال، اختار "الزعيم- المؤسس" الحبيب بورقيبة المفتون بالثقافة الفرنسية أن "يُتونس" النموذج اللائكي الفرنسي وقيم الجمهورية الفرنسية بصورة انتقائية وذرائعية نقلت تونس من نظام ملكي إلى نظام جُملكي (شبه ملكي، شبه جمهوري)، وانتقلت فيه "العصبية" من العروش والقبائل إلى "الجهوية" (هيمنة جهة الساحل بالتعامد الوظيفي والصراع أحيانا مع "بلدية العاصمة")، كما تم تدجين المؤسسة الدينية التقليدية والمجتمع الأهلي واستُبدلا بملحقات وظيفية بالسلطة تحت شعار "التحديث" ومقاومة التخلف والعقلية الخرافية.

وبتأثير غير خفي من اللائكية الفرنسية (المعادية للدين بأصل النشأة على خلاف النماذج العلمانية الأخرى)، تحولت الدولة من منتج/ موزع للثروات المادية -يقبل بوجود هامش اعتباري للسلطات الدينية الأهلية- إلى محتكر لإنتاج الثروات الروحية ولعمليات توزيعها القانونية. وقد وقع ذلك كله بالتوازي مع عملية احتكار الثروات المادية إثر إلغاء نظام الأحباس واسترجاع الدولة لأراضي المعمرين وإشرافها على عملية "الارتقاء الاجتماعي" من خلال التعليم والوظائف الإدارية والمشاريع التنموية، وهو ما خلق طبقة جديدة من المستفيدين من النظام الريعي- الزبوني (على أساس جهوي وبدرجة أقل على أساس الولاء).

كانت الهندسة السياسية والاقتصادية والثقافية الجديدة للمجتمع محوجةً إلى استعارة جامعة، أي استعارة تستطيع جمع كل توجهات الدولة وإظهار تناسقها وعقلانيتها، وتستطيع أيضا جمع الرأي العام وتحشيده وراء الخيارات السلطوية دون الحاجة النسقية للقمع. وقد وجدت نخبُ الاستقلال تلك الاستعارة التأسيسية الكبرى في مفهوم الدولة- الأمّة أو "الأمّة التونسية". فتونس -مثل تركيا الكمالية- أمّةٌ مستقلة بذاتها سياسيا وثقافيا وتاريخيا، وهو ما يفتح المجال أمام الاستقلال التشريعي تحت غطاء مقاصد الشريعة أو حتى خارجها وبالتعارض معها. وهي أقرب إلى الضفة الشمالية للمتوسط منها إلى المشرق العربي ورمزيته العربية الإسلامية.

نجد تلك النواة الصلبة في الخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية الكبرى التي أسست "الدولة الوطنية": نظام رئاسوي يتماهى فيه الزعيم مع الحزب الأوحد والوطن، سردية وطنية تشتغل واقعيا بمنطق جهوي- ريعي- زبوني، خارطة اقتصادية تؤبد التفاوت الجهوي وتعيد إنتاج مسارات متوازية للنجاح والثروة والسلطة والامتيازات من جهة، وللفقر والبطالة والجهل والتهميش من جهة ثانية، تبعية ثقافية شبه مطلقة لفرنسا في مستوى النماذج السياسية والإبداعية

وكان لهذا الطرح وظيفتان مركزيتان في بناء منظومة "الاستعمار الداخلي" أو مشروع التحديث الفوقي: أولا، مواجهة خطر القومية العربية بزعامة جمال عبد الناصر وما تمثله "اليوسفية" (نسبة إلى الزعيم صالح بن يوسف) من تهديد للنظام وخياراته "الفرنكوفيلية" (أي التي تدافع عن فرنسا ومصالحها الاقتصادية وقيمها الثقافية إلى درجة التحول إلى وكيل لها ولو ضد مصالح الوطن). أما الوظيفة الثانية فهي فكّ الارتباط مع المرجعية الإسلامية أو على الأقل تهميشها وتذويبها في سردية الـ3000 سنة حضارة والأصول المتعددة للأمة التونسية وثقافتيها الشعبية والعالمة.

لمّا كان الإسلام والعروبة مجرد مكوّنين من مكوّنات "الأمة التونسية"، فإن "النمط المجتمعي التونسي" لن يقبل بمعيار خارجي أو بمرجع أعلى للمعنى يكون خارج إرادة الزعيم- المؤسس. ولو أردنا البحث عن جوهر "النمط المجتمعي التونسي" أو نواته الصلبة فإننا سنجدهما -حسب المنافحين عن النمط المجتمعي من القوى اليسارية والقومية و"الدساترة"- في "مجلة الأحوال الشخصية" وفي ترسانة التشريعات المدافعة عن الحريات العامة والخاصة بالمعنى الليبرالي.

ولكننا من منظور نقدي سنجد تلك النواة الصلبة في الخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية الكبرى التي أسست "الدولة الوطنية": نظام رئاسوي يتماهى فيه الزعيم مع الحزب الأوحد والوطن، سردية وطنية تشتغل واقعيا بمنطق جهوي- ريعي- زبوني، خارطة اقتصادية تؤبد التفاوت الجهوي وتعيد إنتاج مسارات متوازية للنجاح والثروة والسلطة والامتيازات من جهة، وللفقر والبطالة والجهل والتهميش من جهة ثانية، تبعية ثقافية شبه مطلقة لفرنسا في مستوى النماذج السياسية والإبداعية، بل حتى في مستوى أنظمة التسمية ومضامينها المخصوصة التي تقاطعت دائما مع الرهانات/ المصالح الفرنسية المادية والرمزية في تونس (لباس طائفي، إسلام سياسي، تخلف، تطرف، رجعية، حداثة، أقليات.. الخ).

"التأسيس الجديد" لن يكون إلا مجرد تنويعة من تنويعات الاستعمار الداخلي ما لم يجد القائلون به الجرأة على نقد قدس أقداسه، أي نقد النمط المجتمعي التونسي بعيدا عن نزعات الزعامة وعن فتنة السرديات الكبرى التي تحوّلت هي الأخرى-رغم كل مزايداتها وشعاراتها الكاذبة- إلى قلاع متقدمة للدفاع عن النواة الصلبة للحكم وعن رُعاتها الإقليميين والدوليين

لقد استطاعت النخب الوظيفية أن تحرف الصراع السياسي قبل الثورة وبعدها عن مدار "الاستعمار الداخلي" ومصالحه المادية المحمية بشبكة واسعة من التشريعات الاقتصادية والتسويغات الأيديولوجية، كما نجحت في جعل "النمط المجتمعي التونسي" خارج إطار التفاوض الجماعي وكأنه قُدس الأقداس الذي لا يقبل النقد، رغم مزايدات تلك النخب في مسألة نقد المقدس الديني ذاته. وكانت استراتيجيتها في ذلك دائما تقديم مسألة حقوق "المرأة" والأقليات وبعض الحقوق الفردية للتغطية على واقع الحريات الجماعية وواقع البنية الجهوية- الريعية- الزبونية للسلطة، بل التغطية أيضا على واقع الحريات الفردية التي يريد أصحابها أن يتمتعوا بها بعيدا عن إملاءات النمط وتشريعاته المفروضة بمنطق القهر السلطوي، عبر الأجهزة الأمنية والأيديولوجية في الإعلام والتعليم، لا بمنطق "التفاوض الجماعي الحر".

ورغم أننا لا نعتبر "النمط المجتمعي التونسي" مقولة إجرائية فاسدة بصورة جوهرية ومطلقة، فإننا نذهب إلى أن علاقة "النمط" بمنظومة الاستعمار الداخلي توجب تفكيك أساطيره التأسيسية. فتلك الأساطير قد حالت وما زالت تحول دون بناء أي مشروع للتحرر الوطني، كما أعاقت وما زالت تعيق تحقيق مقومات السيادة قبل الثورة وبعدها، كما كانت دائما وراء صراع "الهويات القاتلة". وهو ما يعني أن "التأسيس الجديد" لن يكون إلا مجرد تنويعة من تنويعات الاستعمار الداخلي ما لم يجد القائلون به الجرأة على نقد قدس أقداسه، أي نقد النمط المجتمعي التونسي بعيدا عن نزعات الزعامة وعن فتنة السرديات الكبرى التي تحوّلت هي الأخرى-رغم كل مزايداتها وشعاراتها الكاذبة- إلى قلاع متقدمة للدفاع عن النواة الصلبة للحكم وعن رُعاتها الإقليميين والدوليين.

twitter.com/adel_arabi21