قضايا وآراء

السياسة النقدية التركية إلى أين؟

تسعى الحكومة التركية لإعادة الثقة لليرة- جيتي
أعلن البنك المركزي التركي الخميس الماضي رفع معدل الفائدة بمقدار 650 نقطة أساس، لترتفع من 8.5 إلى 15 في المئة، وأكد البنك المركزي التركي في بيان له بذات الخصوص أنه "سيدعم سياسة التشديد النقدي بشكل تدريجي عند الضرورة، وبالحد اللازم، حتى تحقيق تحسن كبير في توقعات التضخم".

وجاء هذا الارتفاع للمرة الأولى منذ 27 شهرا، وفي اليوم التالي لهذا القرار اجتمعت محافظة البنك المركزي التركي حفيظة غاية أركان مع مديري البنوك في مركز إسطنبول المالي، وصرحت بأن جميع الأقسام التابعة للبنك المركزي شمرت عن سواعدها من أجل مكافحة التضخم في البلاد.. "وسنعمل على مكافحة التضخم من خلال تحقيق استقرار الأسعار والاستقرار المالي على حد سواء".

كما صرح في نفس اليوم وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشك، بأن حكومة بلاده عازمة على تحقيق الاستقرار المالي على المدى القصير، وأضاف: "إن سياساتنا الاقتصادية تهدف إلى ضمان استقرار الأسعار وتحقيق الاستقرار المالي على المدى القصير، ونحن مصممون على تحقيق هذه الأهداف.. وهذه مرحلة بدأت مع رفع البنك المركزي سعر الفائدة، وستتم إدارة هذه المرحلة بحزم وبشكل تدريجي".

أدى هذا التغير في السياسة النقدية التركية من التيسير للتشديد برفع سعر الفائدة إلى تساؤلات عن مدى جدوى هذه السياسة التي جاءت مخالفة لما ألزم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه؛ من خفض سعر الفائدة باعتبار التضخم نتاجا لها

كما ذكر الوزير التركي في حسابه على تويتر تبريرا لهذا التوجه الحكومي: "إن الفلسفة الأساسية للقرن التركي في ثلاثة مفاهيم: الاستقرار والثقة والاستدامة.. والنمو المستدام شرط لا غنى عنه للازدهار والتنمية. ويتم تحقيق النمو المستدام من خلال الاستثمار ونمو العمالة من ناحية ونمو الإنتاجية من ناحية أخرى. وأهم عامل محدد لقرارات الاستثمار والتوظيف هو القدرة على التنبؤ. وحتى لو كانت شروط التمويل مواتية للغاية وكانت الربحية تبدو جذابة للغاية، فليس من الممكن توفير نمو دائم للاستثمار والعمالة دون إمكانية التنبؤ، وما سيوفر إمكانية التنبؤ هو الثقة، ولا يمكن تحقيق الثقة إلا من خلال تنفيذ السياسات: سياسة نقدية قائمة على القواعد والتي تركز على استقرار الأسعار ومراقبة الاستقرار المالي، وسياسة مالية يمكن التنبؤ بها تستند إلى قواعد وتهدف إلى هيكل مستقر في التوازن المالي للقطاع العام وتمويل مستدام للميزانية، وإطار سياسة يقوم على مبادئ اقتصاد السوق ونظام التبادل الحر والاقتصاد المفتوح. هذا سيوفر تدفق رأس مال خطير للغاية إلى تركيا، وهذا سيجعل تمويل الاستثمارات والإنتاج أسهل بكثير، وسيضمن استعادة الليرة التركية الاستقرار وتصبح عملة موثوقة. إن امتلاك أموالنا مستقرة وآمنة هو الحل الأكثر فعالية لتجنب بلاء الدولرة. وقد تم تضمين أساس فلسفتنا الاقتصادية، كما ورد في أحدث بيان انتخابي لنا، في السياسات الاقتصادية لحكوماتنا التي كانت في السلطة منذ عام 2002م، ويعتمد على الإطار الذي تحدده مبادئ حرية المشروع، واقتصاد السوق، ونظام الصرف الأجنبي المفتوح، ونظام سعر الصرف العائم، ونموذج استهداف التضخم. واليوم يجب تقييم قرار البنك المركزي في هذا الإطار".

وقد أدى هذا التغير في السياسة النقدية التركية من التيسير للتشديد برفع سعر الفائدة إلى تساؤلات عن مدى جدوى هذه السياسة التي جاءت مخالفة لما ألزم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه؛ من خفض سعر الفائدة باعتبار التضخم نتاجا لها.

إن القراءة التحليلية للسياسة النقدية التركية تعكس مدى أزمة التضخم التي جعلت غلاء الأسعار ظاهرة ملموسة يكتوى بها المواطن التركي، فرغم أن التضخم تراجع من 85 في المئة إلى 39.59 في المئة، إلا أن أثر هذا التراجع غير ملموس على حياة المواطن التركي. وقد حاول الرئيس أردوغان الخروج من استعباد النظام الرأسمالي بصورة تدريجية من خلال العلاج الهيكلي للتضخم بزيادة الإنتاج والإنتاجية وتعزيز الصادرات، ومن ثم زيادة الكتلة الإنتاجية مما يعالج هذا التضخم في المدى المتوسط والطويل، ولكن لعل الظروف الاقتصادية العالمية وأزمة كورونا والحرب بين روسيا وأوكرانيا فضلا عن أصحاب المصالح الربوية المسيطرين عالميا؛ قد قلصوا من رغبة أردوغان في تحقيق هدفه، في ظل عدم تحمل الشارع التركي مزيدا من الغلاء، وأكاذيب المعارضة وتضخميها للأمور دون أن تساعد في حلول.

حاول الرئيس أردوغان الخروج من استعباد النظام الرأسمالي بصورة تدريجية من خلال العلاج الهيكلي للتضخم بزيادة الإنتاج والإنتاجية وتعزيز الصادرات، ومن ثم زيادة الكتلة الإنتاجية مما يعالج هذا التضخم في المدى المتوسط والطويل، ولكن لعل الظروف الاقتصادية العالمية وأزمة كورونا والحرب بين روسيا وأوكرانيا فضلا عن أصحاب المصالح الربوية المسيطرين عالميا؛ قد قلصوا من رغبة أردوغان في تحقيق هدفه،

إن اتجاه الحكومة التركية لرفع سعر الفائدة في علاج التضخم هو عودة لآليات من فرضوا على العالم سعر الفائدة وجعلوه آلية يفقد معها الاقتصاد دوام الاستقرار، ويعيش أسيرا لمراحل متناوبة للنشاط الاقتصادي من خلال دورة الرواج والكساد، وإذا كانت الحكومة التركية تسعى إلى استقرار الأسعار في الأجل القصير وعودة الثقة وجذب رؤوس الأموال من خلال رفع سعر الفائدة للسيطرة على التضخم، ومنع الدولرة، ولم يغب عنها في الوقت نفسه تحقيق النمو المستدام من خلال الاستثمار ونمو العمالة ونمو الإنتاجية، فإن هذا التوجه في رفع سعر الفائدة يجب أن يكون محدودا، لا سيما وأن الدولرة قلّت في ظل وجود وديعة العملة المحمية التي أقرتها الحكومة وتحمي لصاحب الوديعة أمواله الدولارية.

ولم يبق بعد ذلك إلا معن وهدف واضح للحكومة التركية من رفع سعر الفائدة، وهو جذب رأس المال الأجنبي إلى الداخل لتحقيق عوامل الثقة في الاقتصاد التركي، ولكن رفع سعر الفائدة لا يناسب سوى الأموال الساخنة -وليس الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يتوطن ويفيد البلاد- وهذه الأموال الساخنة تدخل البلاد من أجل الاستفادة من ارتفاع العائد والخروج حين تقتنص ميزة هذا الارتفاع، مما يحدث خلخلة حينها في الاقتصاد، كما أنه واضح من سياسة البنك المركزي رغبته في تحرير سعر صرف الليرة ورفع يده عنه، وهو ما يعني تحمل المستثمر الأجنبي صاحب الأموال الساخنة لمخاطر سعر الصرف، مما يجعل رفع سعر الفائدة في ظل تلك الظروف ليس عاملا جاذبا له.

إن الفائدة المرتفعة نتاجها زيادة كمية النقود، وتقييد الاستثمارات، وهي إن كانت تسهم في خفض التضخم في الأجل القصير فإنها بعد ذلك ستؤدي حتما إلى مزيد من التضخم والانكماش، فدرجة فعالية سعر الفائدة محدودة في معالجة الاختلالات التضخمية. وإلى الآن يعد دور السياسة النقدية في مقاومة التضخم وتحقيق الاستقرار محل مناقشات طائلة بين الاقتصاديين، فالبعض يعلق أهمية كبيرة على هذه السياسة وهم النقديون، والبعض الآخر يرى أن استخدامها يجب أن يكون محدودا لأن من الأفضل الاعتماد على السياسة المالية متمثلة في الضرائب والإنفاق العام وهم الكينزيون الجدد، بينما يرى آخرون أن مقاومة التضخم لا تتم بسياسة نقدية أو مالية أساسا، وإنما بسياسات هيكلية، من خلال إزالة العقبات المؤسسية أمام الاستخدام الكامل والأكفأ لعناصر الإنتاج المتاحة والتي تؤتي ثمارها في شكل زيادة كميات السلع المنتجة، وهم الهيكليون. وهذا ما تحتاجه فعلا تركيا لعلاج التضخم في الأجل الطويل -وهو ما كان انتهجه الرئيس أردوغان من قبل- وهذه السياسة هي الأَولى بالعناية والاهتمام، وإن كانت ثمارها المرجوة لا تتحقق إلا تدريجيا أو بمشقة في البداية.

مقاومة التضخم لا تتم بسياسة نقدية أو مالية أساسا، وإنما بسياسات هيكلية، من خلال إزالة العقبات المؤسسية أمام الاستخدام الكامل والأكفأ لعناصر الإنتاج المتاحة والتي تؤتي ثمارها في شكل زيادة كميات السلع المنتجة، وهم الهيكليون. وهذا ما تحتاجه فعلا تركيا لعلاج التضخم في الأجل الطويل -وهو ما كان انتهجه الرئيس أردوغان من قبل- وهذه السياسة هي الأَولى بالعناية والاهتمام، وإن كانت ثمارها المرجوة لا تتحقق إلا تدريجيا أو بمشقة في البداية

واستخدام السياسة الهيكلية لا يمنع في الوقت نفسه من استخدام السياسة النقدية في الأجل القصير، ولكن يجب عدم الركون إلى سعر الفائدة لعلاج التضخم وكأنه السلاح النقدي الوحيد ذو الفعالية، فهناك أدوات أخرى لإدارة السياسة النقدية يمكن أن يزيد من فاعليتها البنك المركزي؛ منها رفع البنك المركزي لنسبة الاحتياطي القانوني، أو قيامه بعمليات السوق المفتوحة وذلك من خلال بيع البنك المركزي لأوراق مالية، لتقليل السيولة النقدية لدى الأفراد ومن ثم البنوك، وكذلك الإقناع الأدبي بمتطلبات السياسة النقدية المطبقة من خلال الاجتماع مع مديري البنوك كما فعلت رئيسة البنك المركزي التركي، وعادة ما تؤدي هذه السياسات إلى تقليل الائتمان المصرفي ومن ثم عرض النقود في السوق.

إن العملية التضخمية في الواقع ما هي إلا نتيجة اختلال بين التيار النقدي الذي يحدده جانب العرض ويغذيه، والتيار السلعي الذي يحدد العرض الكلي، لذا نأمل من الحكومة التركية أن يكون هذا الإجراء مؤقتا، وأن تسعى بكل السبل لتغذية التيار السلعي بالإنتاج، والعمل على تعزيز الصادرات وترشيد الواردات والسيطرة على أسعار المواد الغذائية والعقارات تمليكا وإيجارا، وتوزيع أراض للبناء على المواطنين الأتراك بأسعار معقولة، ومنع المزادات الحكومية في التمليك العقاري، وتخفيض الضرائب والرسوم الحكومية، وغل أيدي رؤساء البلديات في رفع رسوم خدمات المنافع العامة.

twitter.com/drdawaba