تقارير

لمحة عن أدب جيل الـ"Beat"

نيل كاسيدي يعد الأب الروحي لجيل الـ"Beat"
في الخمسينيات من القرن الفائت، نشأ جيل من الشباب ممن كانوا أطفالاً في أثناء الحرب العالمية الثانية. هذا الجيل عرف باسم  الـ"Beat"، وهي مفردة في جذرها اللغوي تعني "متعب"، وقد تنوعت معانيها في سياقات عدّة عقب ظهور الجيل الذي حمل اسمها. كان أبطال "Beat" هم إرهاص لتحولات جذرية في المجتمع الأمريكي فيما بعد، إذ شارك بعضهم في تشكيل ثقافة "الهيبيز"، وكونوا معالم يجب تتبعها في أثناء نشوء الثقافة المضادة في الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد كانوا شعلة للحريق الذي سيلتهم منظومة الأخلاق الأمريكية القديمة. ولم يكن هنالك بيان تأسيسي للحركة أو مؤتمر محدد. هم فقط مجموعة من الشباب من طلاب جامعة كولومبيا، حاولوا تقويض أسس اللغة التي يستخدمها أساتذة الجامعة، وتكوين رؤية شعرية مغايرة للكتابة والفن. وقد امتدت علاقاتهم لتشمل الزنوج عازفو الجاز، وبعض السجناء المتمردين، والأدباء البوهيميين.

والطريقة المثلى للولوج إلى ماهية جيل الـ"Beat" هي قراءة آثارهم الأدبية التي تعتبر البيانات الرسمية لحياتهم وفكرهم. إذ تعتبر قصيدة عواء للشاعر (آلان غينسبرغ) بمثابة الصيحة والمونيفستو الأول لهذا الجيل، والذي يبدأها الشاعر بافتتاحية "رأيت أعظم العقول في جيلي وقد دمرها الجنون" هذه القصيدة التي ألقيت عام 1954 في أحد الأمسيات الشعرية التي كان ينظمها الأدباء البوهيميين، وقد تحولت للنشيد الرسمي لجيل البيت.

وتعتبر لغتها الفاحشة وغير المنمقة وشعريتها العالية المستمدة من تفاصيل الحياة اليومية أسساً للغة التي أراد البيت استخدامها. وبالفعل اجتمع كل من (غينسبيرغ، وبورغوس، وكورواك) ليتفقوا على أن اللغة الطفولية غير الواعية المنسابة هي الأصلح لتكون لغة الأدب، بشيء أشبه بالكتابة الميكانيكية التي ابتدعها السورياليون في باريس. وقد استمد كورواك هذا الشعور من خلال مراسلاته مع صنم جيل الـ"Beat" نيل كاسيدي، الذي كان وقتها سجينا بتهمة سرقة السيارات. وخلال هذه المراسلات أُسر كورواك بروعة لغة كاسيدي غير المنمقة وقدرتها على الإلهام.

إن مهنة صناعة الأدب الأمريكي كانت تحت تهديد رؤى جيل الـ"Beat"، فالطريقة التي تتمثل عبر عملية إبداعية تستمر لعشر سنوات وأكثر لكتابة الرواية كما حال جيمس جويس، انتقلت إلى نوع من كتابة اليوميات واستحضار الذاكرة دون أي عملية مراقبة أو تعديل؛ وهذا ما حدث مع كورواك أثناء كتابته رواية "على الطريق"، حيث استمر العمل عليها لمدة أسبوعين تقريباً حاول من خلالها وصف رحلته البرية مع نيل كاسيدي من مدينة نيويورك إلى لوس أنجلوس. وحققت الرواية أرقاماً قياسية في المبيعات وكانت دعوة لجيل الشباب للنزول إلى الطريق، وإعادة اكتشاف الولايات المتحدة برياً.

إنه اكتشاف بري وملموس ومبتكر يحاول كسر الصور المكرسة للولايات المتحدة. وبالعموم فإن مفهوم "الرود تريب" التصق بجيل الـ"Beat" والذي كان يعني الرحلة البرية عبر مسافات شاسعة دون هدف محدد فقط للاكتشاف، وينتهي عادة بمصاف المكسيك والتي تمثل الملجأ الأخير للمتمردين على المؤسسة الأمريكية والمنظومة الاجتماعية. إذ مفهوم الوطن نقطة ارتكاز في هذه الرحلة فكما فعل المستكشفون الأوائل لأمريكا باستكشافها عسكريا؛ يقوم أبطال الرحل البرية باكتشافها للمرة الثانية، ولكن ليس عسكريا، وإنما حياتيا. فالهرب من العائلة يمثل الخطر، في حين يمثل الاستقرار محاولة لتأصيل الهوية وإيجاد مساحة آمنة، تصبح الرحلة كسرا لهذا الأمان في محاولة للوصول إلى الحقيقة. هذا الأدب الذي يصف شعرية اليوميات لأبطال لم نألفهم من قبل كان إرهاصاً لزلزال سيصيب الأدب الأمريكي لاحقاً.

البطل المخاطر

تغير مفهوم البطل الأمريكي من الجندي العائد من الحرب إلى منزله في الضواحي إلى صورة أكثر تمرداً ومختلفة جذرياً. إن معظم أبطال الـ"Beat" شباب غير متزوجين، وإذا لاحظت صورهم تراهم يتمتعون بالجمال؛ أوجههم لامعة واضحة مفعمة بالتحدي. أصحاب أجساد متينة رغم تعاطيهم المخدرات، ومثلت هذه الصورة كسراً للصورة المكرسة لمتعاطي المخدرات المزري.

لقد بنيت صورة البطل الأمريكي لديهم على شاكلة صورة (نيل كاسيدي) رمز جيل الـ"Beat" وبطل رواية على الطريق. فالمغامر يواجه السلطة والمؤسسة، ويبدو فاقداً للعقل بصورته الليبرالية البرجوازية المعتادة متمرداً على كافة الأنظمة؛ ليصبح فقدان العقل العلامة الأبرز للشجاعة عند هذا البطل. ولا تكون هذه اللوثة عبارة عن موقف عدمي، فهو يقود بسرعة 120 ميل ليس كرها بالحياة، بل تأكيداً عليها؛ فالمخاطرة هي الجزء الأمتع في الحياة: إنها نوع من التجارة يقدم الدراما مقابل الجسد.

نرى جيلاً كاملاً يمسك بيده كتاباً، ويلعب بأفكاره، لكن لا يعتنقها. إنه جيل غير مؤمن، لكن لديه توق للإيمان، ويبحث عنه؛ لذلك لا يستطيع العيش في عالم مستقر.

لديه شك دائم، مما يدفعه للبحث عن هوية مغايرة. إن هؤلاء الأفراد لا يتفوهون بأشياء عادية، بل يشتعلون في أحاديثهم، ويبحثون عن المختلف في اللغة، ويتمتعون بالحماس سواء في الفرح، أو الحزن، والذي يوسمهم أكثر من غيره من الصفات.

لقد رسم أدباء جيل الـ"Beat" شخصياتهم باعتبارها تملك الوعي الهائل لإدراك الحقائق السياسية والاجتماعية؛ مدركةً تماماً بأنها لا تصنع الأسلحة ولكنها ستطلقها أو تموت بها. إنها الجسد الفاعل للعنف، رغم رفضها له؛ فهي شخصيات صاحبة مثل عليا وإدراك عميق رغم نمط حياتها غير المتزن، فهي مشردة لكنها تمتلك الثقافة العميقة. وهذا لا ينفي وجود أخطاء كبيرة في سعيها لتحقيق المثل العليا، ومحاربة المؤسسة، والدفاع عن الأقليات. فمثلاً بالإمكان ملاحظة الإعجاب الأحمق لهذه الشخصيات بحياة السود والمهجرين وموسيقاهم، وحسدهم على هذه الحياة ومحاولة تبنيها، هذا السعي والاعتقاد الذي يجعل من معاناة الأقليات والمضطهدين أمراً مسوغاً، وجميلاً، وملهماً.

يرتبط اليوم جيل الـ"Beat" بصبغة معينة وصورة مكرسة تتحدد عبر عدد من الممارسات: أولها، حرية الحياة الجنسية، باعتباره قدس تفاصيل الحياة الجنسية، وجعل حريتها على مستوى الجندر، والممارسة من البديهيات الأساسية للعصر. وثانيها المخدرات، إذ ارتبط أبطال هذا الجيل بالمخدرات، واعتبروها ملكة إلهام، ورمزاً للهروب من الواقع ومواجهة للسلطة. وثالثها، "البيب جاز"، الذي تم تكريسه في رواياتهم، وقد استمدوا من آلية الارتجال فيه صيغاً في ممارسة كتاباتهم الفنية. وأيضاً "الرود تريب"، والذي ارتبط بهم واعتبروه الرحلة لأجل الرحلة وممارسة للهروب من القوانين. وعلى الرغم من قصر فترة حياة الجيل الذي انتهت بالستينيات فإنها مهدت لثورة الستينيات في الولايات المتحدة وأولى الحركات التي حاولت كسر القيود النمطية المفروضة على النساء والسود.