صحافة دولية

هكذا كرست مذبحة رابعة الاستقطاب والعودة إلى السلطوية

مثلت المجازر انتهاكا صارخا لمبادئ حقوق الإنسان وللحقوق المدنية المتعارف عليها عالميا- جيتي

قال الكاتب يانيس جوليان غريم، إن مذبحة رابعة، التي وقعت في آب/ أغسطس عام 2013، كانت حدثاً محورياً بالنسبة للاعبين المتنافسين، ونقطة تحول بالنسبة للسياسة في فترة ما بعد الانقلاب في مصر.


وأضاف غريم في مقال له بموقع "ميدل إيست آي" ترجمته "عربي21"، أنه بعد رابعة، أراد المعسكر المعادي للرئيس الراحل محمد مرسي ترشيد العنف الذي مورس ضد المتظاهرين، وبذلك مهد الطريق من حيث لم يقصد لإعادة السلطوية، وفي نفس الوقت، لم يكن المتظاهرون المظلومون قادرين على التخلي عن ادعاءاتهم غير الناجحة بأنهم أصحاب الشرعية، الأمر الذي حال دون حصول تضامن شعبي مع من قتلوا في ميدان رابعة.


ويعتقد غريم أن مذبحتي رابعة والنهضة شكلتا "ليس فقط نقطة تحول بالنسبة للمتظاهرين ضد الانقلاب، ولكن أيضاً بالنسبة لمخالفيهم، فلا المتظاهرون ولا السلطات تمكنوا من اتخاذ خطوة إلى الوراء وتقديم تنازلات للخصوم".

 

اقرأ أيضا: 9 سنوات على الدماء التي سالت في "رابعة".. والجناة بلا عقاب

وفي سبيل شرعنة القمع العنيف الذي مارسه، قال غريم إن النظام لجأ إلى دعاية قومية بشعة نافس فيها خطاب التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية، وصنف جماعة الإخوان المسلمين وحلفاءها كإرهابيين، واعتبر ساحات الاحتجاج المصرية دوائر نشاط غير مشروع، وما يجري فيها تمرداً سياسياً.


وتاليا نص مقال غريم:

 

مثلت مذبحة رابعة في أغسطس / آب 2013 حدثاً محورياً بالنسبة للاعبين المتنافسين ونقطة تحول بالنسبة للسياسة في فترة ما بعد الانقلاب في مصر.


بعد رابعة، أراد المعسكر المعادي لمحمد مرسي ترشيد العنف الذي مورس ضد المتظاهرين، وبذلك مهد الطريق من حيث لم يقصد لإعادة السلطوية. في نفس الوقت، لم يكن المتظاهرون المظلومون قادرين على التخلي عن ادعاءاتهم غير الناجحة بأنهم أصحاب الشرعية الأمر الذي حال دون حصول تضامن شعبي مع من قتلوا في ميدان رابعة. {كانت منظمة هيومان رايتس واتش قد قالت إن ما لا يقل عن 817 وربما أكثر من 1000 من المتظاهرين قتلوا في الميدان بتاريخ 14 أغسطس 2013}.


كما وضعت المذبحة شروطاً فرضت نفسها على الاحتجاجات المستقبلية: فبينما عرف التحالف المناهض للانقلاب نفسه باعتباره المناقض للقوات الانقلابية فقد رد على الانقلاب ليس من خلال تبني المقاومة العنيفة وإنما من خلال تنويع ذخيرة أعماله المنافسة.


ما بعد المذبحة


يظهر البحث الذي جرى من قبل في أحداث القمع العنيف والمذابح كيف أن تأثيرها العاطفي يمكن أن يترجم إلى لحظات رمزية تمنح معنى للنضالات الاجتماعية.


على سبيل المثال، أثبت ديلا بورتا من خلال مقابلات أجراها حول الدورة الحياتية كيف حفرت المذبحة الفاشية في ميدان بيازا فونتانا في ميلانو عام 1969 علامة في الذاكرة الجمعية لليساريين الإيطاليين، وأطلقت العنان للاهتمام والتضامن مع نشاط التعبئة الكفاحية، وما لبثت أن انتقل ذلك إلى المركز من الخطابات اليسارية. مثلت التعبئة التي جرت بعد المذبحة وكذلك موت الثائر بينيلي أثناء استجوابه بينما كان في قبضة الشرطة أثناء التحقيق، تجارب عميقة بالنسبة للنشطاء، ففي الموت يصبح الرفاق أبطالاً.


تأججت العواطف في ذكرى "أيام إبريل / نيسان 1975." وهكذا، وعلى نفس المنوال، انتقلت رابعة وضحاياها إلى المركز من الخطاب المقاوم والمناهض للانقلاب. كلما قارن المتظاهرون تجاربهم السابقة في الحياة اليومية داخل الاعتصامات تصبح المذابح "معالم في الذاكرة الجمعية" لديهم. بالنسبة لكثير من الذين اعتصموا في ميداني رابعة والنهضة، لم تكن الأسابيع التي قضوها هناك مجرد أداة استراتيجية ولكنها أيضاً مكنتهم من تنظيم مجتمعات صغيرة بديلة تحاكي النموذج الذي يرنون إليه.


اعتصام رابعة بالذات كانت له صفة تصويرية مسبقة بالغة القوة، بما اشتمل عليه من لوجستيات داخلية معقدة، وتنوع وظيفي، ومشاركة في الأعمال، ونشاطات مجتمعية، وكيانات دعم اجتماعي. فقد وصف العديد من الذين شاركوا في البحث
الوقت الذي قضوه داخل الاعتصام بأنه كان تجربة شخصية فريدة من نوعها غيرت من إدراكهم لمفهوم التضامن ولمعنى الحياة.


كانت توصيفاتهم التمجيدية صدى لما رواه من قبل متظاهرون حول تجاربهم أثناء الاعتصام الذي استمر لثمانية عشر يوماً في ميدان التحرير في عام 2011. من المؤكد أن المعسكرات المناهضة للانقلاب لم تشكل ائتلافاً تعددياً يمثل كافة التوجهات كما كان عليه الحال في ميدان التحرير أثناء الربيع العربي ولم تمنح صوتاً يعبر عن تطلعات مختلف قطاعات المجتمع المصري.


إلا أن توصيفات أحمد شكر (2015) لهوية الميدان التي شكلت ديناميكياته المجتمعية، إذا ما أضيف إليها المكون الديني القوي، تصور إلى حد كبير ما الذي كانت تمثله مدن الخيام بالنسبة لأنصار المعسكر المناهض للانقلاب. حيث كانت بالنسبة للمشاركين فيها عبارة عن أماكن طوباوية، تتحقق فيها الرؤية والمعيشة المثالية للمجتمع، انطلاقاً من الخطابات الإسلامية وبنفس القدر من المخزون الثقافي للمعسكرات التي تشكلت في عام 2011. فعلى مدى 47 يوماً من الاعتصام، تحول ميدان رابعة بالذات إلى ما يشبه مدينة يرتبط سكانها بعضهم ببعض بما هو أكثر من مجرد مطلب سياسي مشترك.


ضم ميدانا رابعة العدوية والنهضة مجتمعاً رهن البناء اجتمع فيه الناس من مختلف الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية والسكانية في مقاومة جامعة ضد إقامة كتلة تاريخية جديدة تتخذ شكل قوى الانقلاب المدعوم من قبل العسكر.


على النقيض مما شاع على نطاق واسع، لم تقتصر الاعتصامات على مشاركة قواعد وقيادات جماعة الإخوان المسلمين وعائلاتهم. فطبقاً للعديد ممن أجريت معهم مقابلات، كان ميدان رابعة، مثله في ذلك مثل ميدان التحرير، يمثل طوباوية العدل والمساواة بين جميع الطبقات والأعمار والجماعات والتنظيمات. على الرغم من نأي بعض اللاعبين الليبراليين والعلمانيين عن مدن الخيام تلك، وبعض هؤلاء كانوا يتعاطفون مع حقوق أنصار مرسي في الإعراب بحرية عن رأيهم ولكنهم لم ينضموا إليهم في اعتصامهم لأنهم لا يتفقوا مع المتظاهرين في غاياتهم، إلا أن هذه المدن كانت مأهولة بالمصريين من كل نواحي الحياة، العلمانية والمتدينة، الليبرالية واليسارية، الثورية والرجعية.


نظام اجتماعي طوباوي


تكشف دراسة للخلفيات الاجتماعية والاقتصادية لمن قتلوا أثناء فض اعتصام ميدان رابعة عن أن المشاركين في الاحتجاج انحدروا من أكثر من نصف محافظات البلد، بما في ذلك الأجزاء الثرية والمتحضرة من البلاد (كيتشلي وبيغز، 2015). من ناحية ما، لم يكن المعسكر مناصراً للإخوان بقدر ما كان مناهضاً للانقلاب. تشير المحادثات التي جرت مع مشاركين في الحملة المناهضة للانقلاب إلى وجود ما لا يقل عن فصيلين من اللاعبين داخل ميداني رابعة والنهضة.


أما الفصيل الأول فكان يتكون من أنصار الرئيس المطاح به {مرسي}، بينما كان الفصيل الثاني يتكون من مواطنين لم يكونوا بالضرورة من أنصار مرسي وإنما كانوا فوق كل اعتبار يعارضون الطريقة التي بها تم خلعه من منصبه.


بعض من كانوا ضمن الفصيل الثاني كانوا يعتقدون بأنه كان يتوجب على الرئيس السابق التنحي أو يتوجب، على الأقل، إقالته من منصبه من خلال إجراءات سحب الثقة المنصوص عليها في الدستور.
يمثل هذا التشعب والتنوع في المحفزات على الانضمام إلى المعسكر المناهض للانقلاب اختلافاً كبيراً عن الائتلاف الاحتجاجي الذي تشكل في الثلاثين من يونيو / حزيران، والذي رحبت كبرى فصائله بالتدخل العسكري كأسلوب لا يقتصر فقط على الإطاحة بالرئيس وإنما يلغي الدستور المكروه. من المؤكد أنه كان من مصلحة التحالف الوطني لدعم الشرعية تصوير اعتصام رابعة باعتباره مجتمعاً تعددياً أفقي التنظيم، حيث أن مثل هذه السردية تطمس التراتبيات القائمة بحكم الأمر الواقع بين من ينتسبون إلى الإخوان المسلمين ومن ليسوا منهم ضمن المجموع الذي يتشكل منه المعسكر.


في واقع الأمر، كان أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ونشطاء حزب الحرية والعدالة يلعبون أدواراً ريادية في معظم اللجان المشكلة داخل الميدان وكانوا يشاركون بفعالية كبيرة في الجهود اللوجستية اللازمة لتسهيل مهام هذا النظام الاجتماعي الطوباوي، بما في ذلك توفير الضروريات الأساسية بما في ذلك تنظيم الأمن.


إلا أن نشطاء جماعة الإخوان المسلمين، داخل قواعد التحالف الوطني لدعم الشرعية، لم يكونوا يشكلون سوى ما بين ربع إلى ثلث المشاركين، بحسب ما أكده عدداً من الذين أجريت معهم مقابلات ممن شاركوا في الاعتصام.


وهذه هي الخلاصة التي توصل إليها شهود عيان تجولوا في مقر الاعتصام قبل فضه بعدة أيام. وبناء عليه، فإن معظم المشاركين في الاعتصام لم يكونوا رسمياً أعضاء في أي من المنظمتين. على مدى أسابيع غدا ميدان رابعة وميدان النهضة "مختبرات اجتماعية" حيث تفاوضت فيما بينها مختلف القوى المتآلفة ضمن التحالف الوطني لدعم الشرعية واختبرت وشكلت مجتمعها السياسي المثالي الجديد.


ما بين الحوارات السياسية التي كانت تجري فوق منصة رابعة إلى الأعمال الدنيوية اليومية مثل تنظيف الطرقات، وإعادة طلاء الجدران المحيطة بالمكان، وتوزيع الطعام، أو تنظيم دوريات الحراسة الليلية، وفرت النشاطات اليومية للحفاظ جماعياً على منظومة بديلة، كانت بالتأكيد منافسة لمنظومة الدولة ما بعد الانقلاب، لحظات إلهام ساهمت في صياغة هوية جماعية قوية تجاوزت الفروق السياسية بين الحركات المنضوية ضمن التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية.


سمات خارقة للعادة


في الرابع عشر من أغسطس / آب 2013، تحطم فجأة ذلك المجتمع الفوار، إلا أن تماسك حركة مناهضة الانقلاب ظل مستمراً. فما تعرض له ذلك المجتمع من قمع عنيف على أيدي الدولة أضفى على نضال المحتجين تالياً إحساساً إضافياً بالهوية. لقد أضحت المجازر، التي اعتبرها التحالف "جريمة ضد الإنسانية في شهر رمضان المبارك" (التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية، 2015)، موضوعاً مركزياً للحملة، كما تبين من الصور التي نشرت والنشاطات التي تم تنظيمها خلال النصف الثاني من الفترة الزمنية التي خضعت للدراسة.


وكما لاحظت داون بيرلماتر، تم إضفاء "سمات خارقة للعادة" على اللحظة الحاسمة في اعتصام رابعة وكذلك على جميع اللاعبين والشخصيات والصور والرموز المرتبطة به.


كما أحدث الفض صدمة معنوية تجاوزت الحدود الجغرافية للميادين التي تعرضت للهجوم. وكما أن غوانتانامو وأبو غريب غدتا رموزاً لتفشي انتهاكات حقوق الإنسان باسم الحرب العالمية على الإرهاب، أصبحت رابعة رمزاً لازدراء السلطة الحاكمة للمعارضة وللحقوق المدنية وللتسوية السلمية للنزاعات السياسية.


مثلت المجازر انتهاكاً صارخاً لمبادئ حقوق الإنسان وللحقوق المدنية المتعارف عليها عالمياً، وبذلك تحولت إلى نموذج متجاوز للحدود لما تمارسه الدولة من قمع وانتهاك.


في نهاية المطاف، أفضت الوقائع المتنازع عليها في صيف 2013 إلى رد فعل ذي حدين.
شكلت مذابح رابعة والنهضة ليس فقط نقطة تحول بالنسبة للمتظاهرين ضد الانقلاب، ولكن أيضاً بالنسبة لمخالفيهم. فلا المتظاهرون ولا السلطات تمكنوا من اتخاذ خطوة إلى الوراء وتقديم تنازلات للخصوم.


وفي سبيل شرعنة القمع العنيف الذي مارسه، لجأ النظام إلى دعاية قومية بشعة نافس فيها خطاب التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية، وصنف جماعة الإخوان المسلمين وحلفاءها كإرهابيين، واعتبر ساحات الاحتجاج المصرية دوائر نشاط غير مشروع وما يجري فيها تمرداً سياسياً.


بسبب مذبحة رابعة غدت هذه السردية المخاصمة أمراً لا يمكن التراجع عنه، مكرسة بذلك الاستقطاب السياسي وممهدة السبيل أمام استعادة الحكم السلطوي.


{كانت تلك مقتطفات من كتاب يانيس جوليان غريم بعنوان "الشرعيات المتنازعة: القمع والتمرد في مصر ما بعد الثورة" والذي صدر عن دار نشر جامعة أمستردام في 2022}