آراء ثقافية

الإمام الشاطبي.. عبقري الأندلس

"الشاطبي خرج عن المألوف. وكان الشعر داخل هذه المنظومة العلمية مثل جدول عذب خفي يسري في خضرتها الممتدة"- جيتي

لا بد أنه من المثير للباحث المغامر الدخول في ثنايا شخصية تاريخية عرفت بالوقار والتدين وشهد لها معاصروها بالصلاح. قال عنه تلميذه أبو الحسن السخاوي (كان دينا خاشعا كثير الفنون..) إنه الإمام القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الأندلسي من أكابر أعلام القرن الخامس الهجري. والمشهور تاريخيا بالشاطبي صاحب أشهر قصيدة في علم القراءات.


علم القراءات قبل هذا الإمام كان منثورا في كتب متفرقة أهمها كتاب أبي عمر الداني (جامع البيان في السبع) وهذ العلم يتخصص بأوجه قراءة القرآن والمشهورة عن سبعة قراء (أضاف بعض العلماء لهم ثلاثة قراء فأصبحوا عشرة) كل قارئ منهم نقل عنه راويان. يبحث هذا العلم في أوجه الخلاف والاجتماع بين هذه الأصوات الأربعة عشر. مما يجعل ضبطه واتقانه لا يجتمعان إلا إلى رجل يتمتع بقوة الحفظ وشدة الانتباه والتركيز.


 قرر هذا الفتى الأندلسي الذي ولد أعمى أن يبدأ رحلته إلى الحج، مفارقا بلده إلى الأبد في رحلة لا رجعة فيها عن المجد والخلود والعلم والتدريس والرفعة. فبعد أن أتقن علوم عصره وقرأ على كبار مشايخ الأندلس في الفقه والحديث واللغة والقراءات تاقت نفسه إلى أداء فريضة الحج. ويرجح أنه في أثناء هذه الرحلة بدأ يفكر بجمع علم القراءات في قصيدة جامعة تضبطه وتسهل تشعباته.


وهنا بدأت هذه العبقرية المباركة بالتجلي. وكل ما نتج عنها فيما بعد يدل على أن هذا الإمام كان نسيج وحده. يفكر بطريقة غير مألوفة ولا معتادة في أدبيات علماء عصره. فالقصيدة هي من بحر الطويل وبقافية واحدة تتسلسل عبر ألف ومائة وثلاثة وسبعين بيتا. وهذا ما لم يفعله من بعده ولا قبله أي عالم أراد أن يلخص علما. كما أنه ابتكر طريقة مذهلة في الإشارة إلى القراء وإلى أوجه اجتماعهم أو انفرادهم كما سنرى.


القراء سبعة لكل قارئ راويان جعل مقابلهم الأحرف الأبجدية كما في الصورة المرفقة. وجعل لمواضع الاجتماع باحتمالاتها الواردة لها رموزا، كما أن مواضع الانفراد باحتمالاتها لها رموزا أخرى. ومن نافل القول إن هذه الرموز ليست اعتباطيه فهي ذات دلالة تسهل على الدارس التذكر والحفظ مثل رمز(حِرْمِي) للدلالة على اجتماع ابن كثير ونافع وهما المنسوبان إلى مكة والمدينة المنورة إشارة إلى الحرمين.

ولكن كيف مرر هذا الإمام كل ذلك في القصيدة بتفاعيلها المكررة عبر الأبيات الألف ضمن ضوابط الشعر. وظلت هذه القصيدة أيضا مقروءة لغير المتخصصين. بسلاسة ألفاظها وابتعادها عن التجريد. مما يمثل دعوة كريمة منه لتعلم هذا العلم بطريقة ممتعة تجعل من جمهور المتلقين سعداء بهذه الرحلة.

جعل رموز القراء إذا كانت حروفا أن تكون في بدايات كلمات البيت (كتبت فيما بعد بألوان مختلفة عن لون كتابة البيت) وقد أشار إلى ذلك في شرحه لطريقته في وضع الرموز أول القصيدة. والأصل في ذلك ذكر اسم القارئ صريحا أو ذكر لقبه ونحو ذلك. أما رموز الاجتماع والانفراد فقد وردت عرضا ضمن القصيدة.


قد يظن القارئ أن كل هذه التعقيدات جعلت من قصيدة الإمام الشاطبي قصيدة جافة تصعب قراءتها فضلا عن الاستمتاع بها. فيكفي طالب علم القراءات أن يحفظ هذا الشعر ويتصدى لهذه المادة العلمية دون أي اعتبارات أخرى.


لكن الشاطبي خرج عن المألوف. وكان الشعر داخل هذه المنظومة العلمية مثل جدول عذب خفي يسري في خضرتها الممتدة. يرفدها بالجمال والنضارة. ولذلك حفظها خلق كثير وشرحها الشراح واحتفل بها طلاب علم القراءات عبر القرون وحتى يومنا هذا.


في بحثنا المغامر عن الشاعر الذي كان يرفرف في صدر الشاطبي، من الطبيعي أننا سنلتفت إلى المقدمة (خطبة الكتاب) ففيها يمكن للمرء أن يسترسل ويجعل لنفسه وللشاعر فيه أن يتحرك وأول ذلك البحث عثورنا على عدد لا بأس به من الأبيات التي تتضمن بعض المحسنات البديعية كالجناس التام وغير ذلك مما كان منتشرا في العصر الأيوبي. يدل ذلك على اطلاعه على المنجز الشعري في عصره وبالتالي على أمزجة الناس في زمانه من زاوية نظرتهم للشعر. لكن الأهم من ذلك كله هو أن هذا الإمام كان يتعامل مع هذا العمل على أنه شعر حقيقي يتأثر بالشعر ويؤثر في المتلقي من ناحية الشعر أيضا. وإن كان هدفه الأعلى تعليميا.


في لحظات تجلّ اعتبرتها بؤرا ضوئية تنشر روح هذا الإمام الشعرية. يتقاطع فيها الشعر الرقيق مع التعليم. في كأس صافية يشربها كل على هواه. انظر أيها القارئ ماذا يخبرنا الشاطبي في باب إذ:
نعم إذ تمشَّتْ زينبٌ صال دلها
سميَّ جمال واصل من توصلا 
فإظهارها أجرى دوام نسيمها
وأظهر ريَّا قوله واصف جلا 
وادغم ضنكا واصل توم دره
وادغم مولىً وجده دائم الولا


يتحدث عن زينب التي استطال دلالها وهو رفيع الجمال. وكلما أظهرته جرى عطره بريح طيبة دائمة. فأظهر بذلك عشاقها أثر هذا الجمال عليهم. فمنهم الواصف الذي ظهرت الرائحة العبقة جلية في وصفه، ومنهم الذي ظل يوصل الكلمات بها وكأنه ينسج عقدا من الدر، وأما الأخير الذي أسره الوجد (مولى:عبد) فقد كتم عشقه وظل دائم المتابعة له والاعتناء به.


وإليكم الوجه التعليمي لهذه الأبيات:
أن الحروف التي تدغم فيها ذال إذ هي أول كل حرف من كل كلمة في عبارة: 
نعم إذ تمشَّتْ زينبٌ صال دلها
سميَّ جمال  


وأما القراء الذين يظهرون هذه الحروف في حال ورودها بعد ذال إذ هم القراء أصحاب الرموز في أول كل كلمة من العبارة (أجرى دوام نسيمها) والعبارة (ريا قوله)
أ= نافع 
د= ابن كثير 
ن= عاصم 
ر= الكسائي
ق= خلاد 


 وأما من يدغم فهو حرف الضاد من ضنكا (رمز القارئ خلف) ويصل (يدغم) خاصة في التاء والدال (توم دره) ومن يدغم أيضا هو حرف الميم (رمز القارئ ابن ذكوان) من مولى يدغم حرف الدال خاصة (دائم الولا).


ربما يحتاج القارئ إلى مزيد من التركيز من أجل الاقتراب من صنيع هذا العبقري. لكني مثلت بالأبيات أعلاه محاولة مني للتلمس ولو من بعيد ملامح هذا العمل، ومشاركة متعته مع عموم من يقدرون هذا المنجز الإسلامي من عقلية ما زالت بركتها تلقي بظلالها على كل من يشتغلون بالقران وعلومه.