قضايا وآراء

تقدم(نا) المتعثر ونكسات(نا) المتكررة (2- 3)

1300x600

الملمح الثاني لمسألتي التقدم والرجعية وتعاقبهما، والتي وسمت التاريخ المصري الحديث بأكمله، بحيث بدا التقدم والتحديث والحداثة في مصر مشروعا غير منجز بعد، نجده في نص "الميثاق الوطني" الذي قدمه الرئيس جمال عبد الناصر إلى أعضاء المؤتمر الوطني للقوى الشعبية (أيار/ مايو 1962)، باعتباره الوثيقة النظرية لتجربة يوليو 1952، حيث تتكرر كلمة "التقدم"، في تعاقب مع كلمة أخرى، باتت عنوانا دالا: "النكسة".

ظهورها الأول جاء في سياق نقد "الميثاق" لتجربة محمد علي، ففي الباب الثالث منه؛ المعنون: "جذور النضال المصري"، يقدم "الميثاق" تجربة محمد علي هكذا: "كانت اليقظة الشعبية هي القوة الدافعة وراء عهد محمد علي، وإذا كان هناك شبه إجماع على أن محمد علي هو مؤسس الدولة الحديثة في مصر؛ فإن المأساة في هذا العهد هي أن محمد علي لم يؤمن بالحركة الشعبية التي مهدت له حكم مصر، إلا بوصفها نقطة وثوب إلى مطامعه، ولقد ساق مصر وراءه إلى مغامرات عقيمة استهدفت مصالح الفرد؛ متجاهلة مصالح الشعب".

ثم يعرج على تلك المقارنة التي ما زالت ترطنها الألسن حتى الآن: "إن اليابان الحديثة بدأت تقدمها في نفس هذا الوقت الذي بدأت فيه حركة اليقظة المصرية، وبينما استطاع التقدم الياباني أن يمضي ثابت الخطى؛ فإن المغامرات الفردية عرقلت حركة اليقظة المصرية، وأصابتها بنكسة ألحقت بها أفدح الأضرار. إن هذه النكسة فتحت الباب للتدخل الأجنبي في مصر على مصراعيه، بينما كان الشعب قبلها قد رد - بتصميم ونجاح - محاولات غزو متوالية، كانت أقربها في ذلك الوقت حملة "فريزر" ضد رشيد. ومن سوء الحظ أن النكسة وقعت في مرحلة هامة من مراحل تطور الاستعمار؛ فإن الاستعمار كان قد تطور في ذلك الوقت من مجرد احتلال المستعمرات واستنزاف مواردها إلى مرحلة الاحتكارات المالية لاستثمار رؤوس الأموال المنهوبة من المستعمرات، وكانت النكسة في مصر باباً مفتوحاً لقوى السيطرة العالمية"..

هذه هي "النكسة" الأولى كما يصوغها "الميثاق"، أما الثانية فستكون - بحسب الميثاق دائما - من نصيب ثورة 1919، التي تقدم نتائجها على هذا النحو: "هكذا انتهت الثورة بإعلان استقلال لا مضمون له، وبحرية جريحة تحت حراب الاحتلال، وزادت المضاعفات خطورة بسبب الحكم الذاتي الذي منحه الاستعمار، والذي أوقع الوطن باسم الدستور في محنة الخلاف على الغنائم دون نصر".

ثم يأتي الباب الرابع تحت هذا العنوان: "درس النكسة"، الذي يمثل استيعابه من وجهة نظر "الميثاق" مقدمة لـ"الثورة": "لقد كانت فترة الخطر الحقيقي على نضال الشعب المصري الطويل؛ هي هذه الفترة الحافلة بالخديعة، ما بين انتكاسة سنة ١٩١٩ إلى حين تنبهت القوى الشعبية للخطر الذي يتهددها من منطق المساومة والاستسلام؛ ومن ثم بدأ التأهب النفسي لثورة يوليو سنة ١٩٥٢".

نكستان، إذا، قبل أن يحل 5 حزيران/ يونيو 1967، الذي سيجد الكلمة منتظرة، لتكون الثالثة. وكأن تقدم(نا) مجهض دائما، تقطعه "نكسات" متكررة ذات أبعاد متباينة، لكنها جميعا تؤكد أن تاريخ القرون الثلاثة الماضية بالنسبة للمصريين كان بحثا عن تقدم مفقود؛ بينما النكسات هي العلامات الفارقة فيه، حيث تبدو كلمات هيغل عن "الشرقيين" ذات مصداقية ما.

مفاهيم التاريخ والتقدم بحسب هيغل كانت تجد ترويجا في غالب الأوقات، وإن كانت النظرات المضادة لم تدخر وسعا في تبيان العكس.

الصياغة الأشهر للترويج الدعائي السياسي جاءت في كتاب "نهايةُ التّارِيخ والإِنسانُ الأخير"، للكاتب الأمريكي فرانسيس فوكوياما. ففي صيف 1989 - مع نهاية الحقبة السوفييتية وإعلان "هزيمتها" في الحرب الباردة - نَشَرت له مجلة "ناشيونال إنترست" مقالاً بعنوان: "نهاية التاريخ؟"، وأُطْروحَتهُ الأساسيَّة أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، والفردية، والمساواة، والسيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية".

في الدفاع عن وجهة نظره، يشير فوكوياما إلى أنه يعني بالتاريخ ما قصده هيغل أو ماركس، أي "خطوات التطور الشاملة للمجتمعات البشرية، من الثقافات الزراعية، إلى الملكيات وحتى الديمقراطية الليبرالية، وليس بالضرورة أن يحدث ذلك في خط مستقيم، لكنه على أي حال ليس دائريا. فهناك توجه إلى هدف، وهذا الهدف (الديمقراطية الليبرالية) قد تحقق في خطوطه الأساسية".

لكنه ينفي ارتكازه على ماركس؛ الذي يؤكد على العامل المادي: الاقتصادي- الاجتماعي، ويعلي عليه "سعي الإنسان الملح للاعتراف، وإثبات الوجود. وهذه العملية تجري بطريقة غير اقتصادية. ففيها لا يفكر المرء بداية بأرباحه المادية. إنه يريد الإثبات فقط. وهذا كل شيء. فماركس أكد على اللون الخطأ من ألوان الغائية التاريخية. أما هيغل فقفد رأى التقدم في التاريخ بشكل أوضح. تحدث هيغل عن الكفاح العقلاني من أجل إثبات الوجود، ورأى أن القومية تشكل الجانب اللا عقلاني من ذلك الكفاح. ولم ينكر هيغل أهمية السعي نحو الرفاه المادي، لكنه وضع التقدم في الوعي في المقدمة، ولذا أرجع إلى هيغل وأستند عليه، وليس إلى ماركس".

ولتذكيرنا باستبعاد هيغل لنا - الشرقيين - من التاريخ، يلفت فوكوياما إلى أنه يفرق في كتابه بين الدول التي ما تزال في "مسار التاريخ" وتلك التي بلغت نهاياته. وهذا مثل القطار، تصل عربته الأولى، وتكون عرباته الأخرى ما تزال سائرة تحتاج إلى وقت للوصول والاستقرار. لكن عربات القطار مترابطة، ولذا ستصل حتما إلى موطن الاستقرار ذاته. وأزعم أنا أن موطن الاستقرار والهدف المقصود هو الديمقراطية الغربية.

النظرات المضادة لم تكن خافتة، وهي في ازدياد خلال العقدين الماضيين؛ خاصة في أمريكا، وهي تجد مرجعيتها الرئيسية في كتاب "تدهور الحضارة الغربية"، الذي أصدره الفيلسوف الألماني أوزفالد شبينجلر (1880- 1936). فهو إذ بدأ كتابه عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، نقض مجمل الطرح الفلسفي الألماني المثالي؛ في صياغته الكانطية والهيغلية، وبمثالية مضادة عارض النموذج "الغربي" لرؤية العالم وللمركزية الأوروبية فيه. وعارض - بالأخص - تقسيم التاريخ خطياً، فالتاريخ عنده لا يقسم منطقياً إلى فترات بل إلى ثقافات تطورت كما تتطور الكائنات الحية، أي تنشأ وتنمو وتبلغ ذروتها وتتدهور.

ويذكر ثماني ثقافات: البابلية والمصرية والصينية والهندية والميكسيكية (المايا والأزتيك) والكلاسيكية (اليونانية/الرومانية) والعربية والغربية أو الأوروبية- الأمريكية. ويركز على الأخيرة واصفا إياها بأنها "فاوستية"، نسبة إلى فاوست، الذي تسمى باسمه مسرحية الكاتب الألماني الأشهر يوهان جوته (1749- 1832). وهو نظير "القوى السلبية الدافعة للتقدم؛ الشيطان"، وهو أيضا قرين للرجل الغربي: شخص فخور ولكنه مأساوي، ورغم كفاحه وإبداعه فإنه لا يعرف غاية حقيقية يمكنه الوصول إليها.

ويعتبر الكثير من الكتاب الذين تناولوا الحداثة وقيمها أقوال فاوست - في مسرحية جوته - بمثابة "بيان الحداثة الغربية". ويشدد شبينجلر على أن الغربيين المعاصرين؛ باعتبارهم فاوستيين، ماضون بثبات نحو التدهور، فالعالم الغربي يحتضر وما نشاهده هو الفصل الأخير أو الشتاء للثقافة الغربية- الفاوستية.