آراء ثقافية

عن د. جمال سلامة: جذوة العبقرية

أضاف الموسيقار جمال سلامة إلى عالَم الأغنية الدينية الإسلاميّة بصمةً خاصّةً جدًّا به تتميّز بتعدُّد الخطوط اللحنية- تويتر

في مقالَين سابقَين تعرّضنا سريعًا لأغنيتين دينيّتَين لحّنهما الراحل د. جمال سلامة الذي فاضَت روحُه إلى بارئها الجمعة الموافق 7 مايو، وهما (والله بعودة يا رمضان) وأغنية المقدمة لمسلسل (محمد رسول الله)، اللتان شدا بهما المرحوم محمد قنديل والحاجّة ياسمين الخيّام على الترتيب.


قبسٌ من أغاني رمضان المصرية

 

أربع أغان للمولد النبوي الشريف

والذي لا مِراءَ فيه أنّ فناننا الكبير قد أضاف إلى عالَم الأغنية الدينية الإسلاميّة بصمةً خاصّةً جدًّا به، تتميّز بتعدُّد الخطوط اللحنية، وحاول أن يستفيد أقصى استفادةٍ ممكنةٍ من الطِّباق اللحني Counterpoint والتوافُقات المتواترة في الموسيقى الغربية لإثراء خبرة العمل الموسيقيّ الذي يتغنّى بموضوعاتٍ إسلاميّةٍ صميمة، وكانت النتيجة بالغةَ الفَرادة والتميُّز. واليوم نستعرض نماذج قليلةً من أعماله، وليعذر القارئ الكريم عُجالتَنا، فالمؤكّد أنّ المرحوم د.سلامة يستحق أبحاثًا مطوّلةً في تجليات عبقريته التلحينيّة.

مع صباح – ساعات ساعات:

 

 


أخلص (سلامة) للحالة المتأملة الممسوسة بالحُزن، تلك التي كرّسها (الأبنودي) في كلمات هذه الأغنية، فجاء اللحن في مقام الكُرد، شجيًّا إلى أبعد مدى، واستغلّ حوار الپيانو والقيثار والأورغ والوتريات في المقدمة وبعد تسلُّم (صباح) الغناء. وممّا يبرز حساسية (سلامة) لأثر كل عنصر ينسج منه لحنَه، دقّات الپيانو في أعلى طبقات سلّم الكُرد التي تصاحب صوت صباح في أدائها عبارة (ساعات ساعات) في المذهَب، حيث يصدح صوت صباح الملآن الفخم، وفي خلفيّته تلك التوافقات العالية للغاية، التي تنقل إلينا إحساسًا بأنّ هناك من المشاعر المرتبكة المضطربة ما لَطُف ودَقّ حتى استعصى على التعبير المباشِر، وإنما هو يتردد في ذهن المُطرِبة ولا يَجِد مخرجًا بالكلمات، ولا تكاد تُوحي به إلا الموسيقى الخالصة. 
كذلك يوظف تغيُّر الإيقاع توظيفًا تعبيريًّا موفّقًا، فهو غربي ثنائي بطيء في المّذهب، يخدم التأمُّل الكئيب، ثم يتحول إلى المقسوم الرباعي الراقص مع بداية الغصن الأول "أحبّ كُلّ الناس/ وأتمِلِي إحساس" ليكرّس التنزُّل من الحالة المتعالية للمذهب إلى حالة الالتحام بالناس والامتزاج بعالَمِهم. 

وثَمّ عنصرٌ ثالثٌ هو التوافُقات Chords التي يلعبها الپيانو في طبقةٍ منخفضةٍ جدًّا من سلّم الكُرد Phrygian Scale معقّبًا على جُملة "واحِسّ جُوّايا بمِيتْ نَغَم"، فنشعُر بذلك الزخَم الشعوريّ الذي نقلَته إلينا كلمات الأبنودي وقد تجسَّدَ نغمًا حقيقيًّا يملأ أعماقَنا كما يملؤُه ويملأ عالَم (صباح). وعَودًا إلى توظيف الإيقاع، يتباطأ المقسوم الرباعي مع بداية غصن "أحس قد إيه وحيدة/ وقد إيه الكلمة في لساني ماهيش جديدة" ليخلُق معادلاً موسيقيًّا للوِحدة والملل اللذَين ينفرِد وقعُ الزمنِ فيهما بالإنسان ويكاد يفتِك به، وهو كذلك يبدو الأنسب لاختلاف عدد تفاعيل بحر الرَّجَز بين السطرَين الشِّعريين السابقَين، فالزمن متطاولٌ جدًّا ولا معنى لإحصاء دقّاتِه ولا ما يعبّر عنه من وحدات العَرُوض. ويقابل هذا التباطؤ تسارع الإيقاع في غُصن "أضحك وألعب زي عصفورة رَبيع/ زي النسيم ما يعدّي وِفْ لحظة يضيع" مواكبًا التعبير عن الانطلاق الطفوليّ.  

يخرج اللحن خروجًا قصيرًا إلى جنس الحجاز مع جملة "نفس اللي بيفرّحني هيفرّحني"، وهو تعريجٌ موفّقٌ تمامًا بمجيئه  عقب كلمة "غريبة" التي يفتتح بها هذا الغصن، فرغم الكلمات التي تتحدث عن الفرح ومسبباتِه، اختار (سلامة) لها مقام الحجاز الحزين، وهو ما يعمّق شعورَنا بغرابة موضوع التأمُّل وينحرف بالفرح نفسِه إلى موضوعٍ للتأمل الحزين. 

وبشكلٍ شخصيٍّ للغاية، أعترف أنني كنتُ في طفولتي أضحك من هذه الأغنية، ربما لتكرار المذهب كثيرًا بين أغصانٍ قصيرة. لكنني أدركتُ لاحقًا ما تكتنزُه الأغنية من تعبيرٍ صادقٍ عن المشاعر المرتبكة المتناقضة وما تختزلُه من أعمارٍ طويلةٍ كعُمر مُطربتها الساحرة. 

مع سميرة سعيد:

 
مثّلت مرحلة (قال جاني بعد يومين) و(مش حاتنازل عنّك أبدًا) محطة مهمة في مُنجَز (سميرة) الغنائي، ويعود ذلك من ناحيةٍ إلى الطبيعة الجادّة المائلة للحُزن التي تكتنف الأغنيتين، ومن ناحيةٍ أخرى لتكريسهما مطربتَنا باعتبارها فنانةً من العيار الثقيل، تُعطي كل كلمةٍ حقَّها من الأداء وتلوّن صوتَها تبعًا لمقتضيات السياق الشِّعريّ واللحنيّ، فضلاً عن تمكُّنها من الصعود والهبوط بين الطبقات الصوتية في حِرفيّة أبرزها لَحنا (جمال سلامة). 

 


في (قال جاني بعد يومين) جاء اللحن بالكامل في مقام النهاوند، وهو أحد المقامات المتأملة الحزينة الأثيرة لدى فناننا الراحل. يتكون المذهب لحنيًّا من تتابُعين من الموازير تكرر فيهما سميرة "قال جاني بعد يومين/ يبكي لي بدمع العين/ يشكي من حب جديد/ يحكي وانا ناري تقيد/ وسمعت وفكري شَريد/ وسكِتّ وقلبي شهيد". جاء التتابُع الأول في موازير حادّة تنتهي نهاياتٍ قاطعةً، متبوعًا بأرپيچ ناقص لسلّم النهاوند، مكوّن من تتابع (دو – مي بيمول – صول)، ووظيفة الأرپيچ هي استيعاب المقام صوتيًّا حال انتهائه بالدرجة الثامنة للمقام (جواب دو)، لكن هنا يقف عند الخامسة (صول) وكأنه يقدّم معادلاً موضوعيًّا للسخرية المريرة من الموقف الذي تنقلُه الكلمات، ويمزج بها التعبير عن العجز عن الاستيعاب، فالمرأة العاشقة هنا تكاد تعجز عن فهم اللحظة القدَرية الساخرة التي توقفُها أمامَ مَن تحبُّه وهو يشكو إليها حُبَّه غيرَها.

 

ثم يأتي التتابُع الثاني في موازير تسمح بحِلياتٍ أدائيّةٍ، فهو تكرارٌ لما قالَته المُطربة، لكن بينما تقرِّر حقائق عاريةً في التتابع الأول تؤكد السخرية المريرة الكامنة في الموقف في التتابع الثاني.

 

وخلال هذا التتابع الثاني نسمع في الخلفية الپيانو يصعد سلّم النهاوند الحجازيّ harmonic minor scale في طبقاتٍ عاليةٍ جدًّا وينزلُها، ما يذكّرُنا ببصمة الپيانو في (ساعات ساعات)، فهنا أيضًا يُوحي إلينا (سلامة) بتلك المشاعر التي تعجز الكلمات عن أن تعبّر عنها ولا تجدُ متنفّسًا إلا في الموسيقى الخلفية التي تشُبُّ كالنار في ذهن بطلة المونولوج الغنائيّ، فربما هي تتذكّر كلّ ما بذَلَته لحبيبها، وربما تتصوّر ما يكون بينه وبين المرأة الجديدة من لحظات حُبٍّ تؤجج نيرانَ غيرتِها أكثر.        

بعد اللازمة الموسيقية يتكرر المذهب مصطبغًا بزخارف أدائيّة تُضيفُها (سميرة) تتعدى مرحلَتي تقرير الحقائق والسخرية المريرة إلى خلق معادِل غنائي للبكاء. أما نهاية الأغنية فتتكون من غناء كلمات المذهب متبوعةً بسطور "شايفين الظلم يا ناس ... إلى النهاية" في طبقاتٍ أعلى في النهاوند، ويصحب صوت (سميرة) فيها خلفية من جوقة الرجال في (آه) طويلة متّصلة، معبّرةً عن اندلاع نار الحُبّ العظيم غير المُكافَأ في قلب البطلة. 

مقدمة ونهاية ذئاب الجبل:


للوهلة الأولى كان يبدو أنّ موسيقيًّا ذا تكوينٍ غربيٍّ تصدَح الأوركسترا في جَنبات ذهنِه وتتشكّل ألحانُه على صفحةِ وجدانِه متعددةَ الأصوات كما هو حالُ فناننا الكبير رَبيب معهد تشايكوفسكي للموسيقى في موسكو، حين يتصدّى لمسلسلٍ مُتلفَزٍ تدور مأساته في صعيد مصر، فسيُخرج لنا لحنًا له تلك الملامح المميزة التي رأيناها في ألحانه الدينية والتأمُّليّة والعاطفيّة والوطنيّة (كما في أغنية بيروت ستّ الدنيا التي لحّنها لماجدة الرومي). وهكذا مثَلاً كان فِعل الموسيقي الكبير د. راجح داوُد حين وضع الموسيقى التصويرية لفِلم (خريف آدَم)، فقد انطلَق من وجدان الربابة والمزمار الصعيديين إلى غَزل خيوطِه الپوليفونيّة في اقتدار.

 

لكنّ (سلامة) حين تصدّى لمسلسل (ذئاب الجبل) طرحَ جانبًا خيوط الأوركسترا وآثَرَ أن يتوحّد مع الوجدان الصعيديّ الذي يُنشِدَ مآسيَه منفردًا ويستغرَق في عالَمِه الداخليّ البسيط، لكنّه يأسرُنا بإخلاصِه لهذا العالَم وشعورِه الجارف بتفاصيلِه. 

 


يبدأ لحن المقدّمة بدايةً خادعةً تستعرض سُلَّم الراست هبوطًا لتستقرّ على أساس مقام الهُزام. هكذا نعرف أنّ ما نراه من فرَحٍ صعيديٍّ يعادلُه مقامُ الراست ما هو إلا مظهرٌ خادعٌ يُبطِن مأساةً لابُدّ أن تلقي في أرواحنا بلوعةٍ صعيديةٍ تكادُ تكونُ جوهرَ الحياة كما قدَّمها لحنُ (سلامة) الرائع رغم بساطتِه.

تتسلّم جوقة الرجال الغناء في نفس المقام ومنها يتسلّم (علي الحجّار)، وتظلّ الربابة دائمًا في الخلفيّة موازيةً لأداء الحجّار ومنوّعةً على جُمَله الموسيقية تنويعاتٍ خفيفةً في فواصلِ غنائه، بينما يظلّ المزمار مشتعلاً متصدّرًا اللحن إلى النهاية، وبينهما ومعهما تنطلق الوتريات وَحدةً واحدةً لا يحاولُ (سلامة) أن يوزّع عملها توزيعًا پوليفونيًّا كعادتِه إلا في أضيَق الحدود. ويعرّج اللحن على الراست في جُمَل "شبعان من الأسيّة/ الدم يبقى مَيَّة/ أنا في الغربة ساكن/ الجرح ف قلبي ماكِن/ دا لكلّ ديب حكاية/ فيها عبرة وآية"، لكنه سرعان ما يعود إلى مستقرّه في مقام الهُزام. هكذا أرادَ (سلامة) أن تكون أغنية المقدمة مونولوجًا مخلصًا للإنشاد الصعيدي/ العربي الفردي، وأن يكون ما يصاحبها من رقصٍ أقربَ إلى رقص المذبوحين أو المُلتاعِين. 

 


أمّا لحن النهاية فيبدأ كلحن المقدمة بجوقة الرجال بعد لازمة آليّة قصيرةٍ تفرشُ للمُغنِّين مقامَ البياتي الدافئ، ويظلّ المقام مهيمنًا على الأغنية باسطًا عليها الإحساس بالاكتمال والوصول إلى بُغية الرحلة وحضن الأهل، إلا في تعريجاتٍ كثيرةٍ على مقام (الصَّبا) مع تسلُّم (الحَجّار) الغناء من الجوقة في "يا زمان حنون وغادر/ أنا مين؟ ما تشوفني تاني/ الواد ابو ضحكة تطلع/ مِ القلب الّاخضراني"، يعود منها سريعًا إلى حضن البياتي الدافئ في "واللي زارع في صوته/ فدّان ورد وأغاني/ مالي دِبلِت ورودي/ وكاس همّك سقاني"، ثم يعرّج مجددًا في "وانت مزمزم قيودي" ليعود عَودًا أسرع إلى البياتي مع قوله "وكرباجك كواني".  

هذا التردّد السريع بين البياتي أصلاً والصَّبا فَرعًا في لحن النهاية يبدو بمثابة تفسيرٍ موسيقيٍّ لكلمات الأبنودي القادرة، فالصَّبا المفعَم بالحزن يكتنفُ البطلَ كثيرًا ويختطفُه من رحلته بل يكاد يصبغها بالحُزن، إلاّ أنّ الحالَ العامّة لهذا البطل الصعيديّ هي الرّضا بحُكم الزمن أو النزولُ على أمرِ الله، حتى إنّ جُملة "وكرباجك كواني" هي لحظة عودةٍ من الصَّبا إلى البياتي، فكأنّ البطلَ وهو يشكو صنيعَ الزمانِ به يداعِبُ هذا الزمانَ ويبتسمُ له! 

في هاتَين الأغنيتَين لم يُسرف (سلامة) في النقلات المقاميّة، وهو تصرُّفٌ عوَّدَنا إيّاه في ألحانه الپوليفونيّة، فقد رأينا (ساعات ساعات) لا تَخرُج عن الكُرد إلا إلى الحجاز خروجًا سريعًا، وفي (بيروت ستّ الدنيا) يراوح بين العجَم والنهاوند أساسًا. وربما كان هذا الاقتصاد في النقلات المقامية نابعًا من قناعةٍ لدى أستاذنا الراحل، مُفادُها أنّ الأغنية إن كثُر فيها الخروج من مقامها الأساسيّ المسيطر على مذهبِها تفقد تماسُكَها وتشتّت وجدان المتلقّي، أو إنّ النقلات المقامية الكثيرة كانت تبدو له زُخرُفًا – ربّما رخيصًا – يُفسِد مَتنَ المعمار اللحني وإن كان بسيطًا كما في (ذئاب الجبل). الأمر بالنسبة لي أقربُ إلى سؤالٍ، وربما يحتاج للإجابة عنه إلى قراءةٍ أعمق وأبطأ لمُنجَز (سلامة) اللحني. 

لكن يبقى في النهاية أنّ د. جمال سلامة كان جذوةً من العبقرية التلحينية التي تُحسِن اختيارَ الهيئة الموسيقيّة لكلّ سياقٍ شِعريٍّ تتصدّى له، وأنّ بصمتَه خالدةٌ في المدوّنة الموسيقية المصرية العربية.