آراء ثقافية

عائد "من" حيفا.. "خلدون يعانق خالداً"

artworks-000091572804-08zsvg-t500x500

ذهب "سعيد. س" إلى حيفا مهزوماً على كل الصعد، لكنّه عاد منها منتصراً على الصعيد المعنوي.


الانتصار المعنوي ضروري دائماً في الحروب طويلة الأمد، وثماره كثمار النخل لا تُجنى إلا بهزّ الشجرة من جذعها.


بنى غسان كنفاني الحبكة الدرامية في روايته القصيرة "عائد إلى حيفا" على فرضية معقدة، ليكشف من خلالها التداخلات المعقدة التي خلفتها النكبة عام 1948.

ليس أول هذه التداخلات الحدث الافتتاحي في الرواية المتمثل في رحلة العودة للفلسطيني "سعيد. س" إلى مدينته المحتلة يافا بصحبة زوجته "صفية"، بعد مرور عشرين عاماً على غيبته القسرية عنها، لكنها عودة المهزوم هزيمة ثانية في النكسة 1967.

المهزوم مرتين من العدو نفسه يفقد إيمانه بقدراته، ويهرب من واقعه المخزي إلى جنة الرغبات المريحة بإمكانية محو آثار الهزيمة من دون مواجهة العدو.

هذا التوصيف ينطبق تماماً على "سعيد. س" في رحلة عودته إلى يافا، لا يقود شيئاً غير سيارته وشريكته في الهزيمة زوجته "صفية".


لكنّ يافا مدينة حقيقية مثل أي مدينة على وجه الخريطة، ليست يوتوبيا لتفتح ذراعيها ترحيباً بابنها الذي فرّ منها قبل عقدين من الزمن، وتركها للغرباء.


استقبلته يافا مثلما استقبلته اليهودية "مريام" في بيته، استقبال الغريب. وهذا الاستقبال كان ثاني التداخلات المعقدة في حكاية "سعيد. س"، فالمدينة هي هي كما تركها، لكنها لم تعد مدينته، ولا البيت بيته.


المهزوم مرتين لا تنفعه الذاكرة، ولا استنهاض الماضي، في ترميم الروابط المهدّمة مع مدينته؛ الشوارع الرئيسية كما هي، والمنعطف الحاد المفضي إلى بيته، وشجرة السرو التي اعتاد أن يركن سيارته في ظلها، والسور، والدرَج المفضي إلى البيت، والباب.

لا يريد "سعيد. س" أن يرى اللحظة الراهنة، وأن يقرّ بالحقيقة الماثلة أمامه. لقد جاء يقود عربة الوهم ليدخل مدينته متقنّعاً بالماضي، متجاهلاً إدراك حقيقة أنه يطلّ من كوة زمنية بين عالمين يمرّان في مكان واحد ولا يلتقيان أبداً.

مترددا،ً يعكس تردده خوفه من الحقيقة، يلج "سعيد. س" بيته بترحيب من مالكته اليهودية "مريام"، وهي في حالة غير حالته؛ حالة تسمح لها بالجمع بين الزمن الماضي والزمن الحاضر على أرضية صلبة، وتسمح لها  أن تعرف ضيفها قبل أن يعرّف بنفسه، وتسمح لها أيضاً أن تعرف حاجته إلى التمسك بالوهم لأطول مدى ممكن، وتجيب عن سؤاله الكبير من غير أن تكلّفه عناء طرحه.

صدْق أجوبة "مريام" نابع من موقعها المتفوق، من ثقتها بأنها تملك الآن ما كان يملكه "سعيد. س" في الماضي. امرأة متصالحة مع نفسها إلى حد الاعتراف بأن ابنها البالغ من العمر عشرين عاماً يشبه في الملامح "سعيد. س".

لم لا ترحب "مريام" بالزوجين اللذين قدّما لها على طبق من فضة بيتهما وابنهما الرضيع في شهره الخامس، ولم لا تقدم لهما كلّ الوقت الذي يحتاجانه ليصحوَا من وهمهما، ولم لا تلقنهما درساً في العدالة القاسية؟


يتحوّل البيت إلى مسرح في الفصل الثاني من الرواية، في المشهد الذي يرجع فيه الابن إلى البيت. سيقدم "سعيد. س" مرافعته على وقع نشيج صفية؛ مرافعته التي لم يحسن الإعداد لها.


هل يرافع من أجل حقه في الابن، أم البيت، أم المدينة، أم فلسطين كلها؟ أم يكتفي بالمطالبة بريشات الطاووس التي تركها في المزهرية في صالة البيت قبل عشرين عاماً، وكان عددها سبع، وهي الآن خمس؟


اختار الابن أن يكون يهودي الهوية، إسرائيلي الانتماء. بزته العسكرية أعلنت عن ذلك الاختيار قبل أن تعلن عنه الكلمات. يافا كلها أعلنت عن ذلك، لكن "سعيد. س" رفض أن يصدّق.


ينشغل "سعيد. س" بالسؤال عن الريشتين المفقودتين من ريشات الطاووس السبع. وهذه استراتيجية دفاعية نفسية، لا عقل فيها ولا منطق. يلجأ إليها الذاهل على نحو لاإرادي، لأن عقله مشوش ومشاعره مضطربة.


العلاقة البيولوجية ليست حجة مقنعة في محكمة العدالة القاسية. والماضي ليس حجة على الحاضر في ميزان الأمر الواقع.


يخسر "سعيد. س" قضيته لأن دفوعه مفككة، وأسس مرافعته أنانية، ورؤيته للقضية محدودة، وإيمانه بها ضعيف.


يخسر سعيد ابنه لأنه فصله عن بيته، ويخسر بيته لأنه فصله عن مدينته، ويخسر مدينته لأنه فصلها عن كل فلسطين.


أدرك أنّ عليه أن يضع استراتيجية جديدة شاملة، لا فرق فيها بين وطن النكبة ووطن النكسة. ولا بين عودة ابنه "خلدون" إلى حضنه وعودة ابنه الثاني "خالد"، المولود في اللجوء، إلى حضن فلسطين.

ولكي يكسب قضيته يدرك "سعيد. س" أنّ عليه أن يكفّ عن عدّ الريشات، وتدرك "صفية" أن عليها أن تكفّ عن النشيج المتواصل. ويدرك الزوجان أن عليهما أن  يتخلّصا من خوفهما الغريزي الذي أدّى إلى ضياع ابنهما الأول، وأن يتجرّدا من أنانية الأبوين التي تمنع ابنهما الثاني من شقّ طريقه الخاص إلى فلسطين، وليس عبور الطريق الذي فتحه المحتل.

ما يخلص إليه قارئ الرواية اليوم أنّ حالة "خلدون" المستعصية ما زالت حية وقابلة للتغيّر، وملفه ما زال مفتوحاً، وهويته العربية متقدة تحت ركام أكثر من سبعين عاماً من التهويد، وصوته العربي يعلو في أحياء يافا واللد، ويزداد علواً كلما علا صوت أخيه "خالد" في القدس ورام الله وغزة.