قضايا وآراء

فاجعة طنجة.. وكشف المستور

1300x600
نحو 130 مغلوبا على أمره وأمرها ألجأتهم ظروفهم منذ سنوات خلت للعمل بشكل سري في مرآب سيارات تحت بناية سكنية بمدينة طنجة شمالي المغرب، في حياكة ملابس تحمل شعارات شركات عالمية! وعندما زاد منسوب الأمطار قليلا تعرض ذلك المكان الذي دهمته السيول لتماس كهربائي أودى بحياة العشرات منهم رحمهم الله تعالى، منهم شابة كانت ستُزَف عروسا في قادم الأيام قدّر لها أن تلبس كفنا أبيض بدلا من ثوب الزفاف الأبيض.

كان الله في عون من تركوهم وراءهم من عائلات وأطفال لم يكونوا ليجدوا كفافهم حتى في حياة معيليهم، فما بالك بعد رحيلهم؟

مرآب تحت الأرض مساحته 150 مترا مربعا وعمقه ثلاثة أمتار ونصف تدهمه الأمطار، ليتعرض العاملون فيه لصعقات كهربائية ولا يتمكنون من الخروج نظرا لافتقار المكان غير القانوني لعوامل السلامة اللازمة.

شهداء لقمة العيش الذين قضوا نحبهم في ظروف غير طبيعية بالنسبة لعوامل الاحتياط والوقاية، حتى لو كانت السيول والأمطار الطبيعية هي السبب المباشر لذلك.
شهداء لقمة العيش الذين قضوا نحبهم في ظروف غير طبيعية بالنسبة لعوامل الاحتياط والوقاية، حتى لو كانت السيول والأمطار الطبيعية هي السبب المباشر لذلك

ستطوى صفحتهم وينساهم الناس بعد أيام، وستبقى ذاكرة قصتهم الحزينة مصاحبة لذويهم وأحبابهم فيما بعد.

وهنا أحاول أن أفكر قليلا بحال ذلك المسؤول الذي ساهم بشكل أو بآخر بوقوع هذه الكارثة، سواء أكان مالك المصنع أو البناية أو أي شخص عامل في الرقابة والمتابعة لمثل هذه المخالفات، فضلا عن المعني بتوفير فرص حياة كريمة للمواطنين تنأى بهم عن العمل في مثل هذه الأماكن. ولا أدري حقا كيف يستطيع ذلك المسؤول الذي قبل بضعة دراهم من أجل السكوت عن هذا الوضع غير القانوني وغير المرخص؛ أن يغمض جفنه وينام قرير العين بعد أن أزهقت أرواح البشر فيه إثر ذلك التسيب!

وأفكر هنا بتوجيه دعوة مفتوحة لكل من تساهل في شروط ومواصفات البنى التحتية لذلك المكان، حتى ظهر عاجزا عن التعامل مع ارتفاع منسوب مياه الأمطار ليتحسس نبضه، فربما يكون قد مات وهو لا يدري، فلا حياة تذكر أو تحترم لمن مات ضميره.
كيف يستطيع ذلك المسؤول الذي قبل بضعة دراهم من أجل السكوت عن هذا الوضع غير القانوني وغير المرخص؛ أن يغمض جفنه وينام قرير العين بعد أن أزهقت أرواح البشر فيه إثر ذلك التسيب؟

خسائر الأرواح في ذلك المكان لحقتها خسائر مادية أحدثتها الفيضانات في البنية التحتية بحيي إيناس والعبوري بطنجة، واللذين أصبحت بيوت كثير من السكان فيهما غير صالحة للعيش.

ليست الحادثة الأولى في المغرب، فالناس يذكرون حادثة روزامور عام 2008 التي ذهب ضحيتها 56 شخصا، و‏تيشكا في 2012 التي قضى بها 42 شخصا و‏طانطان 2015 وقد ذهب ضحيتها 33، و‏الصويرة 2017 وقضى بها 15 شخصا. وحتى الآن لا أحد يعرف شيئا إلا القليل عن نتائج التحقيقات في تلك الكوارث!

هذا الأمر ليس في المغرب وحده؛ فلا يكاد بلد عربي أن يكون خاليا من حوادث مماثلة، وما كوارث القطارات في مصر وانهيارات الملاجئ في موريتانيا وفيضانات جدة وسقوط الطائرة السودانية؛ وغيرها الكثير من القصص عن ذلك ببعيد.

‏والتحقيقات إن تمت تضع اللائمة على الحلقة الأضعف في الغالب، مثل سائق القطار أو موظف صغير في بلدية وما شابه، ونادرا ما يقال أو يستقيل الوزير المسؤول، بل إن كثيرا من القوانين في الدول العربية تمنع المواطن من مقاضاة البلدية أو الوزارة المعنية بذريعة عدم الخصومة، فمثلا إذا تسببت حفرة في الشارع نتيجة إهمال من البلدية بعطل بسيارتك أو حادث لك، لا تستطيع مقاضاة البلدية المعنية باعتبار أن البلدية لا تضمر شيئا سلبيا تجاهك ولا خصومة لها معك، وبهذا تعين القوانين بشكل غير مباشر الموظفين الحكوميين على التسيب والإهمال.

وعليه يقاس انعدام قوانين المساءلة الطبية في بلادنا، حيث لا يستطيع المواطن مقاضاة أي جهة طبية حتى لو كانت متسببة بشكل مباشر بأذى له أو لأحد من عائلته، وحينها تسمع بحوادث اعتداءات - غير مبررة طبعا مهما كان العذر - من ذوي مرضى رأوْا إهمالا أو تقصيرا بحق مرضاهم الذين قضوا نحبهم، وعليه رغبوا بالانتقام والثأر، فتجدهم يضربون ويعتدون لأنهم ببساطة لا يشعرون بوجود قانون يحميهم. وذلك الذي يعمل في تلك الأسواق السوداء والموازية بظروف غير إنسانية يفهم تماما غياب الدولة عن حمايته أو توفير احتياجاته الضرورية إن لم يستطع تأمينها، وأعني هنا الخدمات الأساسية مثل المسكن والمطعم والعلاج.

أذكر هنا القصة الشهيرة للغربي الذي سأل عربيا عن أحلامه فتحدث عن رغبته بالزواج والسكن والعمل! فقال له الغربي مستدركا: أنا لا أسألك عن حقوقك وإنما عن أحلامك! تلك الأساسيات والضرورات غدت أحلاما لذلك المواطن العربي المغلوب على أمره، ورغم امتهان الدولة التسول والاقتراض باسمه دوليا، إلا أنها تنتهك حقوقه يوميا بسيادة الظلم وانعدام المساواة وتنامي الفساد ورؤوسه، فيزداد الغني غنى والفقير فقرا.
ماذا لو كان ذلك المكان يضم مقرا لحراك مثل حراك الريف، هل ستغض الدولة وأجهزتها الطرف عنهم؟! وهل يمكن أن يتجاهل وجودهم الموظف المعني بعد رشوة صغيرة؟! بالتأكيد لا، فهذا خط أحمر لا تهاون به

وعودة لفاجعة طنجة أتساءل: ماذا لو كان ذلك المكان يضم مقرا لحراك مثل حراك الريف، هل ستغض الدولة وأجهزتها الطرف عنهم؟! وهل يمكن أن يتجاهل وجودهم الموظف المعني بعد رشوة صغيرة؟! بالتأكيد لا، فهذا خط أحمر لا تهاون به.

وعليه، نؤكد أن حالنا لا يمكن أن ينصلح، وأوضاعنا لا يمكن أن تتحسن إن لم نعد رسم خطوطنا الحمراء لتصبح حياة المواطن وسلامته هي الخط الأحمر الذي لا جدال فيه، ومن بعده تخضع باقي الخطوط لحسابات المواءمة والمقاربة.

وعندما يكون "سيد القوم خادمهم حقا" يسود معنى المواطنة الحقة، وتترسخ قيم العدالة التي تساس بها الشعوب المتقدمة.