قضايا وآراء

"العربية تونس" وعقدة الديمقراطية

1300x600
بشرتنا قناة العربية قبل أيام بأن الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، قد تلقى ما وصفتها بـ"خسارة مدوية" في الانتخابات الداخلية للمكتب التنفيذي للحركة، وبأنه "فقد وزنه" داخل الحركة، بعد خسارة من وصفتهم بأنهم "قيادات داعمة" له في تلك الانتخابات. لكن ما لم تقله القناة، أن الغنوشي نفسه كان قد صرح في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أنه لن يترشح لرئاسة الحركة لفترة ثالثة، احتراما للقانون الداخلي للحركة. كما قدم قائمة توافقية في انتخابات المكتب التنفيذي، تجمع بين داعميه ومعارضيه، لاحتواء الخلافات الداخلية وتقريب وجهات النظر.

بالتأكيد هناك ملاحظات عديدة على أداء الغنوشي في الحركة والبرلمان، والذي يمكن أن يوصف بأنه غير جيد في المجمل، لكن قناة العربية بالطبع لا تنطلق من هجماتها المستمرة على الغنوشي من خوف على الديمقراطية لا سمح الله، بل العكس تماما، إذ يبدو أن استمرار وجود مؤسسات منتخبة ديمقراطيا في تونس قد أفقد القناة صوابها، وجعلها تنشر أخبارا عبثية للغاية.

وتعتبر تغطية محاولة سحب الثقة من الغنوشي قبل أشهر، مثالا نموذجيا لمساخر القناة، فبعد فشل سحب الثقة، علقت القناة قائلة إن البرلمان التونسي "أخفق" في سحب الثقة من الغنوشي! وكأن سحب الثقة كان عبارة عن تحصيل حاصل وطبيعي، وكأن العيب أصبح في البرلمان الذي فشل في تحقيق تطلعات وأمنيات القائمين على قناة العربية! كما قالت القناة في خبر آخر إن البرلمان أسقط لائحة سحب الثقة من الغنوشي "رغم تصويت 97 نائبا لصالحها"! وتجاهلت ذكر أن اللائحة تتطلب 109 صوتا لتمريرها من أصل 217 هم كامل أعضاء البرلمان، وهو ما لم يتحقق. لكن القناة حاولت بتلك الصياغة الإيحاء بأن معارضي الغنوشي عددهم كبير، بينما هم في الحقيقة أقل من النصف.

كما لجأت القناة إلى السياسيين الذين فشلوا في نزع الثقة منه، وأبرزهم عبير موسى، ذيل المخلوع زين العابدين بن علي، للإدلاء بتصريحات مضحكة تكشف عن حجم صدمتها وصدمة القناة نفسها، مثل القول بأن "الغنوشي فقد مشروعيته" وأنه "سقط سياسيا"، رغم أن التصويت الذي دعوا له قد فشل لتوه وتم تجديد الثقة بالغنوشي! بالإضافة إلى التشكيك في نزاهة عملية التصويت نفسها، بل واتهام بعض النواب بـ"الخيانة" لأنهم عبّروا عن رأي مخالف لها.

ولم تختلف قناة سكاي نيوز عربية، شقيقة قناة العربية في الكذب، في تغطيتها، إذ قالت إن الغنوشي "نجا قانونيا وسقط سياسيا"، وهو مفهوم جديد للديمقراطية لا يوجد في أي مكان في العالم إلا في مخيلة القائمين على القناة. ونقلت القناة عن نائبة في الحزب الدستوري الحر، الذي ينتمي لحقبة المخلوع ابن علي، قولها إن "الغنوشي سقط سياسيا حتى وإن لم تنجح عملية سحب الثقة"!

المحاولات الفاشلة لتقويض المؤسسات الديمقراطية في تونس تذكرنا بما كان يحدث في مصر قبل ما يقرب من ثماني سنوات، عبر استهداف كل المؤسسات الديمقراطية بالتشويه والحصار والشائعات قبل حلها بقوة القضاء أو الدبابات، بحجة محاربة الإخوان، بينما كان الهدف هو القضاء على الديمقراطية تماما، وهو ما يحدث بالضبط الآن، عبر استهداف البرلمان التونسي، وتضخيم الدعوات لحله، ومحاولة الوقيعة بينه وبين الرئاسة.

فقد نشرت العربية في تموز/ يوليو الماضي، ما اعتبرته "تسريبا صوتيا" للغنوشي، يعرض فيه بعض الانتقادات الموجهة للرئيس قيس سعيد، ومنها أنه "يتحدث فيما لا يعرف"، لكن القناة كذبت كعادتها وقالت إن الغنوشي هو من يتهم الرئيس بهذا الكلام، وليس أنه يعرض ما يقوله المنتقدون، رغم أن المقطع واضح لا شك فيه، لكن يبدو أن القناة اعتمدت على أن العديد من القراء سيقرأون النص المصاحب للتسجيل ولن يسمعوه، اعتمادا على أن القناة بالتأكيد لن تلجأ لهذا الكذب الصارخ، لكن القناة كالعادة خيبت الظنون ووصلت مستوى جديدا من الانحطاط.

وكانت العربية قد شنت قبل ذلك حملة مع وسائل إعلام خليجية أخرى، زعمت أن ثروة الغنوشي تضخمت وبلغت مليار دولار! رغم أن الأخير كشف عن ممتلكاته مرتين، الأولى بصفته رئيسا للنهضة والثانية بصفته رئيسا للبرلمان، ولم تشكك أي جهة رسمية في ذمته المالية. وبالفعل تقدم الغنوشي ببلاغات للنيابة العامة ضد من يروجون لتلك الأكاذيب.

المضحك أن مزاعم قناة العربية استندت إلى عريضة الكترونية تقول بالنص: "وقد قدرت مصادر إعلامية ثروته بمليار دولار، في حين تتحدث مصادر إعلامية أخرى عن مبلغ يساوي ثمانية أضعاف هذا الرقم"! أي أن كل الجلبة التي صنعتها القناة ومثيلاتها استند إلى "تقارير إعلامية" هي من نشرتها في الأساس! وهو ما يمكن أن نطلق عليه "إعادة تدوير الشائعات" عبر إطلاقها ثم انتظار جهة تصدقها وتتخذ إجراءات بناء عليها، ثم تغطية تحركات تلك الجهة وكأنها تطورات سياسية مستقلة.

والطريف أيضا في نفس السياق، أن تقريرا للقناة نشر على موقعها الإلكتروني في أيار/ مايو الماضي يقول: "يحيط الغموض بمصدر الثراء الفاحش للغنوشي، الذي تملّك خلال تسع سنوات قصورا وعقارات في مناطق راقية وسيارات فخمة"، دون أن تأتي بدليل أو مصدر واحد يدعم هذه المزاعم، إذ تعاملت مع "ثراء الغنوشي" وكأنه حقيقة مثبتة، ولا ينقص إلا الكشف عن مصدر هذا الثراء.

كما زعمت قناة العربية كذلك أن السودان قرر سحب جواز السفر السوداني من الغنوشي، رغم أن الأخير كان قد سلم جواز سفره السوداني إلى سفارة الخرطوم في لندن عام 1993، بعد حصوله على حق اللجوء السياسي هناك، وذكر تلك القصة أثناء زيارته للسودان عام 2011. وكانت الحكومة السودانية قد منحت الغنوشي ذلك الجواز بعد خروجه من تونس مطاردا من قبل نظام ابن علي.

ولم تتورع قناة العربية كذلك عن الاستعانة بالأموات أنفسهم لمهاجمة حركة النهضة، إذ نشرت تسجيلا لما قالت إنه بين زين العابدين بن علي ومحاميه، وفيه ينفي الاتهامات الموجهة إليه بالقتل والتعذيب والفساد وتهريب الأموال، ويتهم قياديين في حركة النهضة بتلفيق تلك التهم. ومن الطبيعي أن يلجأ ابن علي للإنكار ويحاول تبرئة نفسه، لكن من غير الطبيعي أن تتلقف قناة العربية ذلك التسجيل وتنشره وتتعامل معه باعتباره حدثا هاما، لمجرد الهجوم على حركة النهضة! رغم أن القضاء التونسي هو من أدان ابن علي وليس الحركة. وقد أحسنت الحركة عندما تجاهلت الرد على ذلك التسجيل التافه، وقالت إنها لا ترد على أموات.

في حزيران/ يونيو عام 2019، وصفت العربية الغنوشي بأنه "ورقة النهضة المحروقة"، لكن يأتي عام 2021 ولا يزال الغنوشي رقما صعبا في السياسة التونسية، ولا تزال المؤسسات الديمقراطية في تونس تعمل رغم كل الصعوبات والانتقادات، ولا تزال العربية تحترق بأكاذيبها عن التجربة التونسية. فمن تركيا إلى سوريا وفلسطين وحتى ليبيا وتونس، يبدو أن الهزائم المتتالية التي تلقاها حلفاء قناة العربية ومن يقفون وراءها، أفقدتهم صوابهم، وجعلتهم ينشرون تلك المساخر ويصرون عليها دون توقف.