قضايا وآراء

مع الحياة.. ضد القراءة

1300x600
بالنسبة لي، لذة قراءة كتاب محشو بالأفكار الجديدة لا توازيها لذة، لأنها تورثني انتشاء عقليا يدوم. أنا أخاف من قراءة الروايات، لأنني أغرق فيها، فالروايات آراء، أما الكتب فأفكار. أنا أفضل الحقيقة على الكذب، الواقع على الخيال. لكن الرواية المستندة إلى السيرة الذاتية تزداد أهمية مع مرور الوقت. هذا الجنس من الأدب ليس مزيجا من الحقيقة والخيال، بل هو مد وتعميق للحقيقة. إنه أشد أصالة وصدقا من المذكرات. ليست الحقيقة المهلهلة للوقائع هي ما يقدم مؤلفو هذه الروايات المستندة إلى السيرة الذاتية، بل حقيقة الانفعال، والتأمل، والفهم، الحقيقة المهضومة والمتمثلَة، والشخص الذي يكشف مكنونات نفسه يفعل ذلك على المستويات كلها دفعة واحدة.

في رحلة الإنسان وسعيه خلف المعرفة والحكمة، لا بد له أن يتجه إلى المصدر، وليس المصدر هو الكاتب أو المثقف ولا حتى المفكر أو الفيلسوف، لا الأستاذ، ولا المعلم، المصدر الحقيقي هو الحياة ذاتها، أن يعيش تجربة الحياة بكل عنفوان وشبق. فالحقيقة أغرب من الخيال لأن الواقع يسبق المخيلة ويشملها، وما يؤلف الواقع لا حدود له وليس له تعريف. والذين لا مخيلة خصبة لديهم يسمّون ويصنفون، والعظام يرضون بترك اللعبة. بالنسبة إلى الأخيرين، الرؤية والتجربة تكفيان، بل إنهم حتى لا يحاولون أن يبوحوا بما شاهدوا وما شعروا به، لأن اختصاصهم هو: العصي على الوصف. والرؤى العظيمة التي تهبط علينا كلاما هي مجرد انعكاسات باهتة، نفيسة، لأحداث عصية على الوصف. وقد تحرك الأحداث العظمى الروح، لكن الرؤى العظيمة تشلّ المرء.

في عصرنا هذا نعيش على اعتبار أن هناك دائما طريقا مختصرة لكل شيء، هناك طريق أقصر لكل هدف، وننسى أن أعظم درس يتعلمه المرء هو أن الطريق الأصعب على المدى الطويل هو الأسهل. لهذا فإن كل ما نتعلمه من الكتب، مهما كان مهما وملهِما، هو في النهاية قطرة من بحر المصدر الحقيقي الذي يهبنا المعرفة والحكمة. هي نفس التفاهة القائمة على نظرية عليك أن تقرأ عن كيفية تعلم السباحة دون أن تنزل إلى الماء. لذا علينا أن نخوض غمار الحياة لنعيش ونفهم، لا أن نأخذ النتائج جاهزة من تجارب غيرنا التي توهمنا أنها تغنينا عن أن نعيش بأنفسنا.

في مرحلة الشباب تكون شهية المرء مفتوحة للتجارب الفجة والكتب، حيث يوجد النهم المفرط وليس فقط الشهية المفتوحة، وهذا يعود إلى أن أسلوب حياتنا لا يوفر التغذية المناسبة. لأنه لو كان يوفرها بشكل غني وكاف لكنا قرأنا أقل، وعملنا أقل، وجعنا أقل، ولما كنا احتجنا إلى بدائل، ولما قبلنا بأنماط بديلة من الوجود لسد النهم. وهذا ينطبق على كل شيء.. الطعام، الجنس، السفر، الدين، والمغامرة. فنحن نبدأ بدايات سيئة، نسافر بعيدا بحرية عندما نضع أول قدم لنا في القبر. نحن نسير مغمضي العيون، نسير ونحن نائمون مغيبون، حتى أننا نموت قبل أن نتمكن من الحياة.

لكن إذا استمتع الناس بعمق بما يقرؤون فلن يكون لديهم عذر بالكلام هكذا. لكنهم يقرأون كما يعيشون، بلا هدف، بالمصادفة، بضعف، بتردد. وإن كانوا متكاسلين فإنهم يصبحون أكثر كسلا، وإن كانوا بليدين يصبحون أكثر بلادة. وحده الإنسان اليقظ الشبق بكل معنى الكلمة قادر على الاستمتاع بقراءة كتاب، باستخلاص الحياة منه. هذا الإنسان هو ذاته يستمتع بكل ما يختبر ويجرب، وهو أيضا لا يميز بين التجارب التي يستمدها من القراءة والتجارب المتنوعة في الحياة اليومية على سخفها أو عظمتها؛ لأن من يستمتع استمتاعا كاملا بما يقرأ أو يفعل، أو حتى بما يقول، أو بما يحلم ويتخيل، يستفيد فائدة كاملة، ومن يسعى للاستفادة عبر أحد أشكال الانضباط والتقنين، إنما يخدع نفسه.

لذا الموضوع الذي نسعى وراءه بالقراءة والبحث هو الذي يعطينا التجربة كاملة كأننا نعيشها، القراءة عن التجارب الروحية الغنية أكثر منها المادية الزائفة هي التي تجعلنا نعيشها حقا. الكتب الحية هي تلك التي كتبها الذين خبروا الحياة حتى الثمالة، هؤلاء المبدعون محطمو العادات والمؤسسات التقليدية بأنواعها كافة، هم الثوريون، ولا يمكن أبدا أن يكونوا مؤقتين.

فالثوريون الحقيقيون الوحيدون هم الملهمون والناشطون والأحياء أيضا مهما طواهم التراب، أما المحك الحقيقي لهم فهو الموقف الذي يتخذونه من الحياة، وليس أن ينجحوا فقط في قلب حكومة أو نظام اجتماعي أو صيغة دينية أو دستور أخلاقي أو نظام ثقافي أو طغيان اقتصادي، موقفهم أن كيف أثروا في الحياة نفسها. ما يميز هؤلاء أنهم لا يفرضون سلطتهم على أحد، بل على العكس هم يسعون إلى تدمير كل سلطة. هدفهم وغايتهم أن يفتحوا أبواب الحياة ليعب منها البشر، وليحولوا الإنسان الجائع إلى الحياة إلى مبتهج بها.

ذلك الإنسان لا يمكنه أن يستمتع بالحياة إلا عندما يسد جوعه، تماما مثل الطعام الغورميه ذي الطعم الرائع، الذي تتوقف في منتصف تناولك له لتستمتع بطعمه إلى أقصى حد، في تلك المرحلة بين تبدد شعور الجوع وقبل الدخول في مرحلة الشبع والتخمة، هذه المرحلة السحرية التي تنفجر فيها اللذائذ الشاهقة. هنا، وهنا فقط، يحمل الإنسان الحرية المطلقة في داخله.