كتاب عربي 21

إلى رفاق الأمس وسند المستقبل في المغرب

1300x600

عندما ظهر السيد سعد الدين العثماني في مشهد التوقيع على اتفاقية التطبيع المخزية مع الكيان الصهيوني، تجرع الملايين من أبناء وأنصار الحركات السياسية الإسلامية الغصَّةَ جراء هذه المشاركة المخزية. والغصَّة هنا متعددة الأسباب؛ فمجرد انضمام أي دولة عربية إلى مستنقع التطبيع يمثّل مرارة لخسارة القضية الفلسطينية مظهرَ مساندةٍ - ولو كانت صوريّة - من نظام عربي، كما أن مشاركة حركة كانت في المعارضة يوما ما في اتفاق تطبيع يمثل صدمة لغالبية أنصار المعارضة العربية بشكل عام، ثم كون هذه الحركة وصلت إلى الحكم عقب حراك شعبي يمثل سببا ثالثا للمرارة، وأخيرا كون هذه الحركة محسوبة على التيار السياسي الإسلامي الذي يحوز دعم أغلبية شعوب المنطقة يمثل طعنة في الوجدان، وتجليا لأبرز صور الهزيمة التي نحياها في المنطقة منذ انتكاس حركة الربيع العربي منذ عقد من الزمان.


يزعم كاتب السطور أنه أحد أبناء فكرة الانتماء الثقافي الديني، بما يعنيه ذلك الانتماء من ارتباط بتراث ممتد لعشرات القرون، وارتباط بأناس يشاركونه المعتقد يعيشون في كل أرجاء المعمورة، وهذا الارتباط يجعل سلوك التيارات السياسية "المعتدلة" التي تنسب مرجعيتها للإسلام محل اهتمام وعناية، فيلقى سلوكها الترحيب إن كان له محل، أو يلقى النقد إن اقتضاه، أو يواجَه بالغضب إن استُغْضِب، ومن هنا وجب الإعذار والإنذار.

إن أشقاءنا في المغرب يواجهون أشد لحظات المنطقة انحدارا وضعفا، بعدما قاربت على الخروج من ربقة الاستبداد منذ عقد مضى

أما الإعذار فمنشؤه أن أشقاءنا في المغرب يواجهون أشد لحظات المنطقة انحدارا وضعفا، بعدما قاربت على الخروج من ربقة الاستبداد منذ عقد مضى. وهذا الانحدار بدأ من الدعم الدولي والعربي لنظام الأسد كي لا يسقط، والدعم الخليجي لنظام علي عبد الله صالح في اليمن كي لا يسقط أيضا، ثم آتى أُكُلَه بانقلاب شديد الدموية في مصر، وترسخ الوضع في سوريا، واضطرب في ليبيا واليمن، ولا تزال تونس تعاني من هجمات قوى الاستبداد في المنطقة. فكل نجاحات الربيع العربي أخفقت إلا تونس التي لا تزال تصارع وحيدة في حرب شرسة لكنها أيضا قذرة كمَنْ شَنَّها.

في المغرب قام "أمير المؤمنين" بخفض رأسه ذات المقام العالي أمام الحراك السياسي منذ عقد، ونجح حزب العدالة والتنمية في الانتقال من موقع المعارضة إلى موقع السلطة، وهو أمر لا يعجب قادة الاستبداد في الخليج ولا الشمال الأفريقي، وبالطبع لا يعجب صاحب الجلالة، فكان لا بد من إذلالهم أو قطع رؤوسهم بحسب المسار الذي سيقررون السير فيه.

قرّر الملك - ولا رادّ لقراره - أن يقوم بخطوة يربح فيها من عدة اتجاهات، فقرار التخلي عن الفلسطينيين يورث دعما غربيا، كما أنه ربح اعترافا من الولايات المتحدة بسيادته على أرض متنازَع عليها، كذلك سيربح الدعم المالي الخليجي من قوى الشر في المنطقة، والربح الأكبر بوضع العدالة والتنمية بين خيارين؛ إما قبول القرار وخسارة دعم شعبي داخلي وإقليمي، أو رفض قرار الملك ومعه رفض الاعتراف الأمريكي، وربما بعض الدول، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية التي تمثل قضية داخلية هامة، ليقدم الحزب رقبته إلى الملك ليأخذها. وقد اختار الحزب القرار الأقل ضررا في محاولة أخيرة لمناورة الملك في مسار الإصلاح السياسي الذي ارتضاه الحزب لنفسه.

كان يمكن للأمور أن تكون مقبولة حتى ذلك الحد، لكن الملك عندما وجد العدالة والتنمية غير معارض لقراره، أراد زيادة الضغط عليه، فطلب من رئيس الحكومة وأمين عام الحزب أن يوقع على الاتفاقية بنفسه، وهو الرجل الذي عاش عمره ضد التطبيع، وكذلك حزبه، بل وكل الحركات السياسية الإسلامية، فقوبل هذا الطلب بالموافقة، وقام السيد العثماني بتوقيع الاتفاقية، وهنا يتوقف الإعذار.

كان في مقدور السيد سعد العثماني أن يطلب بإصرار إحالة هذا الأمر إلى أحد القيادات الأمنية أسوة برئيس الوفد الصهيوني، أو أن يطلب مشاركة وزير الخارجية في هذا الأمر، دون أن يلوّث تاريخه باقتران اسمه مع هذه الوثيقة. صحيح أن الضغوط غير عادية وربما ستعلّق المشانق، لكن الحزب كان سيقف أمام الملك إذا قرر مثلا منعه من تشكيل الحكومة إذا فاز في الانتخابات، فهناك قرارات تحتاج إلى توقف المواءمات. فهناك فارق بين قرار التطبيع الذي يحمل سمة ملَكيّة، وبين قرار المشاركة فيه الذي يحمل السمات الذاتية للمنخرطين فيه.

نلاحظ هنا - على هامش الموضوع - أن الإسلاميين هم دائما القوة الأبرز في المجتمعات، لكنهم الحلقة الأضعف أمام النظم المستبدة، ويمكن البطش بهم دون استنكار أو شجب دولي، لذا كانوا الخيار الأمثل أمام قوى الاستبداد؛ فهم ناجحون جماهيريا، ولكن فوق رؤوسهم "بطحة" كما نقول في مصر، فإذا تم استغلال هذه البطحة بصورة مناسبة، وتم تلجيم حركتهم، وبيان ضعفهم في الحكم وعدم قدرتهم عليه، فيمكن التذرع بسهولة بعدم جدوى الثورات والانتفاضات الجماهيرية التي لا تأتي بخير، وهو درس مهم من دروس حراك العقد المنصرم لتلك القوى، بألا تتورط في ما لا تحسنه، أو تنزع "البطحة" من فوق رأسها، لكن مع التصرف بحكمة لا اندفاع.

أما الإنذار، فيجب أن ينتبه الأشقاء في المغرب إلى أن الملك ضاق ذرعا بالمحاولات الهادئة لإسقاطهم، ومعروف للمراقبين أن أغلب فترات حكم الحزب كانت دون قدرة على اتخاذ قرارات جوهرية تغيّر من أوضاع المجتمع للأفضل على المستوى الاقتصادي، وهي محاولات ملَكيّة على استحياء لإسقاط الحزب. أمّا الآن فالظروف الإقليمية أصبحت أكثر استعدادا لإزاحة أبناء الحركات الاستقلالية والمنادية بالحريات، ويبدو أن مواجهة الحزب ستكون أكثر شراسة في المرات القادمة، وهو ما يستدعي الانتباه والتيقّظ والتعامل بحساسية بالغة لتفويت الفرصة على الملك.
الأوضاع قد تستدعي تفويت فرص هجوم الخصم من أجل الاستعداد للفوز بمكتسبات أخرى، ولهذا لا ينبغي أن يقع الحزب في هذه المرحلة تحت وطأة ضغوط الهجوم الحالي، كما أن عليه إيقاف نزيف خسارة رصيده الداخلي والإقليمي، وهي معادلة صعبة في ظل استهدافه الحالي وتركّز الهجوم عليه

إن استمرار التجربة المغربية، بسوءاتها الحالية، مهم في مسار الإصلاح في المنطقة، ولا يعني هذا البقاء في السلطة من أجل البقاء، أو التنازل عن المسلّمات، لكن الأوضاع قد تستدعي تفويت فرص هجوم الخصم من أجل الاستعداد للفوز بمكتسبات أخرى، ولهذا لا ينبغي أن يقع الحزب في هذه المرحلة تحت وطأة ضغوط الهجوم الحالي، كما أن عليه إيقاف نزيف خسارة رصيده الداخلي والإقليمي، وهي معادلة صعبة في ظل استهدافه الحالي وتركّز الهجوم عليه، بعد توقف الهجوم على تجربة تونس مؤقتا، والاستفادة من مهاجمتها من محيطها بدلا من داخلها. ولْيدرك أبناء المغرب العربي كله أن العديد من المتطلعين للديمقراطية يرقبون تجاربهم باختلاف تفاعلاتها، لتكون سندا مستقبليا في تعلّم مواجهة الاستبداد، أو - لا قدّر الله - لأجل الاستفادة من أخطائهم.

أخيرا، فلْيعذر المغاربة غضب المحبين، وسُباب المكلومين، ففلسطين ليست مجرد شعارات أو صور تزيّن جُدُرَنا، بل هي وشائج ترتبط بالروح والوجدان، وأي شوكة تمسها تلقى صدىً في أكثر الأعصاب حساسية للألم، ويحيا مئات الملايين من المسلمين على أمل تحريرها كاملة دون نقصان، أما الشامتون والمتربصون فلا ينبغي لذي بال أن يشغل لُبَّه بهم، فإنما هم على هامش الحياة يعيشون ويموتون بصخب، لكن دون أثر.

twitter.com/Sharifayman86