كتاب عربي 21

المواطن بين الإنصاف والتصنيف: المواطنة من جديد (25)

1300x600
قصة المواطنة قصة عميقة ودقيقة، يكشف عن ذلك هذا الحادث الذي يتعلق بـ"طفل المرور"، فهو ليس مجرد حادثة عابرة، ولكنها ظاهرة صارت تعبر في الحقيقة عن مجتمع أصيب بمرض عضال ألا وهو فقدان المعايير وازدواجها. يحدث ذلك غالبا حينما يقوم انقلاب غير منطقي في الشأن السياسي، فيرى أن إصلاح هذا الأمر بالبطش والقوة في حالة أن فئة تملك القوة تبطش بغيرها التي لا تملك قوة وتصنفها كيفما تشاء.

وهذا إنما يشير في حقيقة الأمر إلى هذا الفعل الانقلابي الذي لا يعبر عن مجرد انقلاب سياسي أو قطع الطريق على مسار ديمقراطي، فالمسألة أبعد وأعمق من ذلك بكثير. إن الانقلابات خاصة التي يقودها العسكر إنما باستنادها إلى القوة الباطشة تحدث انقلابا في كل شيء؛ في عناصر الاجتماع، وتقييم عموم الناس، وتصنيف المواطنين، وتصنيف المقربين من أهل المحاباة وأهل الشر، وغير ذلك من تصنيفات تقوم في النهاية على قاعدة قميئة (أنتم شعب ونحن شعب).

وتتجلى هذه المسألة ضمن ازدواجية معايير تنال من المجتمع ذاته في لحمته وشبكته العصبية وشبكة التماسك والأمان التي تتعلق بعلاقاته الاجتماعية المتنوعة والمتعددة، ومن ثم ينال ذلك من الجماعة الوطنية وكذلك من حقائق المواطنة وجوهرها في ظل مساواة كاملة من دون تمييز أو محاباة، وكذلك يهدم من القيم الاجتماعية الأساسية التي تشكل ركنا أساسيا في الآداب العامة والنظام العام. كل ذلك ينال من تصور السلطة للمجتمع، ويحاول بشكل أو بآخر أن يجعل شبكة العلاقات المجتمعية في حال من التحلل والانحلال.

انقلاب العسكر إذا ليس إلا مقدمة لانقلاب في كامل الحياة الاجتماعية والسياسية. ابن المستشار من مواليد 2007، أي أنه لم يبلغ من العمر إلا ثلاثة عشر عاما، ولكنه وفقا للتصنيف "الطبقي وشبكة المحاباة" هو "ابن مستشار" ضمن عناصر تربية معينة وضمن حالة المحاباة السائدة والظالمة، والتي لا تتمتع بأي قدر من الإنصاف؛ تجعلنا نخرج من إطار المواطنة المنصفة إلى سياق مواطنة لا يعلم لها حد ولا قرار.

إنها في حقيقة الأمر مواطنة مصنفة، أي مواطنة التصنيف لا الإنصاف، ومن ثم فإن ابن المستشار الصغير في ظل هذه الأوضاع الانقلابية كأبيه، يستمد سلطانه من دعم هذا النظام الانقلابي، ومن ثم فهو شخص فوق القانون، عصيّ على الحساب ولا يدخل في دائرة العقاب، هذا التدريب ينشأ عن نمط تربوي وحالة مجتمعية أسسها نظام انقلابي. ابن المستشار - رغم سنه الحديث - يقود سيارة والده المستشار، إذا نحن أمام رمزية معينة تتعلق بمناط السلطة في ذلك الشعار على هذه السيارة مهما ارتكب هذا الطفل من مخالفات. للسيارة حصانة ولراكبها حصانة، ومخالفتهما للقوانين (السيارة وراكبها) سلوك فوق القانون يتعلق بالمهنة والمكانة.

الأمر ليس حادثة تتعلق بطيش الشباب ولا بتهور طفل ولا بمحاولته أن يظهر قوته/ نفوذه/ سلطته أمام أصدقائه، ولكنها تتكشف لنا من خلال توجه أمين الشرطة وهو يعرف أن هذه السيارة هي لمستشار يملك سلطة لانتهاك القانون. والقضية الكبرى التي تتعلق بهذا هي كيف لرجل قانون ينتهك القانون في حياته اليومية باسم حصانة قضائية؟ وكيف تتوزع هذه القوة لكل من يخصه طالما كان في تلك السيارة؟ فأمين الشرطة قد سأله بخوف ووجل عن سنه ورخصه، مدركا أنه ابن مستشار، واستكملت النيابة العامة القصة حينما أخذ الطفل إخلاء سبيل مع تعهد والده (سيادة المستشار) لإخضاع ابنه لجلسات تعديل سلوك بعدما واجه أمين الشرطة بكل ألوان السباب والاحتقار وغير ذلك من سلوكيات مشينة. ولاحقا خرج الطفل ليحتفل هو وعصابته/ أصدقاؤه مدبجا شعارا يتعلق بدوس المواطنة المنصفة بالأقدام والتذكير بمواطنة مصنفة؛ قائلا بالفم الملآن: "احنا بنسجن مش بنتسجن"، وظل بعد ذلك يقود السيارة ويسخر من أمين الشرطة وكل أمين شرطة.

كيف يمكن أن نفسر هذا السلوك إلا أن نقول إن النظام الانقلابي صنع شبكة من المحاباة والمحسوبية، وشبكة أخرى فوق القانون ترتكب كل الجرائم بلا حساب. وهذه الشبكات هي التي ساعدت المنظومة الانقلابية في استمرار بطشها وطغيانها (القضاء، الداخلية، الإعلام، الفنانون وبعض أهل الرياضة المتنفذين). إنها شبكة الجور والظلم معا، ويبقى هؤلاء الذين ينتمون للعسكر فوق كل هؤلاء. هذه التصنيفات المعتمدة من الحالة الانقلابية قامت بكل هذا وفقا لما يؤديه هؤلاء من خدمات، ضمن دعم شبكة الطغيان والجور والظلم، الخارج عن هذه الشبكة يمكن أن يُقتل أو يهان ويطارد ويعتقل، وكل ما تتخيله من عقوبات.

وتذكرنا تلك الواقعة بواقعة طفل المسطرة، وبنات البالونات، "وطفل التيشيرت"، وأطفال آخرين لو قارناهم بهذا الطفل وأبيه المستشار لوجدنا أنفسنا أمام تصنيف خطير لا يصل فيه البعض إلى حافة الإنسانية، ويعامل البعض بكونه فوقها وبكونه سيدا.

تتذكرون مقولات "الزند" حول "أن القضاة أسياد البلد"، وأن كل أحد غيرهم هو أقل شأنا ولا قيمة له. أيضا جميعنا نرى هؤلاء الذين يتفوقون ولكنهم أبناء عامل نظافة أو موظف أو مزارع، فلا يمكنهم وفق تلك التصنيفات أن يندرج أو يتسلل أحدهم إلى سلك النيابة والقضاء. القائمة تطول لو رصدنا هؤلاء الأبناء المدللين والمتهورين المستندين إلى سلطان آبائهم في ضمن شبكة التمييز والمحاباة.

وإذ نتذكر فلنتذكر "قصة عبد الحميد شتا"، الطالب المتفوق الذي حوسب على أنه ابن فلاح لا يمكنه أن يدخل السلك القنصلي أو الدبلوماسي. كل تلك التصنيفات غير المنصفة إنما تشكل قاعدة في شبكة علاقات النظام المنقلب إذ يقرب أو يحاسب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال معالجة هذه الأمور بأشكال أقل ما يقال فيها ممارسة احتيال وخداع كبيرين، فندعو أمين الشرطة ونكرمه في محاولة للترضية، ولكننا بحال لن نمس المسألة ولا أصل القضية التي تتعلق بهذه التصنيفات الانقلابية المقيتة ضمن تصنيفات "الأسياد والعبيد".

في حقيقة الأمر إن كل ذلك ينال من لحمة المجتمع ويسقط كثير من معايير الاجتماع والضبط الجمعي، ويدوس بالأقدام كل ما يتعلق بالنظام العام. هذا هو الأمر الذي يتعلق بالتفريط في كل الموازين لمصلحة القوة، وتجعل منها معيارا لأهل القوة والمحاباة، فيكونون فوق الحساب والعقاب، ويكون الجميع تحت المقصلة وقطع الرقاب.

وإذا ما قلنا أين القانون؟! قالوا لنا إن الطفل لا يُحبس، سنصدقهم!! هل معنى ذلك أن الأطفال الذين ظلوا محبوسين في زنازين النظام سيخرجون من محبسهم ويعوضون؟! هل معنى ذلك أن طفلا من أبناء الشعب العادي لو جرُأ على ارتكاب مثل ما ارتكب ابن المستشار لن يحبس وينكل بأهله؟ نقول ذلك ونحن نعرف النتيجة مسبقا، أن فعل المحاباة وانتهاك المعايير المجتمعية هو قانون هذه الفئة التي هي فوق القانون، لا تحاسب ولا تعاقب، وليس على الآخرين أن ينظروا نظر الندية والمساواة مقارنة بهؤلاء.

إن هذا هو قانون الانقلاب، حينما تنقلب المعايير وتزيف، وحينما تزدوج القواعد وتشخصن، وحين يفقد المجتمع أصول العدل والإنصاف فينقلب إلى منظومة من الظلم والجور والإجحاف، ويظل المواطن مصنفا في أعراف هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أسيادا، وكل مواطن ما دون هؤلاء هو من عبيد إحساناتهم، "ألا ساء ما تحكمون".

twitter.com/Saif_abdelfatah