أفكَار

أبو حامد الغزالي.. من التفلسف العقلي إلى التصوف العرفاني

الإمام أبو حامد الغزالي

أحصى المستشرق الإنكليزي رينولد ألين نيكلسون (1868- 1945) ثمانية وستين تعريفا للتصوف، فيما ذهب هو وآخرون إلى اعتبار التصوف الإسلامي بضاعة خارجية جاءت من المسيحية، بخلاف آخرين ممن اعتبروا أن التصوف الإسلامي ابن بيئته الحضارية، وفي مقدمهم ابن خلدون، حين قال في مقدمته:

هـذا العلم من العلـوم الشرعية فـي الملة
وأصلـه أن طريقة هـؤلاء القـوم لم تـزل عند
سلف الأمة وكبـارها من الصحابة والتابعين.


مع التصوف أخذ أبو حامد الغزالي سبيلا آخر في المعرفة، ومع الغزالي أخذ التصوف سبيلا آخر في الدين.

لقد كانت الصوفية بالنسبة له أرفع طرق المعرفة وهي حقيقة الدين، وهذا يعني أنه انتقل من التفلسف العقلي إلى التصوف العرفاني، وقد كتب في "المنقذ من الضلال":

ثم إنـي لمـــا فرغت من هـذه العلـوم، أقبلت
بهمتــي علـى طريقــة الصــوفية وعلمـت أن
طريقتهــم إنما تتم بعلم وعمـل، وكان حـاصل
علــومهـم قطـع عقبـات النفس، والتنـزه عـن
أخــلاقهـا المـذمومـة وصـفـاتها الخبيثة، حتى
يتـوصل إلى تخلية القلــب عن غير الله تعالى
وتحليته بذكر الله.

وكـان العلم أيسر علـي من العمــل، فابتدأت
بتحصيـل علمهـم مـن مطـالعة كتبـهـم مثـل:

قــوت القلــوب لأبـي طـالـب المكـي وكتــب
الحـارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن
الجنيــد والشبلــي وأبـي يزيـد البسطـامـي
وغيرهم من المشايخ.


تأثر الإمام الغزالي بهؤلاء المتصوفة الذين ذكرهم، وقد تنبه إلى ذلك ابن تيمية حين قال إن أكثر مادته من كلام الشيخ أبي طالب المكي الذي يذكره في المنجيات في الصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص، وإن عامته مأخوذة من كلام أبي طالب، لكن أبا طالب أسد وأعلى، وما يذكره في ربع المهلكات فأخذ غالبه من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية كالذي يذكره في ذم الحسد والعجب والفخر والرياء والكبر ونحو ذلك.

لم يقتصر تأثر الغزالي بأبي طالب المكي (ت 998م)، وبالمحاسبي (781- 857م) فحسب، بل تأثر أيضا بالجنيد (830- 910م) المؤسس الفعلي للتصوف السني، ويذهب البعض إلى أن الغزالي تأثر أيضا بأبي القاسم القشيري (986- 1074م).

اتفق الغزالي مع المتصوفة في المقامات (التوبة والورع والزهد والفقر والرضى) وفي الأحوال (الكشف والمشاهدة والتجلي واليقين)، لكنه رفض شطحات بعض الصوفية، فرفض الحلول والاتحاد ووحدة الوجود:

وعلـى الجملة، ينتهـي الأمـر إلى قرب يكاد
يتخيل منه طائفة الحلول وطـائفة الاتحـاد
وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ.


سلك الغزالي في التصوف طريقين:


1ـ منهجي، يتكون من مقامات الزهد والمحبة والإلهام والفناء، وهو منهج الذوق على الجملة دون العقل والحواس، وهو وحده الموصل إلى اليقين.

يفهم مما تقدم أن التصوف عند الغزالي هو علم وعمل، حصل الأول عن طريق مطالعة كتب المتصوفين، أما العمل فقد حصله بالذوق والحال وتبدل الصفات.

وأهم مقومات التصوف ثلاثة، الإلهام، الزهد، محبة الله.

ويرى الغزالي أن المعرفة تتحقق إما عن طريق العلم والاستدلال أو عن طريق الوحي والإلهام، الطريق الأول يستلزم الاجتهاد والاستبصار، في حين يحتاج الطريق الثاني إلى التأمل الباطني وتطهير القلب.

أما الزهد، فقد عرفه الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" بأنه:

انصراف الرغبة عن الشـيء إلـى ما هـو خيـر
منه، فكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في
الدنيا بالتجـافـي عن دار الغـرور والإنـابة إلـى
دار الخلود.


وللزهد ثلاث درجات: أن يزهد المرء في الدنيا وهو لها مشته لكنه يجاهدها، وأن يترك الدنيا طوعا استحقارا لها، والثالثة أن يزهد طوعا ويزهد في زهده.

أما محبة الله فهي غاية الزهد، ومحبة الله في الدنيا تحصل بتطهير القلب وقطع العلائق. 

وقد بين الغزالي أسباب محبة الله: منها أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك، ومنها أن المحبة تنقسم بحسب أنواع المدركات، فلكل حاسة إدراك يخصها، وكل إدراك لذة تخصه.

الله هو المحبوب المطلق، المتفضل بالنعم، مفيض الوجود على كل الوجود، فإن أحب العارف ذاته حقا، ووجود ذاته مستفادا من غيره، فبالضرورة يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقا موجدا مبقيا، فإن كان لا يحبه، فهو لجهله بنفسه وبربه.

2ـ فرعي، ربط فيه التصوف بالفقه وجعل منهما علما واحدا للعبادات والمعاملات. 

قبل الغزالي كانت العلاقة بين الفقهاء والمتصوف علاقة جفاء، وبلغت ذروة هذا الجفاء مع الحلاج (858-922م)، لكن مع مجيء الغزالي اختلف الأمر، فجعل منهما حقيقة واحدة للدين.

وقد كتب ابن خلدون في ذلك:

كتب رجــال مـن أهـل هـذه الطرقـة، فمنهـم
من كتب فـي الـورع ومحــاسبة النفس علــى
الاقتـداء فـي الأخذ والترك كما فعـل القشيري
فـي كتـاب الرسـالة والسهـروردي فـي كتـاب
عوارف المعارف وأمثالهم.
وجمع الغزالـي بين الأمرين فـي كتـاب الإحيـاء 
فدون فيه أحكام الـورع والاقتـداء ثـم بين آداب
القــوم وسننهــم وشـرح اصطـلاحـاتهــم فــي
عبـاراتهم وصـار علم التصوف فـي الملـة علما
مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط.


وفي هذا كتب الجابري "لقد صنف الغزالي التصوف إلى صنفين: علم المعاملة وعلم المكاشفة، وجعل كتاب الإحياء خاصا بعلم المعاملة كعلم مقابل للفقه، وإذا كان الأخير يشرح كيفية أداء فروض الدين العملية من طهارة وصلاة وصيام وزكاة وحج من الناحية الأداتية الجسمانية، فإن علم المعاملة يشرح أداء هذه الفرائض أداء روحانيا.. وهكذا أدخل الغزالي التصوف إلى قلب الإسلام من بابه الرسمي الواسع، باب الفقه".

التوحيد


يتألف التوحيد عند الغزالي من أربعة مراتب: لب ولب اللب وقشر وقشر القشر، ويضرب مثال الجوز على ذلك، لأن له قشرتين ولب ولب اللب، أي الدهن.

المرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له (المنافقون)، وهؤلاء موحدون باللسان، وهم يعصمون أنفسهم في الدنيا عن السيف والسنان، ويشبه الغزالي هؤلاء بالقشرة العليا من الجوز.

المرتبة الثانية أن يصدق قلبه بمعنى اللفظ كما صدق به عموم المسلمين (اعتقاد العوام)، والتوحيد عند هنا هو بمثابة العقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح، لكنه يحفظ صاحبة من عذاب يوم القيامة، ويشبه الغزالي هؤلاء بالقشرة السفلى من الجوز.

المرتبة الثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف عبر نور الحق، فيرى أشياء صادرة على الواحد (مقام المقربين)، وهؤلاء لا يشاهدون إلا فاعلا واحدا إذ انكشف لهم الحق كما هو عليه، ويشبه الغزالي توحيدهم بلب الجوزة.

المرتبة الرابعة أن لا يرى الإنسان في الوجود إلا الله، وهذا هو الفناء في الله (مشاهدة الصديقين)، والموحد هنا يعني أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى العارف الكل من حيث أنه كثير بل من حيث أنه واحد، وهذه هي الغاية الكبرى والقصوى من التوحيد، وتوحيد الموحد هنا يشبه لب اللب في الجوزة.

ولا يوضح الغزالي كثيرا سر المكاشفة في المرتبة الرابعة من التوحيد، فذلك لا يجوز كتابته في الكتب حيث يجب أن يبقى سرا من أسرار الربوبية التي خصها الله فقط للعارفين.

لكنه يقول في "الإحياء" و في "مشكاة الأنوار" إن العارف قد يترقى من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة يستكمل معراجه، فيرى بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى.

العــارفــون بعـد العــروج إلــى سمــــاء الحقيقــة
اتفقــوا على أنهم لم يروا في الوجـود إلا الـواحـد
الحـق، ولكـن منهـم مـن كـــان لـه هــذه الحــالـة
عرفـانا، ومنهم مـن صـار لـه ذوقـا وحـالا، وانتفت
عنهم الكثـرة بالكليـة واستغرقـــوا فـي الفردانية
المحضـة، فلـم يبقــى عنـدهـــم إلا الله، فسكروا
سكرا وقع دونه سلطـان عقولهـم، فقال بعضهم:
أنا الحق، وقال الأخــر: سبحاني ما أعظم شأني،
وقـال الآخر: مـا فـي الجبة إلا الله، وكـلام العشاق
في حال السكر يطوى ولا يحكى.


وقد انتقد ابن تيمية (1263- 1328) هذا النوع من التصوف كما انتقد كثير من آراء الغزالي في مواضع كثيرة، فقال في كتابه "مجموع الفتاوى": 

وتجـد أبا حامد الغزالي يذكر في كتاب الأربعين
ونحـو كتـابه المضنون بـه علـى غير أهله، فإذا
طلبــت ذلــك الكتــاب وجـدتـه قــول الصـــابئـة
المتفلسفــة بعينــه، قـــد غُيــــرت عبـــــاراتهم
وترتيبـاتهم... فـإن أبا حـامد كثيرا مـا يحيل فــي
كتبه إلـى ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه
يـوجـد للصـوفية بريـاضتهم مـن إدراك للحقـائق
وكشفها لهم حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشـرع.


ويتابع ابن تيمية قوله في كتاب "الإحياء" للغزالي ما يلي:

إن فيه فــوائد كثيرة، لكـن فيـه مـواد مـذمـومة،
وفـاسدة من كــلام الفــلاسفة تتعلّق بالتّــوحيد
والّنبوة والمـعاد، فإذا ذكر معـارف الصوفية كـان
بمنزلة من أخـذ عـدوا للمسلمين فألبسـه ثيـاب
 المسلمين.


وقبل ابن تيمية وجه الإمام أبو بكر الطّرطوشي (1059- 1127) نقدا لاذعا لكتاب "إحياء علوم الدين" فقال:

لمّـا عمل كتـابه سمّـاه إحياء علوم الدين وعمـد
يتكلّم في علوم الأحوال ومراقي الصّوفية وكان
 غير دريّ بها ولا خبير بمعرفتهـا، فسقط على أم
رأسه فــلا فـي علمــاء المسلمين قـرّ، ولا فــي
أحوال الزّاهدين استقر.

 
وعلى هذا الخط سار آخرون، منهم الإمام أبوعبد اللّه المازري (1061- 1141) من كبار أئمة المالكيّة في إفريقية، بل وصل الأمر إلى حد إطلاق السلطان علي بن يوسف بن تاشفين (1084- 1143) بإحراق كتاب الإحياء، لما وجدوا فيه من أمور غريبة على الإسلام، كالقول بالمعرفة الوجدانية الفيضية وبعض التأويلات القرآنية ممن لا تنتمي إلى لسان العرب في البيان.

لم تتلق شخصية نقدا لاذعا مثلما تلقاه الغزالي، كما لم تتلق شخصية علمية مدحا هائلا مثلما تلقاه الغزالي، فكان حجة في الإسلام ونابغة عصره.

كانت شخصية الغزالي فريدة من نوعها، كما هو حال عصره، بحر تتلاطمه الأمواج العاتية، لا وقت فيه للراحة والهدوء، اضطرته الظروف للكتابة في الكلام والفلسفة والباطنية والتصوف والفقه والأخلاق والمعاملة، وكانت الظروف التاريخية لا تسمح له بكثير من الصبر والآنة للتعمق أكثر فيما يقرأ، فكان مضطرا للكتابة ضد الفلاسفة والباطنية، لتكون كتبه بمثابة المانفيستو الأيديولوجي للمذهب الأشعري السني في مواجهة الأفكار الباطنية والغنوصية والأفلاطونية المحدثة التي تهدد النسيج الديني ـ الفكري للأمة الإسلامية.. لقد كان محمولا بهاجس توحيد الأمة.. هكذا يجب أن نقرأ الغزالي.