كتاب عربي 21

هل أصبحت السياسة في تونس مهددة بالموت السريري؟

1300x600

ليس أمرا هينا أو معتادا في العالم العربي أن يقرر سياسي بإرادة حرة منه الانسحاب من الشأن السياسي، خاصة إذا كان في بلد ديمقراطي، وكان هو ناجحا في محيطه ومقبولا نسبيا داخل حزبه. فالقاعدة هي أن يستمر رجل السياسة في موقعه متمسكا به أطول فترة من الزمن، لا يحول بينه وبين التخلي عنه سوى المرض أو الموت.

في تونس حصل العكس، حيث قرر محمد عبو الاستقالة من رئاسة حزبه "التيار الديمقراطي". ولم يكتف بذلك، بل أعلن أيضا الانسحاب من الحياة السياسية. قرار مفاجئ من سياسي صمد في عهد استبداد الجنرال زين العابدين بن علي، وقضى ثلاث سنوات في السجن على إثر محاكمة سياسية سخيفة، وسبق أن استقال خلال فترة حكومة الترويكا برئاسة حمادي الجبالي. وجعل من حزبه شريكا أساسيا في الائتلاف الحكومي الأخير الذي سرعان ما انهار بسبب ملف تضارب المصالح الذي تورط فيه إلياس الفخفاخ. لكن لم يكن واردا أن يستسلم الرجل بهذه السرعة، ويكتفي بدوره كمواطن عادي بعد أن كان مؤهلا ليصبح رئيسا للجمهورية خلال الانتخابات القادمة.

هل يعود السبب وراء ذلك إلى "موت السياسة في تونس"، كما جاء على لسان السيدة سامية عبو؟ فعندما سئلت متى يتراجع زوجها عن الاستقالة، أجابت: "عندما تعود السياسة". وتقصد من وراء قولها وجود أزمة أخلاقية عارمة أصابت الفاعلين السياسيين، وحولتهم إلى مجرد أدوات يتم تحريكها من قبل شبكات مصالح على حساب قيم الثورة وسيادة البلاد.

قبل عبو، سبق أن أعلن الرئيس الأسبق للجمهورية التونسية د. المنصف المرزوقي عن قرار شبيه يوم 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي (2019)، وذلك بتخليه عن رئاسة حزبه الذي أسسه، وهو "حراك تونس الإرادة"، كما أعلن عن انسحابه من الساحة السياسية الوطنية.

 

هذه العقبات خارجية تضعها أو تغذيها أطراف ودول ليس من مصلحتها أن تنبت الديمقراطية في الأرض العربية، لكن في المقابل تتحمل أطراف داخلية مسؤولية أكبر في تفاقم حجم المشاكل

هذان المثالان كافيان للتدليل على أن الانتقال الديمقراطي له ضحاياه من بين المخلصين له والمدافعين عنه والمنخرطين فيه، وذلك بسبب العقبات التي لا تزال تواجه التجربة التونسية. بعض هذه العقبات خارجية تضعها أو تغذيها أطراف ودول ليس من مصلحتها أن تنبت الديمقراطية في الأرض العربية، لكن في المقابل تتحمل أطراف داخلية مسؤولية أكبر في تفاقم حجم المشاكل التي يواجهها التونسيون.

الاستقالة ليست حلا، ورغم دلالتها الرمزية الموجعة، إلا أن انعكاساتها على الواقع تكاد تكون صفرا. عندما ينسحب المرء من مكان لن يبقى مكانه شاغرا حيث يتقدم غيره ويتولى إدارته بطريقته، في حين أن المطلوب من السياسي الناجح والناجع الصمود وتحمل الأذى ومحاسبة الذات وتقييم الأداء وتحديد نقاط الضعف، والإصرار على مواصلة الطريق. بذلك يتجدد حماسه ويراجع نفسه، ويعيد النظر في طرائق العمل ويواجه الصعوبات بإرادة متجددة.

صحيح أن التجربة الديمقراطية التونسية لا يزال عمرها قصيرا، فهي تشرف الآن على مرور عشر سنوات، لكنها حبلى بالدروس بقدر ما هي مثقلة بالأخطاء والصراعات التافهة، والارتجال المدمر، والاتهامات المتبادلة بين السياسيين والنشطاء.

 

نتائج سيئة أولها فقدان الثقة بين أحزاب يفترض فيها أن تعمل مع بعضها، لكن النتائج جاءت عكسية

ترتبت عن ذلك كله نتائج سيئة، أولها فقدان الثقة بين أحزاب يفترض فيها أن تعمل مع بعضها، لكن النتائج جاءت عكسية، إذ بدل أن تتمسك الأحزاب التي وصفت بالثورية بالعمل المشترك وترسخ فيما بينها تقاليد جديدة في هذا المجال، خاصة بعد أن شكلت حكومة ائتلافية واعدة، ارتدت علاقاتها إلى الخلف، وتعمقت الخصومة بينها، وعادت إلى حالة التآكل والاحتراب السياسي بين الكتلة الديمقراطية من جهة وحركة النهضة من جهة ثانية.

في المقابل، حصل تقارب لم يكن متوقعا بين أطراف حزبية متنافرة أيديولوجيا وسياسيا، مثل حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة؛ الذي أصبح مستعدا نفسيا للتنسيق والتعاون مع حزب نبيل القروي بعد صراع مرير دار سابقا بين الطرفين.

هكذا هي السياسة، تقلبات متواصلة، ومناورات مختلفة، وموجات متعاقبة. المهم أن تتم المحافظة على المركب الذي يتمثل في الوطن الجامع، وأن تبقى الدولة الوطنية قائمة لأنه بدونها ينهار البناء بجميع طوابقه، ويتحول البلد إلى ساحة صراع يخوض خلاله الجميع حربا ضد الجميع. لهذا السبب، ونظرا لحاجة الأحزاب إلى هدنة عسى أن تتمكن من ترتيب بيتها الداخلي من جديد، أصبحت حكومة كفاءات في تونس حكومة الضرورة.