قضايا وآراء

دروس الجزائر في رفات الشهداء

1300x600
كعادتها، أسعدتنا الجزائر بنضالها الفريد منذ عقود، باستعادة رفات ٢٤ من قادة مقاومتها.

تعود الجماجم لكبار المقاومين الجزائريين الذين تصدّوا للاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، وقادوا ثورات شعبية أعاقت تقدم القوات الفرنسية إلى الداخل الجزائري لسنوات طويلة.

يستحق أن تحظى هذه القضية باهتمام وتغطية عالمية؛ لأنها تحكي حكاية أبرز شعوب العالم التي قدمت تضحيات كبيرة من أجل الحرية.

تروي هذه الجماجم قصة استعمار فرنسي جثم على صدر الجزائر مدة 132 عاما، نتج عنه موت حوالي ثلث سكان الجزائر، ونهب ثروات أكبر بلد في أفريقيا.

يحمل الحدث العديد من المبادئ التي تقدّم فيها الجزائر شكلا جديدا من أشكال النضال الممتد منذ 1954:

- هو أولا حدث لن يروق للاحتلال الإسرائيلي الذي يمثل امتدادا للاستعمار وأكبر قاعدة له في الشرق الأوسط، ورسالة بنصّ صريح بأن جرائمه لن تسقط بالتقادم وسيظل ملاحقا ومتهما، ولن ينتهي معه "صراع الذاكرة".

- ثانيا، أن أي حديث أو تداول لقضايا احتجاز الجثامين، يتصدر فيها الاحتلال الإسرائيلي هذه الانتهاكات الأبشع في تاريخ الإنسانية، فهو يمارس تقاليد الاستعمار في احتجاز جثامين ورفات الشهداء الفلسطينيين.

تحتجز سلطات الاحتلال جثامين أكثر من 300 شهيد فلسطيني في مقابر عسكرية مغلقة، أطلق عليها "مقابر الأرقام". شواهد القبور فيها عبارة عن لوحات مكتوبة عليها أرقام بدلا من أسماء الشهداء، ويحظر الدخول إليها، سواء من ذويهم أو مؤسسات حقوق الإنسان.

تنتهج سلطات الاحتلال سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين منذ سنوات طويلة؛ في محاولة لاستخدام هذا الملف كورقة ضغط على المقاومة الفلسطينية.

- لذلك فإن الجزائر، ثالثا، تقدم للمقاومة الفلسطينية وكل حركات التحرر في العالم، تجربة نضالية في عدم الخضوع لابتزاز بقايا الاستعمار، مهما طالت السنين وزادت الأرقام. خذ من اليوم عبرة ومن الأمس خبرة.

- يثبت الحدث أن مقاومة الشعب الجزائري لم تتوقف عند إعلان الاستقلال في 5 تموز/ يوليو 1962، بل واصلت ما بدأت به، لكن بنمط الدبلوماسية الفدائية التي لم تتخلَ عن مطالبها بإعادة رفات القادة الشهداء حتى بعد 170 عاما، وتمسكها بمطلب اعتذار فرنسا عن مجازرها. حتى إن مراقبين اعتبروا أن إعادة جماجم المقاومين يشكل اعترافا من النخبة الحاكمة في فرنسا بالماضي.

- رابعا، يعيد الحدث للذاكرة العربية جرائم الاستعمار، وكذب دعاوى مساعدة الشعوب والدول في حق تقرير مصيرها. وسيظل الاستعمار، بفضل صمود الجزائر، ضمن تعريفه الحقيقي وهو تحطيم كرامة الشعوب وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وهو أمر يجب أن تخجل منه فرنسا، ولا تدعي التحضر.

فمتحف "الإنسان" في باريس يعرض للسياح أكثر من 18 ألف جمجمةٍ بشرية لقادة المقاومة الشعبية والسكان الأصليين للمستعمرات الفرنسية حول العالم، ثم تسمي نفسها "مدينة النور"!

حُفظت هذه الجماجم، وفق تقارير صحفية، في علب من الورق المقوّى موضوعة في خزانات حديدية داخل قاعة منعزلة في المتحف، بعيدا عن مرأى العموم، وخوفا من أن يثير وجودها جدلا جديدا بين الجزائر وفرنسا حول حقبة الاستعمار والأرشيف المتعلق بها.

ولم يكشف سرّ وجود تلك الجماجم حتى شهر آذار/ مارس 2011، بعد تحركات للباحث الجزائري "علي فريد بالقاضي" المقيم في فرنسا، قبل أن يتكلل هذا النضال بالنجاح.

لذلك، فإن إصرار الجزائر نبش الذاكرة وفتح ما لم ترغب به فرنسا طويلا.. أرشيف جرائمها.

لقد أبقت الجزائر هذا الثأر راسخا في ذاكرة الأجيال في أبيات نشيدها الوطني، فغنى شاعر الثورة الجزائرية الراحل "مفدى زكريا":

"يا فرنسا إن ذا يوم الحساب   فاستعدي وخذي منا الجواب"

وهو المقطع من النشيد الوطني الذي طالما أثار حفيظة الفرنسيين بعد إعلان استقلال الجزائر، باعتباره يُبرز وحشية واحدة من أكبر القوى العسكرية في التاريخ الحديث.

لذلك، عندما تنشد الجزائر "قد مددنا لك يا مجد يدا".. فالحقيقة أنها صنعت مجدها.

مبارك لشعبنا هناك.