قضايا وآراء

الكتلة النقدية للعملة اللبنانية في مهب الريح: دولار فوق 45 ألف ليرة

1300x600
من الواضح جدا أن كل الحلول سقطت ولا أحد يعرف أين ستقف سفينة اللبنانيين، إن وجدت شاطئا يؤويها.. لقد تعطلت لغة الكلام.

إن يوميات اللبناني باتت أشبه بمن يموت في اليوم والليلة مئات المرات، ومن الواضح أكثر أن لبنان متجه إلى مواجهةٍ مفتوحةٍ مع الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة أو مواربة، بالرغم من خروج قاسم تاج الدين من سجون أمريكا في ما سمي استكمالا لخطوة إطلاق العميل عامر الفاخوري من السجون اللبنانية في الأسابيع التي خلت.

أسعار صرف متعددة

من المؤكد أن أحد أبرز لغة للمواجهة تتجلى في أسعار العملة الأمريكية المحلقة عاليا في أسواق بيروت المختلفة، من سعر الدولة عند عتبة 1500 ليرة للدولار مرورا بسعر التحويل عند عتبة 3200، وصولا إلى سعر المنصة عند 4000 ليرة للدولار. أما الملفت القاتل فهو سعر السوق السوداء، وهو الُمعتمد على الأرض وفي معظم التعاملات والتسعير، الذي لامس 10000 ليرة لبنانية للدولار.

ماذا يعني أن يكون سعر الدولار 10000 ليرة لبنانية؟!

لبنان نحو نماذج اقتصادية قاتلة

يعني انخراط مبدئي على طريقة نماذج قاتلة في العالم كانت انهارت عملاتها الوطنية بمواجهة أمريكا وما زالت، من الجمهورية الإسلامية في إيران إلى الأرجنتين وفنزويلا، حيث العزلة والموت المؤجل، أو ما تسمى بنظرية الموت البطيء الذي يقتل العزيمة والإرادة عبر قتل الدورة الاقتصادية.

المؤشرات تتحدث عن نفسها، فمعدلات البطالة فاقت 50 في المئة، معظمها من شباب جامعيٍ مثقفٍ وخريجٍ باحث عن تذكرة سفر تقله إلى أصقاع الأرض، ولا ضير في ذلك.. لقد تضاعفت أعداد الأسر الفقيرة ذات البرادات الفارغة والأمعاء الخاوية، التي باتت تلامس ما يزيد عن 300 ألف أسرة.

ومعدلات النمو تشكل مادة سامة لجوهر الاقتصاد اللبناني الحر الذي بات على المحك، حيث نزلت نسب نموه في السنوات العشر الأخيرة ما يقارب العشرين نقطة مئوية (20 في المئة من العشرة في المئة إضافة إلى 10 في المئة سالب) وربما أكثر برأي الكثير من الاقتصاديين. وكمؤشر ظاهر يكفي النظر في انخفاض الناتج القومي المحلي بأكثر من 30 في المئة فعليا، ناهيك عن الضغط على الموازنة العامة والمالية العامة، المرهقة أصلا بفعل ملف الكهرباء الذي يسمى بملف "فالج لا تعالج"، حيث اجتاحت العتمة حياة اللبنانيين، وصولا إلى خدمة الدين القاتلة بما يقارب سبعة مليارات من الدولارات سنويا.

أما الأخطر المستجد، فهو ملف حساس يسري كالنار في الهشيم وككرة النار التي تكبر يوما بعد يوم، وهو تضخم الكتلة النقدية المتداولة. وتعتبر هذه الكتلة هي كمية العملات الموجودة بين أيدي المستخدمين، التي تُستعمل لإجراء العمليات التجارية بين المستهلك ومقدّمي الخدمات وشراء البضائع. هذه الكتلة لها دلالات اقتصادية كونها تمثّل مصدر الاستهلاك على المدى القصير، أي إنها تمثّل السيولة المتوافرة في السوق، وهذا الاستهلاك جزء مهم من الناتج القومي المحلي، مع الإشارة إلى الفارق بين أن يكون الناتج القومي المحلي وهميا أو حقيقيا.

بيانات الكتلة النقدية: لعب بالنار

وتُشير بيانات مصرف لبنان الواردة في التقرير الأخير إلى أن حجم العملة الموضوعة بالتداول ارتفعت من 6.2 تريليون ليرة لبنانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 إلى 16.4 تريليون ليرة لبنانية في أيار/ مايو 2020.

إن هذا الارتفاع له مفعول سلبي مُزدوج: الأول ضرب سعر صرف الليرة والثاني زيادة الطلب على الدولار الأمريكي، ومن ثم ارتفاعا في أسعار الاستيراد، وعليه لا تزال كرة النار تكبر وتكبر...!

من هذا المُنطلق، تتوجّب معرفة أن هناك استحالة الاستمرار بهذه الوتيرة! وهذا الأمر يفرض عددا مُعيّنا من الأمور الاحترازية وإلا التوجه نحو كارثة مالية نقدية كبرى. لذا لا بد على أهل الحل والعقد في السياسية المالية والنقدية، لا سيما حاكمية مصرف لبنان ونواب الحاكم الجدد وجمعية المصارف وكل المعنيين، مراعاة ما يلي:

خفض الإنفاق لتمويل الداخل بطبع العملة من مصرف لبنان لتغطية نفقات الحكومة عبر تعويم الليرة، لأننا نكون ماليا ونقديا كمن يستجير من الرمضاء بالنار!!

وهنا دور تفعيل الأجهزة الرقابية فعليا في كل المناطق عبر ملاحقة التجّار الذين يرفضون قبول الدفع بالبطاقات المصرفية، للتقليل من الكتلة النقدية المتداولة بالعملة اللبنانية.

كذلك لا بد من المواءمة بين المركزي اللبناني والمصارف التجارية، في تحفيز المواطنين على استخدام وسائل الدفع الأخرى. وفي خطوة ضرورية، لا بد من وضع سقف للسحوبات النقدية بالليرة اللبنانية، وذلك لتحجيم الكتلة النقدية وتجفيف الطلب على العملة الخضراء في السوق السوداء، حيث الأسعار بلا سقوف وخارج المألوف.

إن المضي بسياسة الطبع بلا تغطية ستؤدي إلى درب جلجلة للعملة اللبنانية وحامليها، فحذار ثم حذار من اللعب على وزن الليرة وقيمتها لتلبية الحاجة الآنية، حيث الندم القادم ولات ساعة مندم، خاصة بعد تقرير بنك أوف أمريكا الأخير، الذي يحمل بصمات أعلى من تقرير فني مالي، حيث سياسة تهبيط الحيطان الأمريكية على اللبنانيين، مبشرا ببلوغ الليرة عتبة 46500 ليرة للدولار الواحد.

الدولار فوق 45 ألف ليرة: هل تصح؟؟

وبحسب بنك أوف أمريكا، يُترجم التضخم غير المسبوق بحجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية؛ ضعفا حادا مقابل العملات الأجنبية، وذلك بنسبة تتخطى 429 في المئة، الذي سيؤدي إلى وصول سعر الصرف بالعملة المحلية إلى حدود 10234 ليرة، وسط توقع أن تستمر الليرة اللبنانية بالتضخم مع استمرار انعدام تدفق العملات الأجنبية إلى لبنان، الذي يُرجح أن يترجم ببلوغ سعر الدولار 13551 ليرة، أي بزيادة قدرها يفوق 500 في المئة. وبذلك، يشير التقرير إلى أنّ الليرة اللبنانية ستستمرّ بالانحدار إلى نحو 2223 في المئة نهاية العام الجاري، مقابل الدولار الأمريكي جراء استمرار مصرف لبنان بطباعة العملة، حتى يصل سعر الصرف غير الرسمي إلى 46500 ليرة.

باعتقادي وإن صح في التقرير استخدام المعادلات المالية والاقتصادية لمواكبة الأرقام في الدولة اللبنانية، إلا أن الوضع الفعلي وإن كان سيئا فلا أعتقد أنه سيبلغ هذه الذروة، علما أنه بحسب الخبراء المنصفين، هو سيناريو له قابلية التحقيق في حال أمعنت أمريكا وحلفاؤها في سوق لبنان نحو الهاوية، ولكن ترياق هذا الدرك المالي والسياسي والنقدي للبنان ودوءاه جاهز عبر تغيير جذري في المقاربات التي تعتمدها الحكومة في المواضيع الإصلاحية كافة، في الإدارة والاقتصاد والكهرباء، وحتما في استنهاض سياسة النأي بالنفس والعودة إلى الحضن العربي، ضمن مقتضيات السيادة التي تلائم حزب الله للملمة الداخل من الانزلاق إلى حروب عبثية لا طائل منها، وذلك دون إغفال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ومن خلاله تشريع الآفاق لعودة إحياء مؤتمر سيدر ونحو انفتاح المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، بعد كلام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بأنه "ندعم لبنان طالما أن الإصلاحات ستنجح، وأن حزب الله لا يسيطر على الحكم". وأعلن أنه "نعمل ما في وسعنا لتفعيل العقوبات ضد عناصر حزب الله اللبناني، وسنساعد لبنان للخروج من الأزمة ولا نقبل بأن يتحول لدولة تابعة لإيران".

وليس ببعيد عن بومبيو، كان كلام الوزير وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان الذي يقول: "أنا قلق وحزين على لبنان، مرّت مهلة المئة يوم ولم تنفذ حكومة دياب الإصلاحات المعروفة في الكهرباء ومحاربة الفساد والنظام المالي والمصرفي. اليوم هناك خطر انهيار، وأقول للبنانيين حقيقة، مستعدون لمساعدتكم، ولكن ساعدونا حتى نساعدكم. فهل أنتم واعون يا سادة؟!".

المسار الانحداري مستمر مع غياب الثقة والإصلاحات الحقيقية

ومع ترجيّحنا استمرار فقدان الثقة بين المصارف والمودعين في الفترة المقبلة، فإن الأزمة مستمرّة ولا مهرب منها، ما يؤكد مواصلة المودعين سحب ودائعهم من المصارف. كما أن الأموال التي طبعها المصرف المركزي ستبقى تصل إلى أيدي المستهلكين، أي إننا مقبلون على زيادة أكبر في الكتلة النقدية المتداولة وتضخم متواصل، لذا الحذر ثم الحذر من اللعب في قيمة الليرة الآخذة في الذوبان.

لذا أوقفوا مجزرة طبع الليرة بلا حسابات منطقية، فتأجيل الأزمة ينذر بأزمة أكبر!!! كذلك على المواطنين خفض الطلب على الدولار بحكم أن تجارة الدولار هي تجارة خاسرة حتى لو حققوا أرباحا آنية، مرحلية أو ظرفية، حيث ارتفاع الدولار سينعكس تلقائيا في أسعار السلع والبضائع، التي باتت سيف مسلط على رقاب اللبنانيين في معادلة الموت البطيء والانتحار مع انهيار الليرة امام الدولار.

إن احتواء ظاهرة تضخم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية سيشكّل تحديّا كبيرا أمام السلطات المالية والنقدية في الفترات القادمة، ما لم تترافق هذه الظروف الاقتصادية والنقدية الموجعة مع أحداثٍ أمنية يحكى عنها الكثير، وحروب افتراضية بسبب رياح المنطقة الحارة من طهران إلى بيروت، مرورا بسياسات القضم الإسرائيلية في الضفة الغربية، التي قد تكون فتيل إشعال المنطقة قبيل الانتخابات الأمريكية القادمة.