قضايا وآراء

من مواقع للتواصل إلى ثكنات للتفاصل

1300x600
في غياب الحرية والشفافية والحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان، فإن كل نعمة يمكن أن تتحول إلى نقمة على أيدي أنظمة القمع والاستبداد، وحتى التكنولوجا والتقينة تتحول إلى أدوات لتكريس الجهل والتخلف والقمع وتكريس الفوارق الطبيقة واحتكار الثروة والسلطة.

وعندما ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي استبشر الكثير من الناس بقدرتهم على كسر احتكار السلطات الرسمية للإعلام، وبقدرتهم على المشاركة الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاهتمام بقضايا الشأن العام. وكان لهذه المواقع دورها المحوري في تحشيد الناس في ثورات الربيع العربي وتحرير إرادة الشعوب، وتمتين أواصر العلاقات الأخوية، ومشاركة الشباب في تجسيد المواطنة والدفاع عن قضايا الأمة.

وبعد انتكاسة الربيع العربي الأول وظهور مد الثورات المضادة، انفقت أنظمة الثورات المضادة المليارات من ثروات الأمة لإعادة تدجين الأجيال وإغراقها في التفاهات والصراعات البينية وإذكاء العنصريات، وثقافة الكراهية والفرقة والتخوين والتكفير، وعودة العبث السياسي بملف الإرهاب، وجندت آلاف المرتزقة والذباب الالكتروني لصناعة الأوبئة الأخلاقية وتصدير العاهات النفسية، وشيطنة القوى الحية والفاعلة، وتشكلت شركات خاصة لإنتاج الأكاذيب والمعلومات المزيفة والمضللة في جميع مجالات الحياة، وافتعال المعارك السخيفة لاستنزاف طاقات الشباب وإبعاد بصرهم عن ميادين الصراع الحقيقية في مواجهة الطغيان والديكتاتوريات والفساد.

وقد استشعر الخبراء خطورة مواقع التواصل في بث ثقافة الفرقة والكراهية في وقت مبكر في 2014، عندما ادعت امرأة في ميانمار أنها تعرضت لاعتداء جنسي من أحد المسلمين، ونشر الرهبان البوذيون الخبر على مواقع التواصل فاشتعلت فتنة أدت إلى مقتل وإصابة عدد من المسلمين، واتضح بعد ذلك أن الحادثة ملفقة.

واتضح في ظل أزمة كورونا كيف كان يتم بث الشائعات العنصرية ضد المسلمين في الهند وغيرها، وكمية معلومات التضليل التي أغرقت منصات التواصل.

وقد تنبهت شركات التواصل الاجتماعي أكثر من مرة إلى قيام أنظمة عربية باستخدام آلاف الحسابات الوهمية للتحريض على الفرقة وإثارة الفتن الداخلية، في ليبيا واليمن ودول المغرب العربي، والتحريض ضد المقيمين العرب في دول الخليج، وقامت الشركات بإلغاء بعض هذه الحسابات.

ومع احتكار الأنظمة والنيوليبرالية أدوات التقنية المتخصصة، يتم توظيف تغريدات الروبوتات في نشر المعلومات المضللة وتزييف الحقائق، كما تم اكتشاف ذلك عندما أعلن ترامب نيته للتخلي عن اتفاق باريس لحماية المناخ. وتم تحليل أكثر من 6.5 مليون تغريدة قبل وبعد الإعلان بواسطة روبوتات تويتر الآلية لنشر المعلومات الخاطئة عبر الإنترنت حول أزمة المناخ، واكتشف باحثون من جامعة براون أن الروبوتات كانت تميل إلى الإشادة بترامب لتصرفاته المعادية للبيئة ونشر معلومات خاطئة عن العلم.

وقبل أسبوع شاهدنا آخر هذه الحملات العنصرية التي شارك في بثها مواطنون عرب مقيمون في فرنسا، تجردوا من هويتهم وإنسانيتهم وباعوا أنفسهم أدوات رخيصة للاستبداد والاستعمار، لإثارة الفتنة والفرقة بين الشعوب العربية والإسلامية؛ لإثارة معارك سخيفة بعد أن فشلت محاولة إشعال صراع أيديولوجي في دول المغرب العربي.

ومن الواضح أن هذه الحملات لن تتوقف، وأنه لا خيار إلا مكافحة التضليل بنشر الحقائق وتنظيم حملات توعية بمخاطر العنصرية والفرقة، ونشر أخلاقيات التغريد في مواقع التواصل، وأهمية احترام الآخرين وقبول الاختلافات، وتعزيز ثقافة التعايش، واستخدام مواقع التواصل بطريقة أخلاقية وإنسانية للدفاع عن الإنسان، والدفاع عن الهوية الثقافية الحضارية الجامعة للعرب والمسلمين، وإعداد برامج خاصة لتنمية الوعي الإعلامي الأخلاقي في كيفية التعامل مع مواقع التواصل وتبيين أضرارها، وتوضيح كيفية اكتشاف المعلومات الزائفة.

فالإعلام حسب التعبير الشائع سلاح ذو حدين، فكما يستخدمه الطغاة والمجرمون في التحريض على الفرقة وإثارة الفتن وترويج الشبهات وتأجيج الشهوات وإغراق الاهتمامات بالتفاهات، فإن على التيارات الشعبية الفاعلة أن تستخدمه في الدفاع عن الأمة ووحدتها وقضاياها المصيرية، وكشف حيل وألاعيب المخابرات، وتنمية الوعي وتعزيز المناعات الداخلية، حتى نعيد مواقع التواصل الاجتماعي إلى وظيفتها الحقيقية التي تتفق مع اسمها كمواقع للتواصل والتعارف والتآلف، بعد أن حولتها الأنظمة المخابراتية إلى ثكنتات عسكرية لشن الحروب على الأخلاق والثوابت ووحدة الأمة ومصالحها العليا.