قضايا وآراء

بمناسبة الاحتلال التركي!!

1300x600

كنت أنتهز فرصة تحسن الظروف في السجن، التي كانت تتراوح بين السعة والشدة، حسب ظروف البلاد السياسية، وذلك لأكمل دراساتي العلمية، وأكسر من خلال ذلك قيود السجن، وأحطم أسواره العالية، وذلك بمتابعة كل ما يجري في العالم، حيث كنت متيقنا أن الحياة لن تتوقف عند هذا الحد، وأننا بصدد تحولات كبرى بمصر والعالم ستجعلني بحاجة لهذه الدراسات وهذه المتابعات المستمرة.

وكان من بين دراساتي التي أنجزتها في فترات سجني الطويل؛ دبلوم للعلاقات الدولية من جامعة عين شمس، حيث كنت أرى يومها أهميته القصوى في ضوء ما بدأ يصيب العالم من تحولات دولية متسارعة منذ الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفييتي، وبدأت الساحة الدولية تتدحرج بعده بسرعة نحو علاقات جديدة وعالم جديد.

وقد استلزم اجتياز هذا الدبلوم مناقشة شفهية داخل السجن، برغم أن لوائح الجامعة تنص على أن يكون ذلك داخل مدرجات الجامعة، لكن بعض الجامعات وبعض الأقسام كانت تتساهل في هذا الشرط حتى لا تصطدم بعقلية الداخلية الأمنية التي قد تؤدي إلى منع ذلك كله.

ولهذا فقد كان حضور هذا الوزن الثقيل من أساتذة القانون الدولي والعلاقات الدولية يحمل قدرا من التعاطف، يخالطه قدر آخر من خوض تجربة الاطلاع على ما يجري داخل السجون. وقد حضر للمناقشة الشفوية داخل السجن الذي كنت أقيم فيه؛ مجموعة من الأساتذة الأفاضل المعنيين بالمناقشة، يتقدمهم رئيس قسم القانون الدولي في الجامعة آنذاك، الأستاذ الدكتور علي إبراهيم رحمه الله تعالى.

وكنت حريصا أثناء مثل هذه المقابلات أن ألفت نظر الضيوف إلى أننا لا زلنا في سجننا أوفياء لقضية تحرير بلادنا، ونبحث بكل الطرق عما يمكن أن نقدمه لها، ولهذا بدأت حديثي بمجرد انعقاد لجنة المناقشة بأن قلت لهم: إنني أرحب بكم داخل سجن ليمان طرة الذي بناه المحتل البريطاني لقمع الحركة الوطنية، والذي لا زال يشهد على أن الاحتلال لم يغادرنا، بل ولا يزال وفيّا لاستعماريته باعتقال المطالبين بالحرية في بلادنا.

فانتبه الضيوف بشدة، وأدركوا أنهم ليسوا بصدد مجرد امتحان للحصول على شهادة. وانتفض رئيس القسم على وجه خاص وكاد يقوم من فوق مقعده وهو يبتسم ابتسامة فهمت منها أنه يريدني أن استرسل؛ قائلا: لكني قرأت على بوابة السجن بالخارج أنه تم تشييده عام ١٨٨٦، وهو ما يعني أن من بناه هو الاحتلال التركي!! فأدركت أنه يستدرجني لمنطقة هامة، ويريد أن يعرف وجهة نظرنا فيها، فاستطردت شارحا: لماذا لم تعتبر الأمة العثمانيين محتلين في ذات الوقت التي رفضت الاحتلال البريطاني وقاومته، ثم نبهت لضرورة قراءة اسم الضابط المستعمر البريطاني الذي شيد السجن والذي لا زال محفورا أعلى بوابته الرخامية العتيقة.

ومما لفت نظري بعدها أن الدكتور قد أضاف لمقدمة كتابه "التجارة الدولية وجدلية التقدم والتخلف" الذي يدرس بجامعة عين شمس: "لا زال الخونة والعملاء ينظرون للدولة العثمانية على أنها دولة احتلال، ونسوا أنه لولا دفاعها عن المنطقة لعدة قرون لما بقيت للآن، ولكان جميع أسماء سكانها اليوم بين ماريا وجرجس بدلا من محمد وفاطمة"!!

ومن الطريف أن استلم دفة الحديث بعده أستاذ العلاقات الدبلوماسية؛ الذي بادرني بسؤال أصاب الضباط الحاضرين بالانزعاج، وخاصة ضابط أمن الدولة في السجن الذي لم يفته أن يحضر هذه المناقشة!! فقد كان سؤاله: ماذا لو استطاع المسجون السياسي الهرب.. ما هي السفارات التي يمكن أن تتيح له حق اللجوء الدبلوماسي؟

فاضطر ضباط السجن للتدخل، برغم أنهم كانوا يحاولون أيامها إظهار أكبر قدر من اللطف والحياد أمام الوافدين من خارج السجن، وخاصة أنها دقائق وتمر، وكان أكثرهم انزعاجا ضابط أمن الدولة الذي اعتبر السؤال تحريضا على الهرب!! فقال له أستاذ العلاقات الدبلوماسية: يا بني هذا سؤال يدخل ضمن مقرر العلاقات الدبلوماسية وأصرَّ على تلقي الإجابة.. وقد كنت أحرص منه على طرق الموضوع، فبدأته بانتقاد الكتابات القانونية في هذا الباب، حيث "التفرقة بين المجرم السياسي والمجرم الجنائي"، وقلت: لا بد أن أؤكد أولا أن السياسي ليس مجرما، بل معارضا لنظام الحكم بغض النظر عن الطريقة التي انتهجها في معارضته، وطالما وصفناه بالسياسي فقد سلمنا بأنه صاحب مشروع للتغيير أو الإصلاح، وإنْ رفضه النظام الذي يعارضه فهذه طبيعة النظم السياسية مع معارضيها.

ثم استطردت في استعراض أسماء الدول القليلة التي تمنح حق اللجوء الدبلوماسي (الذي له قواعد مختلفة عن اللجوء السياسي) وحدود سلطة الدولة في مطاردة السجين السياسي بعد دخوله للسفارة الأجنبية، وذكرت كذلك أشهر قضايا اللجوء الدبلوماسي والتي امتدت لسنوات طويلة، وأصبح أصحابها فيما بعد رؤساء حكومات.

وانتهت المقابلة عند هذا الحد، وضباط السجن قد صاروا متجهمين، وبدا أنهم غير سعداء بها. أما ضابط أمن الدولة، فقد كاد يلعن اليوم الذي سمحت فيه الحكومة للسجناء بالدراسة من داخل محبسهم!!