مقالات مختارة

هذه حكاية ابنتي رزان

1300x600

الطريقة التي أعدمت بها رزان أشرف النجار هزت كياني وكيان الملايين من شرفاء العالم نساء ورجالا. سالت عليها دموع الملايين. أحسست بأنها ابنتي وأختي وجارتي وطالبتي وممرضتي في المشفى. أحسست أن الكون يطبق عليّ ويعصرني كحبة ليمون. هل المجندة الأمريكية التي جاءت من بوسطن- هي أو غيرها لا فرق- وتعمدت أن تصوب الرصاصة إلى قلبها تنتمي لبني الإنسان؟ أم أنها تجسيد قميء لكل مسلسل الشر الذي أقيمت عليه هذه البلاد، التي بدأ تاريخها بإبادة الملايين من السكان الأصليين؟ 

بقيت قلقا مضطربا أتخيلها في كل مكان، لقد أطلق القاتل الجبان عليها النار ونيكي هيلي تدافع عن كيان القتلة والإجرام في مجلس الأمن، وتتهم الفلسطينيين بالإرهاب. تخيلتها تقف ببراءة بزيها الأبيض أمام الهندية التي مسخت نفسها لتصبح صهيونية متطرفة وتسألها: من الإرهابي أنا أم القناص الذي أرداني قتيلة؟ أنا أم الدبلوماسي الذي يدافع عن القاتل؟ وهل يدافع عن قاتل فاشي إلا قاتل مثله؟ «سرقت دموعنا يا ذئب تقتلني وتسرق جثتي وتبيعها؟». 

أحببت أن أتعرف على رزان أكثر وأحاول أن اقدم صورة واقعية عن هذا الملاك الذي لم ينج من حقد العابرين في كلام عابر. أريد أن أقترب من عالمها البسيط الطيب، لعل قصتها تصبح أسطورة تتناقلها الأجيال وتنتشر في الكتب والمجلات والأفلام والوثائق، لتظل مصدر إلهام للأجيال ورمزا للخير والتضحية والبراءة، وكل ما هو جميل في هذا الكون، وفي الوقت نفسه، كابوسا للفاشيين القتلة. تكلمت مع والد رزان الذي آثر أن أتحدث إلى زوجته صابرين، التي لها من اسمها نصيب فقلت لها حدثيني يا أم أحمد عن رزان.

الأم تحكي قصة ابنتها

آه يا ولدي ماذا أقول لك عن ابنتي ومهجة قلبي ونور عيني وملاكي الصغير رزان. تمنيت أن يرزقني الله بمولودة بنت عندما كنت حاملا في طفلي الأول عام 1997. تمنيتها أن تكون بنتا جميلة وذكية وخفيفة ظل لأمشط شعرها وألبسها أجمل الفساتين وأمسك بيدها الصغيرة لأداعبها. وكأن الله استجاب لدعائي. كدت أطير من الفرحة وأنا أضمها لأول مرة في حضني يوم الثالث عشر من شهر سبتمبر 1997. رزان رقيقة كوردة خفيفة كفراشة نشيطة كنحلة جميلة كغزالة محبوبة لكل من يعرفها.

راقبتها بكل عواطفي وهي تكبر وطرت فرحا عندما لثغت بأول كلمة تنطقها «ماما» وقلت لأشرف مداعبة ستكون رزان أقرب لأمها من أبيها- فقال عادة البنات عندما يكبرن يصبحن أقرب إلى الأب. ولكنها ظلت قريبة منا نحن الاثنين. أنجبت بعدها خمسة أطفال بنتين (ريعان وراما) وثلاثة أولاد (أحمد وأمجد وأمير)، لكن أؤكد لك أن رزان ظلت أقربهم إليّ وإلى أبيها. كانت بالنسبة لي صديقة وأختا وبنتا وتلميذة ومساعدة ومستشارة. تعتني بالبيت وبإخوتها وبوالدها في حضوري وفي غيابي، وفي الوقت نفسه، تتفوق في دراستها. تعلق بها إخوتها، خاصة راما ابنة السنوات الست وأخوها أمير ابن السنوات الخمس. قال لي أمير: ماما «وين راحت رزان؟»، قلت له «إلى السماء يا حبيبي». قال لي: خديني إليها. اشتقت لها والله يا ماما. قلت له سنلتقي بها كلنا يا ولدي. لم يتكلم أمير كثيرا منذ اختفاء رزان عن المشهد. راما كانت مصابة بذهول متواصل. كنت أرى في عينيها سؤالا موجعا، كم تمنيت لو أعرف أن أجيبها عنه. لا أعرف كيف سنعيد ترتيب حياتنا في بيت كل ما فيه يذكرنا برزان بعد أن ينفض الناس من حولنا ويذهبوا للسير في جنازات أخرى. 

اقتلع آباؤنا وأجدادنا عنوة وظلما وقهرا من أرضنا في بلدة سلمة القريبة من يافا، حيث انتقم العدو من أبطالها الشجعان الذين أذاقوه علقم الهزائم، فطرد أهلها وقتل الكثيرين منهم فتربى أبناؤها على الشجاعة والبطولة والتعلق بالأرض والوطن. اقتلعنا ورمينا في مخيمات اللجوء، وأصبحنا ضحايا لهذا الجندي الغريب الكريه الذي أسقط القنابل الفوسفورية على بيوتنا، وهدّم المحل التجاري لبيع قطع غيار الدراجات الذي كان يملكه زوجي عام 2014، وبقينا بدون دخل. أتصدق أنهم قدروا خسارتنا بنحو خمسة عشر ألف دولار لم يصلنا منها فلس واحد. وها هو الجندي الغريب يأتي من أعالي البحار ليسدد طلقته إلى صدر حبيبتي رزان ويا ليته سددها فيّ أنا. 

قمنا إلى السحور صباح الجمعة. أكلنا ما تيسر ثم صليت وذهبت للنوم. أما رزان فبعد الصلاة بدأت تلملم أدواتها التي تحتاجها للإسعاف، ورأيتها تلبس زي الممرضات. نظرت إليها نظرة أخيرة قبل أن أدلف إلى غرفتي فرأيت وجهها يشع نورا. لم أر إشراقة وجهها مثل تلك اللحظة ـ غفوت ولم أحس بها عندما غادرت البيت لمتابعة عملها التطوعي لليوم الواحد والستين على التوالي لمدة تتراوح من 13 إلى 15 ساعة يوميا.

دعوت لها بالسلامة في صلاة الجمعة. انتشرت الأخبار عن سقوط 100 جريح ثم استشهاد فتاة مسعفة. عندما سمعت الخبر أحسست أن قلبي سقط من مكانه وتحول إلى حبة خردل في قدمي. تجمدت في مكاني ولسان حالي يقول «كلا فما صدق الناعي ولا الخبرُ». لكن رأيت أهالي البلد يزحفون نحو بيتنا. عرفت آنذاك لماذا كان وجه رزان يشع نورا. سارت الأمة كلها في جنازة رزان كأنها يوم النفير الأعظم. كانت رزان محمولة في بحر من الدموع من رفح إلى بيت حانون ومن الناقورة إلى أم الرشراش ومن المغرب إلى الكويت. ذهبت وحدي إلى اللحد الذي وارى جسدها الصغير. أقسم لك إنني سمعتها تتكلم معي. جارنا جابر رضوان طرق علينا الباب بعد أيام ثلاثة يحمل في يدية طفلة وقال لي: «هذه بنتك أيضا. رزقت بمولودة أسميتها رزان». ستة آخرون أسموا بناتهم رزان. عيادات وشوارع ومؤسسات أطلق عليها اسم رزان. بنتي أصبحت بنتا لكل الناس. وبنات الوطن كلهن بناتي.

رزان تحكي قصتها 

أنا يا عم إنسانة بسيطة طيبة أحب الناس جميعا، ولم ألحق الأذى في حياتي بنملة. متواضعة ومجتهدة وأحب المدرسة ومعلماتي، وكنت من الأوائل دائما في جميع دروسي. أحب الحياة وأحبُّ الألوان إليّ الذهبي، وأحب الرسم والموسيقى والغناء. أنا إنسانة عادية لا أدعي البطولة ولا أريدها. كنت أحلم أن أدرس الطب لأصبح طبيبة أعالج أبناء شعبي. لكن حرب 2014 وضعت حدا لطموحي ولم أتمكن من متابعة الدراسة بعد تدمير مصدر دخل العائلة.

قلبي كبير ومليء بالحب، ولكنه في الملمات لا يعرف الخوف. أفيض رحمة ورقة وعطاء وحبا للناس خاصة إخوتي وأخواتي وأهلي الطيبين. تطوعت من أول أيام مسيرات العودة وكنت أعمل مسعفة في نقطة الإسعاف على خط التماس، ليس بعيدا عن قريتي خزاعة، حيث يسقط الجرحى والشهداء. كم من عين ذبلت أمامي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. وكم جريح حاولت إنقاذه. أصبت في يدي وتعرضت لاختناقات قنابل الغاز مرات. قلت في نفسي نحن لا نموت مرتين. وأفضل أن يموت الإنسان في ساحة النضال بدل أن تصدمه سيارة أو يطيح به مرض عضال.

مساء الخميس ساعدت أختي ريعان التي ستجلس لامتحان التوجيهي. ودعتها بحرارة قبل أن أذهب إلى غرفتي. كنت كل يوم جمعة أستعد للمواجهة وأتوكل على الله وأودع أمي وأبي وإخوتي، إلا ذلك اليوم لم أودع أمي. أصبح العمل روتينيا. الساعة السادسة والنصف مساء شاهدت أنا وزميلان جريحا ينزف على بعد مئة متر من الحاجز قررنا أن ننقذه بأي ثمن. رفعنا أيدينا إلى أعلى لنؤكد للجانب الآخر من السياج أننا طواقم إسعاف لا نحمل إلا زينا الأبيض وأدواتنا البسيطة. سمعنا إطلاق نار. أحسست بشيء ساخن في ظهري. ظللت سائرة. سقطت وقلت أنا فداؤك يا شعبي العظيم. مرت أمام عينيّ صور كثيرة في ثوان كل ثانية كأنها دهر. رأيت أمي وأبي وأخوتي وأخواتي وزملائي في العمل.

ابتسمت لهم جميعا. مرت صور كثيرة بيضاء من أمامي. أحسست بنقطة دم ساخنة تفيض من صدري. رأيت حمامتين تحطان على كتفيّ. يد أبي تمسك بي وأمي تمسح عرقا تصبب من جبيني. وضعت يدي على مصرف الدم. لم أشعر بألم. مر من فوقي شال أبيض ورف عصافير بيضاء. ذبلت عيناي وارتخت يداي وقبلت تراب الوطن ورحلت وعلى وجهي ابتسامة.

القدس العربي