قضايا وآراء

دول الحصار.. لماذا لن يدوم هذا التحالف بينهم؟!

1300x600

ما يجمع دول الحصار (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر)، هو العداء لدولة قطر وبعض المصالح هنا وهناك. وهذا واضح لكل ذي عين. لكن ماذا عن حقيقة أن ما يفرقهم أكثر مما يجمعهم؟ هل هي واقعية أم مجرد خيال واسع من المراقبين والخصوم؟ وهل لهذا التحالف أن يستمر؟ أم سيعاد تموضع واصطفاف هذه الدول على نحو مختلف مما هو عليه اليوم، كأن تقف مصر خلف الإمارات، بحكم تبعيتها لها منذ الانقلاب العسكري في 2013، وأن تصطف البحرين إلى السعودية، بحكم علاقة التابع والمتبوع الأزلية بينهما؟ وإن كان التحالف وقتيا، ما هي الأسس والشواهد التي بنيت عليها مثل هذه الفرضية؟

هذا المقال هو محاولة لفهم أسباب عدم استمرار هذا التحالف وفق بنية ترتكز عليها السعودية والإمارات في سياستهما وتوجهاتهما منذ مرحلة التأسيس. صحيح أن السعودية، بعد اندلاع الأزمة الخليجية، تبدو سائرة على خطى الإمارات في عدة ملفات داخلية وإقليمية ودولية، لكن الخلفيات التأسيسية لكل منهما متمايزة إلى الحد الذي يصعب معه الانصهار الكامل.

إيران ما بين السعودية والإمارات

بُنيت مؤسسة الحكم في السعودية على الفكر الوهابي ذي المنهج السلفي المتشدد، ومن صلبه رسمت المملكة توجهاتها وسياستها الخارجية التي اتسمت في أغلبها، بعد الثورة الإيرانية عام 1979، بنعرة طائفية مضادة لتلك الخاصة بالنظام الجمهوري الديني المستند على المذهب الشيعي كمرجعية دينية في الحكم. ستقولون إنني أبالغ، لكن فعليا معظم المواقف التي انتفضت فيها المملكة واستخدمت معها لهجة قوية وشرسة (وإن كانت بلا فعل حقيقي) تتعلق بمحاربة إيران ووقف الزحف الشيعي. فمثلا، دورها في لبنان واليمن وسوريا أتى انطلاقا من عقدة محاربة إيران، وليس من وازع إحقاق الحق والوقوف الى جانب رغبة الشعوب، تحديدا في سوريا واليمن. وتنظر السعودية إلى لبنان على أنه مستوطنة تابعة لها، وفق حسابات ما لنا وما لهم، أي تقسيم الأمور وفق الحساب السني الشيعي. لذلك، من الطبيعي أن نرى الخطاب السعودي الرسمي اليوم لا يجد غضاضة في الجنوح علنا إلى إسرائيل بالتوازي مع رفض تام لإيران ومعاداة لحركة حماس المدعومة إيرانيا.

في المقابل، نهج الإمارات أقرب إلى العلمانية والتمرد على القيم بالانفتاح الفاقع والجنوني، وفي سياستها الداخلية والخارجية تنبذ كل ما هو قادم من خلفية إسلامية. لذلك، مشكلتها ليست محاربة إيران، بل محاربة كل ما هو إسلامي والقضاء عليه. الإمارات لا يوجد في مصطلحاتها إسلام سياسي معتدل، بل ترفضه وتؤطره على مقاييسها الخاصة، وترى أن إيران وإسرائيل أقل خطرا من الحركات الإسلامية، خاصة تلك الممارِسة لنشاط سياسي وتسعى لتغيير سلمي للسلطة، سواء كانت جزءا منها أو خارجها، عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة. تفزع الإمارات من أي نموذج تركي في الدول العربية، وهو الذي أثبت أنه يمكن للأحزاب ذات التوجه الإسلامي المعتدل أن تساهم في التغيير إلى الأفضل.

وهذه نقطة خلاف جذرية بين الإمارات والسعودية، ويمكن برهنتها في الحالة اليمنية. فالسعودية، وفي سبيل تنفيذ أجندتها، ليس لديها مانع في أن تتحالف مع قوى وتيارات إسلامية. وخير مثال لذلك أنها لجأت إلى إخوان اليمن ومنحت لهم ملاذا داخل أراضيها بعد الانقلاب الحوثي، حتى وإن كان بغرض الاحتواء ليس إلا. لذا، يمكن القول إن السعودية، ورغم حملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها منذ أشهر على الدعاة الخارجين على بلاط صاحب الجلالة، ليس لديها حدة في خصومتها مع الإسلاميين والإخوان، بعكس الإمارات التي ترفضهم تماما، وعداؤها للثورات العربية نابع من العداء للحركات الإسلامية. فحتى وإن وضعت الإمارات رشة ملح في خطابها ضد التوسع الإيراني، في النهاية يبقى هذا الهجوم والتخوف ناعما ومدروسا، إن لم يكن شكليا، خاصة وأن التبادل التجاري الإماراتي الإيراني هو الأكبر خليجيا.

إيران ما بين البحرين ومصر

البحرين تتبع السعودية، وتشترك معها في أن إيران هي العدو الأكبر، وهو التهديد الحقيقي لقلب نظام الحكم فيها والمزعزع الأول لاستقرارها. على العكس من ذلك، مصر التي تتبع الامارات، وهي لا ترى إيران خطرا كبيرا. وحتى في خضم الأزمة الخليجية، كانت مواقف مصر مختلفة عن توجهات دول الحصار تجاه إيران ومليشياتها. فقد رفض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي توجيه ضربة إلى حزب الله. وعندما كانت السعودية وأمريكا تتحركان لفرض عقوبات جديدة على "حزب الله"، قال السيسي إن المنطقة لديها ما يكفيها من الحروب والصراعات. ليس هذا وحسب، بل أيضا في ذروة عاصفة الحزم؛ استقبل نظام السيسي وفدا حوثيا. أليس الحوثيون العدو الأول للسعودية في اليمن والمهدد الأول لأمنها؟!! لذلك، فإن عدو البحرين والسعودية الأول ليس عدوا لمصر، بل لربما تمد مصر يدها لعونهم، كما هو الحال مع نظام بشار الأسد.. فالتصريحات تتراجع والمواقف في تتغير.

اليمن ما بين السعودية والإمارات

تحت عنوان التحالف مع السعودية لدحر الحوثيين في اليمن وتأمين الحدود السعودية الجنوبية، وضعت الإمارات لنفسها موطئ قدم في الشطر الجنوبي، وأصبحت (عبر وكلائها) على الأرض المتحكم الأول فيه والساعي لانفصاله بأي وسيلة. ربما حاولت كل من السعودية والإمارات دفن خلافاتهما حاليا وسط تحالف ظاهري في تعز، لكنهما لم تستطيعا فعل الأمر ذاته في عدن. وما حدث من مواجهات دامية بين القوات الحكومية المتمثلة في"ألوية الحماية الرئاسية "التابعة للحكومة الشرعية من جهة، وقوات "الحزام الأمني" ومليشيات "المجلس الانتقالي الجنوبي"، المدعومة إماراتيا، من جهة أخرى، لهو مثال فاضح على الخلاف السعودي الإماراتي. وبيت القصيد أن الإمارات لو كانت لديها ذرة حرص على الأمن القومي السعودي، لكانت وقفت ضد مشروع التقسيم في اليمن الذي يعني دويلة إيرانية في شمال اليمن، أو بشكل أدق ضاحية جنوبية للسعودية. وبالتالي، فإن فكرة الانفصال التي تدفع بها الإمارات تزيد من التهديدات للسعودية التي لم تعد عاصمتها بعيدة عن مرمى الصواريخ الحوثية، وتثبت بما لا يدع مجالا للشك أن أمن السعودية لا يعني الإمارات في شيء، بل هو آخر همها.

بات جليا أن ما يحدث في اليمن هو صراع نفوذ اقتصادي بالدرجة الأولى. الإمارات تحاول أن تسيطر على خطوط التجارة العالمية في خليج عدن والبحر الأحمر؛ لأنها تدرك بأنه دخلها القادم بعد نفاد البترول، وأن اقتصاد النفط لن يدوم. الاستثمار حق مشروع لكل الدول، لكن ليس على الوصفة الإماراتية التي تحتل دولا عسكريا، وتعيث فيها فسادا وإفسادا وتحيك مؤامرات لتسيطر على ثرواتها. فهذا أمر غير مقبول، ويعتبر بلطجة على مستوى دولي وسجل الإمارات حافل بابتزاز دول فقيرة ومعدمة من أجل نهب ثرواتها، مثل الصومال وجيبوتي. وفي العام 2008، استأجرت شركة دبي العالمية ميناء عدن الاستراتيجي الذي يعتبر من أفضل خمس موانئ طبيعية حول العالم، وأثارت الصفقة الكثير من الجدل، وطالبت هيئة مكافحة الفساد اليمنية بفسخ العقد، خاصة أن الشركة الإماراتية لم تلتزم بمشروع تطوير الميناء وفق المرحلة الأولى للخطة. وفي العام 2012 (أي ما بعد ثورة الشعب "الحزين")، قرر مجلس إدارة مؤسسة خليج عدن إلغاء الاتفاقية، ثم أوجدت الإمارات صيغة تفاهم مع اليمنيين، لكنها بقيت تدور في ذات الدائرة التي تفضي إلى استغلاله بأقل درجة ممكنه، وعدم الاستفادة منه لصالح مينائها "جبل علي".

في النهاية، الإمارات هدفها في اليمن إنشاء قواعد للسيطرة على خليج عدن استكمالا لقواعدها في أريتريا والصومال، وبذلك تكون قد أحكمت سيطرتها على خليج عدن من الطرفين. ولأنه أصبح واضحا أن السعودية منساقة خلف الإمارات في سياستها. فهل يمكن أن تكون الإمارات هي من دفعت السعودية إلى عاصفة الحزم، خاصة وأنها خسرت ميناء عدن في العام 2012، مع وضع خطين تحت معلومة أن ميناء عدن كان يصنف كثاني أهم موانئ العالم، بعد نيويورك، في تزويد السفن بالوقود؟ أي ثروة ستجنيها الإمارات بوضع يدها عليه؟؟ وربما من الأسباب التي جعلت الإمارات تعجل بالانقلاب بمصر هو مشروع قناة السويس؛ لأنه بالمختصر كان مهددا كبيرا لميناء "جبل علي" في دبي.

ولذات السبب أيضا، قد يؤدي مشروع "نيوم" الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ إلى مواجهة إماراتية سعودية مستقبلا، لما له من استثمارات طموحة على ساحل البحر الأحمر؛ من شأنها الإضرار بموانئ دبي. فالسعودية التي لديها المساحة الأطول على هذا البحر، لن تعجبها فكرة أن تأتي الإمارات من الخلف وتستولي عليه، ولن تستهويها لوقت طويل حتى لو أبدت مرونة حاليا لضرورات المرحلة.

التوافق الهش بين مصر والسعودية:

 

 ترى مصر دائما السعودية دولة وهابية ومفرخة للإرهابيين الذين تم تصديرهم إلى كل العالم. "الجهادييون" في خطاب الإعلام المصري، وحتى السعودي نفسه، هم إنتاج سعودي من أيام "الجهاد الأفغاني"، لكن الرياض فقدت السيطرة عليهم وراحوا يتكاثرون هنا وهناك. كانت لغة الإعلام المصري الذي يتلقى أوامره بشكل واضح من قبل النظام (عبر الباشا أشرف وأخوته) قاسية في بعض المراحل، إلى الدرجة التي سمحت بتوجيه شتائم وسباب إلى الملك سلمان نفسه؛ من أقرب الإعلاميين للسلطات المصرية. وحتى بعد الأزمة الخليجية وتقارب مصر والسعودية، أظهرت التسجيلات التي سربتها نيويورك تايمز أنه لا مانع لدى النظام من ابتزاز السعودية وتخويفها، حتى وهما في أكثر اللحظات التاريخية تحالفا. فقد أوعز الضابط أشرف للإعلاميين بتوجيهات واضحة بمهاجمة السعودية عندما تقاربت مع الإخوان في اليمن، خاصة بعد مقتل الرئيس المخلوع علي صالح.


الابتزاز السياسي هو شعار النظام في مصر منذ انقلاب 2013، وعندما تلوح في الأفق أي خلافات بين مصر والسعودية، تتقرب مصر إلى أعداء السعودية عبر تصريحات ضدها، وتسلط الإعلام لشتمها، وسط صمت إماراتي لا يصفق ولا يحذر.. هو موقف المتفرجعن بعد إن لم تكن هذه الأفعال صنيعة الأذرع الإماراتية المتغلغلة في أركان الدولة المصرية. وحتى لا يُفهم بأني أقيس الأمور فقط وفق أبعاد الأزمة الخليجية، دعونا نعود للوراء قليلا.. فعندما خفضت أمريكا مساعداتها العسكرية لمصر، مد السيسي يده فورا لروسيا، وقرر عقد صفقات سلاح معها. ويبدو أن ما يهم مصر، ومن ورائها الإمارات، هو الأرز السعودي ليس إلا.

بشكل واضح، الإمارات والسعودية ومكفولاهما؛ ليسوا في خندق واحد، وتحالفهم ضد قطر لا يعني أن مصالحهم لن تتضارب. تحالف وقتي وهش. وفي النهاية الخلاف الحقيقي هو بين الإمارات والسعودية، وما دون ذلك تحصيل حاصل.