مقالات مختارة

بازار التحالفات وقواعد اللعبة التي لم تتغير!

1300x600

تحدثنا في مقال سابق عن «خرافة الكيانات السياسية العابرة للهويات الفرعية»، وقلنا إن الصخب الذي تردد بقوة في الأشهر الماضية عن تشكيل كتل «وطنية» مفترضة عابرة للهويات الفرعية/ الولاءات الأولية مجرد بروباغاندا غير قابلة للتطبيق، بسبب أن الأحزاب والكيانات السياسية العراقية الرئيسية، تشكلت أساسا على فكرة تسييس الهوية الإثنية والمذهبية. 


فقد قامت الجماعات السياسية الرئيسية في العراق المهيمنة على المشهد السياسي منذ 2003، منذ نشأتها، على مقولات طائفية بوصفها مقولة سياسية، ومن ثم فهي بطبيعتها أحزاب «طائفية»، أي أنها لا يمكن إلا أن تكون أحزابا كردية أو شيعية أو سنية! وهذه الهوية الطائفية ليست حكرا على الأحزاب القومية او الدينية، فهي مقولة أيديولوجية/ هوياتية حكمت الجماعات السياسية العلمانية/ الليبرالية العراقية أيضا مع استثناءات نادرة! هكذا وجدنا سهولة تدافع فرسان الطائفية وحملة لوائها طوال السنوات الماضية، لإنتاج كتل «مدنية»، ليس لها من مدنيتها سوى الاسم، لخوض سباق الانتخابات القادمة، من دون محاولة أية جدية لتغيير بناهم الطائفية.


وقد أثبتت التحالفات المعلنة لخوض انتخابات 2018 صحة هذا التحليل، فقد وجدنا التحالفات الرئيسية تقوم على أسس هوياتية بحتة، على الرغم من محاولات البعض تزويق هذه البنى الطائفية ببعض الأسماء المحسوبة هوياتيا على طرف مختلف، ولكن هذه الأسماء سبق لها أن حسمت خياراتها السياسية مع الطرف الذي تحالفت معه! فهؤلاء الأفراد الذين سبق لنا أن وصفناهم بــ «سنة المالكي» عند تحليلنا لنتائج انتخابات مجالس المحافظات عام 2013، هم أنفسهم الذين وصفناهم بــ «سنة الحشد» عن تحويل ولائهم من المالكي باتجاه الحشد! وهم أخيرا حسموا أمرهم مع العبادي «القوي» الذي يمكن أن يشكل رافعة لهم! وبالتالي لا يمكن توصيف التحالفات السياسية التي ضمت هؤلاء الأفراد بأنها محاولة لتشكيل كيانات سياسية عابرة للهويات الفرعية/ المذهبية، بل هي في الحقيقة تكريس للتحالفات الطائفية!


وبالعودة إلى التحالفات الرئيسية القائمة، كنا قد أشرنا في مقالنا «نحو خارطة أولية للانتخابات البرلمانية العراقية» أننا سنكون أمام خمسة قوائم شيعية رئيسية هي: دولة القانون التي يتزعمها نوري المالكي، وقائمة لم تتبلور حتى اللحظة يتزعمها حيدر العبادي، وقائمة تضم بعض ميليشيا الحشد الشعبي بزعامة هادي العامري، والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وتيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم. وأكدنا ان هناك إمكانية محدودة لتحالفات ثنائية في أفضل الأحوال! وهذا ما حصل فعلا. فبعد فشل محاولات تشكيل تحالف ثنائي بين ائتلاف «النصر» التي أعلنه رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، وتحالف الفتح الذي ضم الميليشيات العاملة تحت مسمى الحشد الشعبي، ونجاح مفاوضات تشكيل تحالف ثنائي بين قائمة العبادي وقائمة تيار الحكمة برئاسة عمار الحكيم، أصبحنا عمليا أمام أربع قوائم شيعية فقط. وبمراجعة الأحزاب والكيانات التي ضمتها هذه التحالفات الأربعة، سنجد أن تحالفي دولة القانون والفتح كانا صافيين شيعيا، في حين ضم تحالف النصر بعض الشخصيات السنية ممن وصفناها سابقا! أما تحالف «سائرون» الذي شكله التيار الصدري فقد ضم التيارات المدنية التي تحالف معها في الحركة الاحتجاجية طوال السنتين الماضيتين، وأبرزها الحزب الشيوعي العراقي! 


سنيا يبدو الوضع أكثر وضوحا، فلم تتمكن أي من القوائم السنية من تزويق تحالفاتها! وبالتالي ظلت هذه التحالفات ذات بنية هوياتية صافية، باستثناء تحالف ائتلاف الوطنية! التي تحاول استعادة سيناريو القائمة العراقية في عام 2010، فباستثناء حزب الوفاق الوطني العراقي الذي يتزعمه أياد علاوي، نجد أن جميع الأحزاب الأخرى المتحالفة معه هي أحزاب سنية صافية، وعلى رأسها الحزب الإسلامي برئاسة رئيس مجلس النواب سليم الجبوري! وبالعودة إلى نتائج انتخابات مجلس النواب لعام 2014 سنجد أن السيد إياد علاوي كان قد فشل تماما في الحصول على أي مقعد في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، باستثناء مقعد سني واحد في محافظة بابل! فيما حصل تحالفه حينها على عشرين مقعدا في محافظات بغداد ونينوى وصلاح الدين والانبار وديالى، وكان توزيع المقاعد كالآتي: 4 مقاعد شيعية في بغداد حصرا مقابل 17 مقعدا سنيا! وهذا يعني في النهاية أنه لا يمكن توصيف هذا التحالف هوياتيا إلا على أنه تحالف سني! خاصة وان تحالفات السيد إياد علاوي بداية من انتخابات عام 2005 لم تستطع ان تنتج قائمة حقيقية عابرة للهويات الفرعية خارج إطار الشكل! فمراجعة الخطابات والسلوك التصويتي لأعضاء هذه التحالفات على مدى ثلاث دورات لمجلس النواب تكشف عن خطاب وسلوك تصويتي هوياتي بحت!


كرديا بقيت التحالفات صافية تماما، فنحن عمليا أمام تحالفين رئيسيين: تحالف قائمة السلام الكردية التي ضمت الحزبين الكرديين الرئيسين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وتحالف آخر ضم كلا من حركة التغيير والتحالف من أجل الديمقراطية والعادلة بزعامة برهم صالح فضلا عن الجماعة الإسلامية!


بعيدا عن التوصيف الهوياتي للتحالفات، لا يمكن بأي حال من الأحوال الوقوف على رؤى سياسية مشتركة، ولو بالحد الأدنى، في التحالفات الشيعية والسنية الرئيسية المشكلة! هكذا وجدنا الحزب الشيوعي العراقي مثلا يتحالف مع التيار الصدري على الرغم من الخلاف الأيديولوجي الكبير بينهما! كما وجدنا إياد علاوي يتحالف مع الحزب الإسلامي على الرغم من إصرار النائبة ميسون الدملوجي الناطقة باسم ائتلاف الوطنية بأن حزبها يمتنع عن الدخول في أي تحالفات تعبر عن خصوصية طائفية! فهي في النهاية مجرد تحالفات تحكمت بها عوامل عدة من بينها التنافس الشخصي (التنافس بين المالكي والعبادي هو الذي منع حزب الدعوة من الدخول إلى الانتخابات بقائمة موحدة)! وحجم الحصول على الأصوات (جميع من التحق بالعبادي وعلاوي يعتقدون أن الرجلين لديهما فرصة للحصول على أصوات كبيرة يمكنها أن توصلهم إلى مجلس النواب)! والمال السياسي (بعض التحالفات قامت على أساس تمويل زعيم هذا التحالف للأحزاب المتحالفة معه في الانتخابات)! وأخيرا العلاقة بالدولة ومؤسساتها، تحديدا مفوضية الانتخابات والمساءلة والعدالة والقضاء، فمن دون ضم أي تحالف لطرف قادر على «التعامل» مع هذه المؤسسات الثلاث سيبقى هذا التحالف هشا ومعرضا للضغوط!


في المقابل حاولت بعض الأحزاب الصغيرة التي ظلت خارج التصنيف الهوياتي أن تشكل تحالفاتها الخاصة، مثل تحالف تمدن، والتحالف المدني الديمقراطي، ولكن قدرة هذه الأحزاب على الفوز تبقى محدودة، خاصة بعد خروج الحزب الشيوعي العراقي منها، وبالتالي ستحاول هذه الأحزاب المنافسة على مقعد او مقعدين في أحسن الأحوال!


إن أبرز ما وسم الانتخابات العراقية بعد 2003، هو التضخم غير الطبيعي في عدد الكيانات السياسية المسجلة لدى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، في مقابل محدودية الكيانات الفائزة بالمقاعد! وهذه الظاهرة ستلازم انتخابات 2018 أيضا، فتبعا لدائرة شؤون الأحزاب في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بلغ عدد الأحزاب المسجلة التي يحق لها خوض هذه الانتخابات 204 حزبا! فضلا عن ظاهرة أخرى أسميناها بظاهرة الدكاكين السياسية! ويمكن تعريفها بأنها الكيانات التي تكتسب وجودها من خلال الإعلان عن نفسها ككتل سياسية قبيل البازار الانتخابي، وليس من خلال الحضور الفعلي في المجتمع السياسي أو المجال العام. وترتبط ديمومتها بمدى نجاحها في الوصول إلى مقاعد البرلمان، وتعرف من خلال زعيم الكيان حصرا، ولا يتعدى دور المسجلين معه، إن وجدوا، عن كونهم عمالة مؤقتة ينتهي عقدها لحظة الفوز أو الخسارة في مقاعد البرلمان.

 

وتتلخص الإستراتيجية المتبعة لهذه الدكاكين في الإعلان عن الكيان قبيل الانتخابات من أجل تحقيق الحضور، ومن ثم لفت انتباه الأحزاب الكبرى المهيمنة، ثم الائتلاف مع أحدها. وقد فشل قانون الأحزاب الذي تم تشريعه في العام 2015 من الحد من هذه الظاهرة تماما! فقد تدافع الكثيرون لتشكيل «دكاكينهم» السياسية كأحزاب من اجل تحسين شروط التفاوض للانضمام إلى التحالفات!

 

(القدس العربي)