مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (16)

محمد مهدي عاكف- جيتي

بداية رحلة طويلة

تم القبض عليّ في 1 آب/ أغسطس 1954 قبل حادث المنشية، وكنت الوحيد في السجن الحربي من الإخوان. وخلال تلك الفترة وما بعدها، جربوا معي كل طرق التعذيب، حتى تورَّم جسدي من شدة التعذيب، وتحرك فيه الدود. وكانوا أثناء التعذيب يقولون لي: سواء اعترفت أم لم تعترف؛ إعدام. فكان هذا يزيدني إصرارا على احتقارهم من شدة التعذيب، وأقول في نفسي: سوف أقول لهم أي شيء حتى أنقذ نفسي من التعذيب. ومن ستر الله عليّ، أنه حينما كانت تأتيني فترة الضعف هذه؛ لا يطرق بابي أحد، فأظل حتى تنتهي، سواء بقيت عشر دقائق أو ربع الساعة.. فلا يطرق بابي أحد. وحينما أمتلئ بالإصرار والقوة، يأخذونني للتعذيب، فأقول لهم: اضربوا أيها الكلاب، وهذه حادثة لا أنساها.

وحادثة أخرى، أنني وأنا نائم في أحد الأيام، استيقظت على صوت غريب يوقظني ويقول لي: المعركة الكبرى يوم الخميس. وفي يوم الخميس كنت صائما، وكانت صحتي قد ساءت جدا من شدة التعذيب، من آب/ أغسطس حتى يوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1954.

ولا أنسى أبدا حين طلبوني في مأمورية خارج السجن، فارتديت ملابسي وارتديت المعطف؛ فالجو كان باردا جدا، وقد نحل جسمي، واشتد هزاله، وفوجئت بسيارة فخمة تنتظرني، وسيارة بوليس حربي أمامي، وسيارة بوليس حربي خلفي. ولم يأت في ذهني أنني ذاهب للتعذيب، بل ظننت أني سأذهب لأحد ممن أعرفهم، مثل جمال عبد الناصر مثلا أو عبد الحكيم عامر أو كمال حسين، فظننت أن أيا منهم يريدني في شيء.

دخلت إلى مجلس قيادة الثورة كما كنت أذهب من قبل، وفي الصالون الذي كنت أجلس فيه جلست، وكنت وأنا جالس أرى أشباحا وأسمع أصواتا مزعجة، وكنت يومها صائما كما ذكرت، وفجأة دخل عليّ على صبري، وهو يرتدي فانلة بدون أكمام، وشعره أشعث، وصلاح الشيشتاوي (ضابط البوليس الذي صار محافظ القاهرة فيما بعد)، وأنا أعرفهما جيدا.. وقالا لي: لا أحد يملأ عينك يا سي عاكف.. ولا أكتمك أني من شدة التعذيب كنت أحتقرهم تماما، سواء علي صبري، أو صلاح الشيشتاوي، أو صلاح نصر، وغيرهم. وقلت لهم: والله بالفعل لا أحد يملأ عيني. وكان يوما عصيبا، أخذوني في السلخانة (حجرة المداولة)، وخلعوا عني ملابسي، وأرادوا أن يخلعوا عني القطعة الداخلية السفلى لتظهر عورتي، فدفعتهم بيدي بقوة رغم أنني كنت ضعيفا، ولم أشعر بشيء بعد ذلك إلا وأنا في السجن الحربي. وكل ما أذكره عن سلخانة التعذيب أنني رأيت أحمد عيد، وهو ملقى تحت الدش، وعلي الفيومي منفوخا! ورأيت أحمد صالح داود، وكان من رجال أمن الدولة، يأخذني على نقالة ذاهبا بي للسجن الحربي.

ثم أذاعت الإذاعات العالمية أني قد قتلت، ولذلك كان الإخوان كلما أراد أحد منهم أن يخفي شيئا ولا يستطيع الإجابة؛ فيقول كل شيء عند عاكف.

فمثلا، كانت مسؤولية السيد عبد الله الريس عن توزيع السلاح قاصرة على بعض المناطق دون الأخرى، فذكر محمود الحواتكي، رئيس فصيلة الجيزة، أن المسؤول الأول والأخير عن السلاح والتدريب كان محمد مهدي عاكف، وأنه ضابط اتصال فني يتبع يوسف طلعت، وأن المفروض أن يكون الاتصال به وحده. كما ذكر أن الاتصال بالسيد الريس كان محظورا. وقال إن محمد مهدي عاكف كان يزور بعض الجماعات في الجيزة وفي أماكن أخرى، كما ذكر يحيى سعيد أن عبد المنعم عبد الرؤوف تولى التدريب أيضا في معسكر كرادسة قبل مهاجمته.

وقال إسماعيل عارف إن نظام الاتصال بين يوسف طلعت وإبراهيم الطيب، ورؤساء الفصائل، كان يتم عن طريق ضباط اتصال فنيين يتبعون يوسف طلعت رئيس الجهاز، ومنهم: إسماعيل عارف، ومهدي عاكف، وكان هناك ضباط اتصال إداريون منهم: محمد عبد المعز، وحسين شعبان، فوجدت نفسي أمام اتهامات لا حصر لها فأيقنت بالإعدام.

في أحضان يهود لافون

كانت ذراعي وساقي مشلولتين، لا أستطيع أن أحركهما، وكان الذي يطعمني يهودي يدعى روبير (وكان بعض اليهود مسجونين معنا). وكان روبير يحضر لينظف الزنزانة، ويطعمني بسرعة ويسقيني بعض الماء، ويخرج مسرعا. وروبير هذا هو الذي أخذه اليهود مقابل خمسة آلاف مصري في عام 1967، وكان محكوما عليه بأشغال شاقة مؤبدة.

اعترف على الهضيبي

مرت الأيام، ثم حملوني على النقالة، وذهبوا بي مرة أخرى، وتجمع علي الزبانية حتى أقول إن الأستاذ الهضيبي كان هو الذي يأمر بالقتل، فقلت لهم: قولوا عني كل ما تريدون، ولكن لن أقول شيئا على غيري، فهذا مستحيل، ولن تصلوا إليه. وقلت لهم، وأنا نائم، ويداي متدليتان: لو أن أحدكم رجل حقا، فليخرج المسدس، ويطلق عليّ الرصاص. فأخرج صلاح الشيشتاوي مسدسه ثم قال لي: لا، هذه الرصاصة خسارة فيك، ولكننا سنقضي عليك ببطء ونلقي بك في النيل. عند ذلك نادى عليهم شخص ما فتركوني وخرجوا مسرعين، وأنا لا أستطيع الحركة.

وجاء عسكري يرتدي زي البحرية، فنظر لي، وقال: سيدي محمد! وأنا لا أعرفه. وكنت أريد أن أشرب، فذهب وأحضر لي ماء وطعاما من طعامهم، إلا أنني لا أستطيع أن أمسك بشيء، فأخذني ذلك الجندي على صدره وأطعمني. وبعدها ظللت ملقى على النقالة حتى الساعة الحادية عشرة ليلا، فحملوني ونقلوني إلى السجن الحربي. ويبدو أنهم وجدوا أشخاصا آخرين يقولون (من شدة التعذيب) ما يريدونه على الأستاذ الهضيبي.

ذكر لي الأستاذ التلمساني في أحد الأيام، ونحن بالواحات، أنه تنامى إليه خلال تلك الأيام أنني كنت أعذب في السجن الحربي تعذيبا وحشيا، وأنه (الأستاذ التلمساني) كان بعد صلاة العصر في أحد الأيام في دكان الحاج محمد جودة، وتحدث إلى أحد الضباط الأحرار في هذه المسألة، ولعله السيد محمد عبد الرحمن نصير، ولكنه أقسم بصلاته وبالمصحف الذي كان يحمله؛ أن عاكفا لا يعذبه أحد في السجن الحربي، "وكدت (كما يقول الأستاذ التلمساني) أصدق، لولا ما رأيته من حال عاكف عندما اعتقلوني في السجن الحربي في آخر شباط/ فبراير 1954م. فقد كانت حالتي يرثى لها، ولكني حمدت الله أن الرجل لم يكن يبدو عليه أي مظهر من مظاهر الفزع أو الجزع".

أمام المحكمة

تم القبض عليّ قبل حادث المنشية، لكني قُدمت إلى المحاكمة بعد حادث المنشية أمام الدائرة الأولى التي رأسها اللواء صلاح حتاتة.

ففي أول تشرين الثاني/ نوفمبر، أصدر مجلس الثورة قرارا بتشكيل محكمة مخصوصة، سميت بعد ذلك بمحكمة الشعب، وكان أمر تشكيلها بموجب المرسوم التالي:

تشكيل محكمة مخصوصة وإجراءاتها.. بعد الاطلاع على المادة 7 من الدستور المؤقت قرر مجلس قيادة الثورة:

إنشاء مكتب بمقر قيادة الثورة للتحقيق والادعاء، يلحق به نواب عسكريون وأعضاء من النيابة العامة، ويتولى رئاسته البكباشي أركان حرب زكريا محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة، وعضوية كل من البكباشي محمد التابعي، نائب أحكام، والبكباشي إبراهيم سامي جاد الحق، نائب أحكام، والبكباشي سيد سيد جاد، نائب أحكام، والأستاذ عبد الرحمن صالح عضو النيابة، ويتولون التحقيق ورفع الدعوى بالادعاء بالجلسة، في الأفعال التي تختص هذه المحكمة بنظرها، ولهم حق الأمر بالقبض على المتهمين وحبسهم احتياطيا، ولا يجوز المعارضة في هذا الأمر.. وكان المحامي الموكل بالدفاع عني، لم يقرأ هذا القانون، حتى بعدما لبست البدلة الحمراء.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (15)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (14)