أفكَار

مناهج التعامل مع القرآن.. بين رؤية الفقيه ورؤية المفكر

يرى الكثيرون أن التعامل مع القرآن غلب عليه جانب العبادات على حساب القيم والأخلاف
منذ فجر التاريخ الإسلامي، تعددت قراءات القرآن، لكن كثيرا من الباحثين لاحظوا طغيان النظرة الفقهية والتركيز على آيات الأحكام، رغم أن هذه الآيات تحتل مساحة قليلة من القرآن، مقارنة بآلاف الآيات التي تتناول القضايا النفسية والاجتماعية والتاريخية.

ويقول الأكاديمي الأردني محمد الفقيه؛ إن التتبع التاريخي لكيفية التعامل مع القرآن الكريم يظهر دون عناء أنه كان ينظر لكتاب الله على أنه مصدر من مصادر الفقه في المقام الأول.

ويشير الفقيه، في حديث لـ"عربي21"، إلى أنه "بالرغم من أن آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز الخمسمائة آية من مجموع آيات القرآن، إلا أن ما كتب فيها من مجلدات وشروحات ورسائل ماجستير ودكتوراه وأبحاث عبر التاريخ الإسلامي؛ يصعب حصره، حيث أصيبت المكتبة الإسلامية بالتخمة المفرطة"، كما يقول.

ويضيف: "في المقابل، فإن عدد آيات القرآن الكريم المتبقية التي تشكل حوالي 92 في المئة تقريباً من آيات القرآن؛ لم تحظ بالاهتمام الكافي، رغم أن هذه الآيات العظيمة هي المسؤولة عن التقدم الحضاري والإنساني، وهي التي تؤسس لمجتمع خير أمة أخرجت للناس، وهي الآيات التي تصنع الجيل الذي يصلح للشهادة على الناس، إذ تدور موضوعاتها حول حث العقل على التدبر والنظر والسير في الأرض، وأخذ العبرة من الأمم السابقة واكتشاف السنن الكونية وتنظيم علاقة الإنسان بنفسه وخالقه والوجود من حوله".

ويجمل الفقيه أزمة التعامل مع القرآن الكريم؛ بأن "فقه العبادات تضخم إلى حد التخمة، وساهمت في تضخمه الخلافات الفقهية وكثرة الشروحات، في حين بقيت الكثير من القضايا الإسلامية فقيرة تشكو الفاقة، مما نتج عنه تخلف حضاري وفجوة حضارية يصعب جسرها"، على حد وصفه.

ويدلل الباحث الفلسطيني المهتم بدراسات القرآن الكريم، جميل عبد النبي على غلبة النظرة الفقهية في التفاعل مع القرآن الكريم؛ بمثال أحكام الطهارة، إذ "اكتفى القرآن بآية واحدة تضمنت أحكام الوضوء والاغتسال من الجنابة، والتيمم في حالة عدم وجود الماء أو المرض الذي يمنع استخدام الماء".

ويقول عبد النبي لـ"عربي21": "هذه الآية {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...} كان يمكن بيانها في صفحة واحدة مبسطة كما هو في القرآن، لكننا نلاحظ أن هذه الأحكام شغلت حيزا كبيرا من كتب الفقه، حتى دون بعضهم سلسلة وصلت إلى 13 مجلدا تحت عنوان أحكام الطهارة"، كما قال.

مثل هذه العقلية الغارقة في التفاصيل، وفق عبد النبي، "لا يمكن أن تكون قادرة على الانطلاق نحو آفاق أكثر اتساعا وتحررا تحتاجها الحياة الإنسانية، فهي مكبلة بما تسميه الأدلة التفصيلية التي لم يلتفت إليها القرآن كثيرا، إذ لا يعتبرها ذات أهمية كبيرة مقارنة بالرسالة الأساسية للإسلام المتمثلة مثلا بتحقيق العدل".

ويضيف عبد النبي: "عقلية المفكر لا يمكن تكبيلها ولا حصرها داخل هذه التفاصيل الصغيرة التي لا تؤثر كثيراً في دفع حركة الحياة الإنسانية، فهو مثقل بالهموم الكبرى التي تعيق سمو الإنسان للوصول إلى المستوى الذي يدعو إليه القرآن الكريم".

وعن طبيعة المنهج الفكري الفاعل في التعامل مع كتاب الله، يقول عبد النبي: "المفكر مثلاً يرى في آيات الحث على الصدقات والإنفاق منهجا قرآنيا إنسانيا يدعو إلى التكافل وسد عوز الفقراء، بينما يذهب الفقيه لتفصيل أنواع المال التي تجب فيها الزكاة ومواقيتها ومصارفها ومستحقيها وتفاصيل كثيرة من شأنها أن تغيب الرسالة الحقيقية لآيات القرآن"، وفق تقديره.

وفي الاتجاه ذاته، يرى الداعية الفلسطيني سعيد الصرفندي؛ أن "قراءة المفكر العميق للقرآن تجعله ينظر إليه باعتباره لا يخضع لقيود الزمان والمكان، ويدرك أن الغوص في أعماق القرآن يقودنا لاكتشاف لآلئه وكنوزه"، مضيفا: "المفكر يحاول دائما إزالة إشكال العلاقة في النص وبين الواقع، فيدرك أن دلالة المفردة القرآنية ودلالة آياته تتسع مع تطور المجتمعات الإنسانية، وتراكم المعرفة البشرية، فلا يقف عند حدود النص، بل يتعداه الى مقاصده وغاياته".

وبحسب تعبير الصرفندي، في حديث لـ"عربي21"، فإن "الفقيه ينظر إلى القرآن بطريقة دائرية، فلا ينتج جديدا لأنه اجترار لما سبق، أما نظرة المفكر وطريقة تعامله مع القرآن فهي طريقة لولبية تتقدم باستمرار إلى الأعلى أو إلى الأمام، فتجعل القران حياً في حياتنا"، وفق وصفه.

من جهته، يرى الشيخ محمد الزعبي، عضو المجلس المركزي في تجمع العلماء المسلمين في لبنان، في حديث لـ"عربي21"؛ أنه "لا يمكن إسقاط كتب الفقه والحديث وكل تلك الجهود العلمية الجبارة، ولكن ذلك لا يجعلها في مرتبة القرآن، ولا حتى في مرتبة مقاربة له".

ويضيف: "الواجب أن نضع كتاب الله أولا، وأن يكون القرآن هو القيّم على كل ما عداه، وأن نقبل على القرآن بلا مسبقات فقهية أو حديثية أو عقائدية أو مذهبية"، وفق قوله.

ويلفت الزعبي النظر إلى أهمية دور العقل في فهم القرآن، فيدعو إلى العناية بالعقل كونه الأداة الوحيدة لاستخراج معارف القرآن، "فكلما اتسعت معارف الإنسان العقلية ازداد دراية وعمقا في قراءة كتاب الله".

ويضرب الشيخ الزعبي مثال البئر والمضخة، "فالماء في البئر لا يتغير حجمه، ولكن بحسب فعالية المضخة يمكن استخراج الماء، وكذلك الذي يأتي إلى كتاب الله بعقل مسلح بالعقائد الكلامية؛ سيستخرج منه مشروعاً يصلح لمحاكمة المعتزلة، أو يصلح للحكم بكفر أتباع هذا المذهب أو ذاك، لكنه سيعجز عن استشراف المستقبل والاستفادة من المعارف القرآنية التي تدعو إلى حقوق الفرد والمجتمع، والعدالة الاجتماعية والإنسانية، والعلاقات بين البشر القائمة على الاحترام والإنصاف"، وفق الشيخ محمد الزعبي.