كتب

آفاق العمل السياسي في الثورة السورية

الكتاب صادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات عام 2016- أرشيفية
الكتاب صادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات عام 2016- أرشيفية
حينما اندلعت شرارة الثورة السورية في 18/3/2011 كانت تمثل عملا ثوريا سياسيا بامتياز، في دولة أكثر ما يميزها شراسة القمع الأمني، فهي ثورة على الظلم والاستبداد والقهر، وكان مطلبها واضحا تماما إسقاط نظام القمع والاستبداد، لكن مواجهة النظام لها الموغلة في الدموية، أجبرها على ولوج دروب "العسكرة" الذي طغى على مسيرتها إلى يومنا هذا.

في كتابه "ما العمل السياسي في الثورة السورية"، الصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات عام 2016، يرصد الكاتب والباحث السوري طارق العلي مظاهر وصورا تخلق العمل السياسي منذ اندلاع الثورة السورية إلى تاريخ كتابة بحثه، وقد اعتنى الكاتب في كتابه بإبراز التمايزات بين الفاعلين القدامى والقادمين الجدد بعد اندلاع الثورة في المشهد السياسي الثوري السوري. 

تطور العمل السياسي

وصف الكاتب بداية الثورة السورية بأنها "انتفاضة للمجتمعات المحلية لا سيما في الأطراف المدينيَّة (للدلالة على أن الثورة لم تكن ثورة نخب وإنما جاءت من أطراف المدن والأرياف)، على سلطة الأمر الواقع التي فرضت نفسها بعد انقلاب حافظ الأسد (16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970م)، وترسخت بمجزرة حماة في (2 فبراير/ شباط 1982م)؛ انتفاضة متمخضة عن تراكمات عوامل عديدة ومختلفة، تفاقمت سوءا عقب نقيصة التوريث، ليس لأن فترة حكم الأسد الابن أسوأ من أبيه من حيث الطريقة والعقلية، وإنما بسبب تفاقم تردي أوضاع معيشية لفئات أوسع نسبيا من الشعب السوري".

ويلفت الكاتب إلى ما يراه مهما في هذا السياق ألا وهو "أهمية تغيرات مرافقة في التفكير والسلوك اعترت عامة الشعب السوري"، لا سيما جيل الشباب الصاعد، حيال أوضاعه وأوضاع بلاده، ذات جوانب وتظاهرات مختلفة، مردها هذه المرة إلى الانفتاح على الأفكار عبر وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية وتصاعد تأثيرات العولمة.

ووفقا للكتاب فإن "هذا الجانب أبرزُ في الحالة السورية، لأن فترة الأسد الأب امتازت فعلا بالصمت المطبق، والانغلاق الرهيب، والخوف الشالِّ، والجمود الخشبي، انتفاضة معتلية زخم ثورات الربيع العربي وسقوط ابن علي ومبارك، حيث وجدت أسبابها في الفساد السياسي والاقتصادي القديم الذي تفاقم كمٍّا. هذا كله مارس دور (المذكِّر) بسيرة الشعب والسلطة القاسية، وتوقِ السوريين لممارسة حياة سياسية طبيعية، أو قريبة من الطبيعي، ونوْل مستوى لا بأس به من الكرامة والحريات العامة، والرفاه الاقتصادي والاجتماعي، مما هو متوائم مع الحد الأدنى من معايير العصر".

ورأى الكاتب أن "النزول إلى الشارع، سواء منه العَرَضي أم الذي فتح صفحة حقبة جديدة في (18/3/2011م)، كان يمثل الاستجابة السياسية الوحيدة الممكنة والمتاحة بالنسبة إلى الشباب اللا حركي المغترب عن الدولة، وعن أيديولوجيات الستينيات، ورُهاب الثمانينيات، وطقوسية المؤسسة الدينية الرسمية المنافقة، إذ إن الطغمة الأسدية تمادت في استئصال مظاهر ومقومات أي حياة سياسية في سعيها لتأبيد قبضة العلويين على مقاليد السلطة..". 

تحت عنوان "إقفار أرض العمل السياسي عشية الثورة" تحدث الكاتب مطولا عما قام به "نظام السلطة القائمة بقيادة عائلة الأسد من قتل العمل السياسي، ومن ثم أجهز على مقوماته من خلال عملية طويلة يمكن رسم أبرز ملامحها بالخطوط التالية:

تصفية نخب العمل السياسي باغتيالهم، أو اعتقالهم أو إخراجهم إما إلى المنفى أو إلى تحت ولايته لاستهلاكهم في خطابه، وطالت الوسيلة الأخيرة شتى الأطياف والشخصيات الرافضة له من وجاهات المجتمع وعلماء الدين إلى النخب الحزبية والفكرية، والتي تتسبب في خمول فئات وطبقات وجهات من الناس وسكونهم ولامبالاتهم، وعدم رغبتهم في التغيير أو عدم قدرتهم عليه، ما يحول بينهم وبين مقومات تغيير الأوضاع المتردية في دولهم".

وبحسب الكاتب فإن علة ثقافة الفقر مفردة عاجزة عن تفسير لماذا يستكين الناس لمثل سلطة الأسد، مقدما التفسير الذي يراه أكثر إقناعا بقوله "إن القمع والتخويف كسلوك مستدام، ثم الخوف والفقر، هو  المركب المسيطر في طبقات، كما أن الأسد نسج علاقات سلطته على شبكة منتفعين وفساد كغيره، وكحالة متمايزة في المشرق العربي". 

تعليق مصير كل شيء وكل أحد بشكل مباشر وفج بيد جهاز القمع الذي على إدارة المجتمع من خلال التعامل مع عناصره الأولية بطريقة البيع والشراء، وإثارة الحزازات الطائفية والمناطقية والقبلية، والإيهام بالسيطرة عليها بإشاعة خطاب سلطوي أستاذوي.
وفي السنوات الأخيرة قبيل الثورة عمد النظام الأسدي، فوق كل شيء إلى ممارسة سياسات تستهدف تغيير بنية المجتمع السوري عبر فتح المجال واسعا أمام (الملحقيات الثقافية) للجمهورية الإيرانية والجمعيات التابعة لها".

واستنتج الكاتب استنادا إلى هذه الوسائل المتداخلة والتي شكلت حلقة معيبة، وبسبب طول فترة مكوث النظام فقد كمنت في عقول المواطنين ومفاصلهم، مما يحيل إلى معضلة العمل السياسي التي باتت أحد أبرز فصول ملهاة المأساة السورية، من هذه الحالة غير الطبيعية لا يمكن تصور تطور سريع لعمل سياسي طبيعي، ما يعني طبقا للكاتب "عدم إمكانية اللهاث خلف الدعوات المبكرة لوضع (برنامج واضح للانتقال السياسي) و (تصور كامل للدولة المنشودة). 

ويعلل الكاتب ذلك التسرع بأنه "لا يعبر فحسب عن انصياع لأوهام قوى معادية للثورة تريد تفصيل الدولة على قدِّ مصالحها وحسب، بل يؤذي بشدة إمكانية التأسيس لعمل سياسي جذري يستجيب للواقع ولا يقفز عليه، فيستجيب له الواقع ولا يتجاوزه، ويقطع بالنتيجة أسباب التشرذم الوخيم بعد خلو الجو من خطاب اعتصامي".
 
وفي رصده لبداية تخلق العمل السياسي اعتبر العلي "نزول الناس إلى الشارع ضد نظام الأسد ودولته بأنه مثَّل نشاطا سياسيا أعاد اكتشاف المتظاهر لنفسه كذات سياسية فاعلة، وبدأ يمنحها الثقة والمعنى بإطلاق، ويسترد لها رويدا رويدا كرامتها المهدورة، ويرد على إهانة الانقلاب والمجزرة والتوريث والصمت الطويل اللابث في وجدان السوري..

وطبقا لتوصيف الكاتب فإن "المظاهرات السورية اتسمت "بغنائية فريدة"، تنوعت بتنوع اللكنات، وتراوحت بين اللحن الحزين والهزج، ومثَّلت هذه الظاهرة مع ظاهرتي اللافتات والمظاهرات الطيارة (تجمع سريع يدوم فترة قصيرة لتجنب الملاحقة الأمنية ـ والفيديو أو النقل المباشر المتقطع الوسيلة الوحيدة للتعبير عن التناقض التالي: "الشعور الغامر بالحرية ولذتها والشعور الخانق بقهر النظام المزمن وقمعه الحاد الدامي".

ولفت الكاتب إلى "بداية تخلق قوى سياسية غير تقليدية ـ لا تنتمي لا تنظيميا ولا فكريا إلى قوى المعارضة النمطية ـ من رحم التظاهرات، قادة ومنسقو المظاهرات، والناشطون الإعلاميون والإغاثيون والشباب الذي عُرفوا من قبل الثورة بنشاطهم شبه السري، أو اهتمامهم بالسياسة أو الشباب الذي ولدته الثورة، وسجل الكاتب في  هذه المرحلة غياب شيوخ الطرق الصوفية ورجال المنابر لأسباب مختلفة، وكذلك غياب الخط السلفي الجهادي المحدود الأثر والنطاق في سوريا قبل الثورة.

ورفض الكاتب الخلط بين الثورة والمعارضة، لأسباب ذكرها وفصل القول بشأنها، ولأنه "لا البداية ولا الاستمرارية في الانتفاضة كانتا بفضل تيارات معارضة تقليدية، مفصلا القول في أنماط المعارضة كمعارضة الداخل، ومعارضة الخارج، والمعارضة الأكثر جذرية، والمعارضة الأقل جذرية.

وخلص الكاتب إلى القول بأن "أي تناول لشأن المعارضة التقليدية سيكشف خللا بنيويا متنكسا، يوازيه خلل بنيوي مستقر في الفصائل المسلحة، يجعل من الصعب عليهما أو ربما من المستحيل تأسيس عمل مشترك في الظرف الحالي، إنهم أسرى ذواتهم وبناهم الفكرية والتنظيمية، وهذا ما يقلل فرص الحل وممكنات التحرك..". 

العمل السياسي الفصائلي

تحت هذا العنوان رصد الكاتب الأطراف التي آل إليها حمل السلاح، متكئا على تصنيف صار شبه متداول بين الباحثين السوريين وغير السوريين المهتمين بالشأن السوري الجاري، وتحت كل صنف أو نمط سعى الكاتب لتقصي مرجعية الخطاب السياسي وطبيعته، والسلوك السياسي من علاقات وتنظيم وتمويل، مع ضرب الأمثلة على كل صنف للتدليل، وقد أدرجها تحت الأسماء التالية:

1. السلفية الجهادية (القاعدة).

2. السلفية المحلية.

3. من مرجعيتهم المعلنة أو الضمنية إلى الإخوان وعلماء الشام (من الجيش الحر).

4. غير المنمَّطين (الجيش الحرُّ).

رأى الكاتب أن "المحدد الأبرز لفهم (ما العمل السياسي) في عُرف تنظيم القاعدة هو المحدد الفكري (السلفية الجهادية)، وسيرة (الجهاد المعولم)، وسعي التنظيم إلى إعادة تصنيع الواقع على مثال سابق كامن في مخيال قادته وأفراده من خلال حيازة السلطة، ويتجلى هذا الفهم في وسائل تحقيق ذلك". 

وتحدث الكاتب مطولا عن طبيعة العلاقة بين تنظيم جبهة النصرة (فرع القاعدة في سوريا) مع باقي الفصائل الأخرى، والذي يكتنفه التوتر داخل الجبهة نفسها لوجود تيار (قدره بـ60% بناء على دراسة للقيادي السابق في الجبهة، صالح الحموي صاحب حساب أس الصراع في الشام على تويتر)، وهو عامل شقاق داخل الجبهة، على العكس منه في تنظيم الدولة لاحقا الذي شكل عامل تماسك لتوحد الرؤية بتكفير الفصائل وقتالها.

ووصف الكاتب سلوك جبهة النصرة سابقا (فتح الشام لاحقا) السياسي بأنه يسعى على "نحو خفي ودؤوب للتصرف كسلطة ـ من خارج سلطة الثورة ـ من خلال مبادئ تترسخ وتتوضح وهي: احتكار العنف، وبناء مؤسسات مستقلة، والخطاب المفارق أصلا لخطاب الثورة"، والسعي على المدى الطويل لإقامة الخلافة وفق نموذجها التاريخي المعروف. 

أما السلفية المحلية فتندرج في أوسع تشكيلاتها في "الجبهة الإسلامية" التي تأسست في (22 نوفمبر / تشرين الثاني 2013م) كأضخم محاولة لتأسيس مشروع سياسي وعسكري جامع وحاضن للحالة الإسلامية المقاتلة، كمسار بديل عن تنظيم الدولة وتيار القاعدة (جبهة النصرة)، وعن الائتلاف والأركان من ناحية مقابلة.

وتشكلت الجبهة من سبع فصائل رئيسة (لواء التوحيد، جيش الإسلام، حركة أحرار الشام الإسلامية، ألوية صقور الشام، لواء الحق، كتائب أنصار الشام، الجبهة الإسلامية الكردية".

ولفت الكاتب إلى بعض الفوارق بين جيش الإسلام وحركة أحرار الشام، فالأول ينتمي إلى فضاء السلفية العلمية التي تعتبر مرجعيته الفكرية، أما الثانية فتنتمي إلى فضاء السلفية الإصلاحية وتعتبرها مرجعيتها الفكرية. موضحا أن حركة الشام اعتراها التوتر الداخلي بسبب التجاذب في القطع مع التيار الجهادي المعولم، وتحديد وجهتها باتجاه الشأن الوطني السوري الداخلي. 

وفي تحديد بعض ملامح التوجه السياسي لهذا التيار ذكر الكاتب أنه يميل "إلى توصيفات عامة لمشروعه مثل دولة العدل والكرامة والمساواة التي تعطي كل ذي حق حقه، وهي الدولة التي دستورها الإسلام وتحكم شرع الله وتنتصر لمن استُضعفوا، وهي التي سترث ما يتبقى من الدولة السورية بعد إسقاط نظام الأسد وطرد الاحتلال بكل رموزهما ومقوماتهما..". 

أما القسم الثالث والرابع (من مرجعيتهم المعلنة أو الضمنية الإخوان أو علماء الشام وغير المنمطين) فنفى الكاتب توجه "الإخوان كفصيل سياسي لتأسيس عمل مسلح كجناح عسكري رسمي معلن، أو ما شابه، وكذلك فيما يخص علماء الشام المنحازين للثورة، وإن العمل المسلح عموما جاء نتيجة لرد فعل المجتمعات المحلية المنتفضة على عنف السلطة بتشكل نويات الفصائل من منشقين ومنضمين لهم، أو العكس..

ومع أن الكتائب والفصائل التي تنضوي تحت هذا التصنيف، خاصة المنضوية تحت مسمى "الجيش الحر" كانت تتمتع بتواجد كبير وواسع على مختلف الجغرافية السورية، إلا إنها تراجعت لأسباب كثيرة، موردا أن فيلق الشام ربما يكون الأبرز من حيث أن مرجعيته الفكرية تعود إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وسعيا منه لتوصيف طبيعة السلوك السياسي لهذا الصنف لفت الكاتب إلى أنه يتسم بالاعتدال لذا فإن " هذا التيار حتى حين يتحفظ على التفاوض أو يرفضه، فإنه لا يخون ولا يكفر ولا يقاطع ولا يقاتل من يدخل عملية تفاوضية ضمين صيغة مقبولة أو مفهومة، أو مما يحتمل فيه الخلاف، وهذا مكمن الفرق مع الصنف الأول أي النصرة ومثيلاتها.

في النهاية لم تفت الكاتب الإشارة وهو يتحدث عن طبيعة الفعل السياسي لكل الفاعلين اليوم على الأرض السورية، كفعل أو رد فعل، إلى دور العامل الخارجي، الذي يبرز فاقعا، لما لسوريا من أهمية بالغة جيو ـ أمنية، وجيو ـ سياسية لقوى إقليمية ودولية، وهذه الاستجابة السياسية من قبل الفاعلين سلبية أو إيجابية بدرجات مختلفة، فهي تتراوح بين الرفض المطلق وبين القبول بدور ما لحلفاء، وعلى هذه المواقف تبنى علاقات بينية، وتفصم علاقات"، وبالتأكيد تتحدد مسارات الأحداث مستقبلا. 
0
التعليقات (0)