قضايا وآراء

صحفيون وعسكر..التراجع والصمود

قطب العربي
1300x600
1300x600
عبر تاريخها الممتد لـ 75 عاما دخلت نقابة الصحفييين في صدامات متقطعة مع النظم العسكرية التي حكمت مصر بعد تموز/ يوليو 1952 وحتى الآن، لكن اللافت أنها في تلك الصدامات المتقطعة التي كانت دفاعا عن حرية الصحافة وكرامة وحقوق الصحفيين نجحت النقابة في فرض مطالبها كليا أو جزئيا، أو على الأقل نجحت في صد الهجمات التي كانت تستهدف كيانها، وما يجدر ذكره من تلك الوقائع هنا تصديها لخطة الرئيس الراحل أنور السادات بتحويلها إلى نادي اجتماعي بعد انتقادات وجهها له صحفيون مصريون (كانوا بالمناسبة يقيمون خارج مصر بسبب استهدافهم من نظام السادات كما هو حالنا اليوم مع نظام السيسي)، وعارضت النقابة اتفاقية كامب ديفيد، ورفضت التطبيع مع العدو الإسرائيلي بقرار جمعية عمومية لايزال ساريا حتى الآن.

وفي عهد مبارك، رفضت محاولات وزير الإعلام صفوت الشريف احتواءها وتذويبها بضم آلاف العاملين في ماسبيرو لها، ما كان سيجعل الصحفيين مجرد أقلية صغيرة في نقابتهم يسهل ابتلاعهم، وكان للصحفيين معركة شهيرة عام 1988 مع وزير الداخلية الأسبق والأشهر زكي بدر الذي أساء للصحفيين واضطر للذهاب إليهم في نقابتهم للاعتذار لهم، وقد أصروا على دخوله النقابة منفردا بدون سلاح لتأمينه وهو ما رضخ له أيضا، وكانت المعركة الأبرز مع نظام مبارك حين أصدر قانونا جديدا لتقييد حرية الصحافة برقم 93 لسنة 1995، وقد سخر مبارك من جلال عيسى، وكيل نقابة الصحفيين وقتها، الذي طالبه في حفل عام بتجميد ذلك القانون، ورد عليه مبارك "إحنا موش بنبيع ترمس" و"القانون صدر لينفذ لا ليجمد"، وقد تداعى الصحفيون في جمعية عمومية حاشدة أيضا ظلت في حالة انعقاد دائم حتى تم إلغاء القانون بعد تصديق مبارك عليه ونشره في الجريدة الرسمية.
 
لاتعني تلك الصدامات المتقطعة أن النقابة كانت كيانا معارضا للنظم الحاكمة، ولا أنها نجحت في توفير الحريات الصحفية الكافية، أو منعت حبس الصحفيين أو إغلاق الصحف، بل يمكن القول إن حركة المد والحزر في علاقة النقابة بالنظم الحاكمة كانت تتوقف على قوة نقبائها ومجالسها، وكذا حماس الصحفيين أنفسهم أعضاء الجمعية العمومية، وأيضا درجة التسامح السياسي القائم، وقد حرصت السلطات الحاكمة منذ الخمسينيات حتى اليوم على ربط النقابة بها من خلال حرمانها من مصادر دخل مستقلة، وفي نفس الوقت تقديم امتيازات وبدلات مالية للصحفيين تزداد مع كل موسم انتخابي فيما يشبه الرشاوى الانتخابية.

جاءت الأزمة الأخيرة للصحفيين مع وزارة الداخلية بعد اقتحام ضباطها للنقابة في سياق تلك الصدامات المتقطعة مع النظم العسكرية المستبدة المعادية لحرية الصحافة، وكان احتشاد الصحفيين في جمعيتهم العمومية غير مسبوق عدديا، وقد سبق الجمعية العمومية تداعي الصحفيين إلى مقر النقابة فور سماعهم بنبأ اقتحامها منتصف ليلة الأول من أيار/ مايو في خطوة سبقت حضور نقيب الصحفيين وأعضاء مجلس النقابة، وقرر الصحفيون ليلتها الدخول في اعتصام مفتوح وأصدروا بيانا تضمن مطلبين أساسيين هما استقالة وزير الداخلية والإفراج عن جميع الصحفيين السجناء، وحين التأمت الجمعية العمومية يوم الأربعاء 4 أيار/ مايو رفعت سقف مطالبها وأصدرت 14 قرارا وتوصية تضمنت أيضا مطالبة السيسي شخصيا بالاعتذار باعتباره المسؤول الأول عن تلك الجريمة، وهو ما يعكس إدراكا صحفيا بالجاني الحقيقي على حرية الصحافة، وهو ما دلل عليه الصحفيون أيضا بهتافاتهم بسقوط حكم العسكر.

لكن وقفة واحتشاد الصحفيين جاءت في ظل مجلس ضعيف مهتز، وغير متجانس، ما ينذر بتراجعات لاحت بشائرها في تأجيل اجتماع كان مقررا له بعد غد الثلاثاء وفقا لقرار الجمعية العمومية ذاتها، وهذا القرار شأنه شأن أي قرار آخر للجميعة العمومية لا يملك المجلس التنازل عنه، بل واجبهم وفقا للمادة 47 من قانون النقابة رقم 76 أن يتحركوا لتنفيذه.

سبق هذا التراجع عن عقد اجتماع قررته الجمعية العمومية في موعده مظاهر أخرى لضعف المجلس كما حدث في بعض المقابلات التلفزيونية، وكذا في الاستجابة السريعة لمطالب الصحفي أحمد موسى بالتحقيق في بث فعاليات الجمعية العمومية على قنوات مصرية تبث من تركيا، رغم أن هذا البث لا يشكل أي مخالفة قانونية أو لائحية، كون الجمعية العمومية علنية ومتاحة للبث والنشر لجميع الصحفيين المصريين والمراسلين الأجانب، ولكون النقابة لم تصدر قرارا بحظر النشر، أو حصره في قنوات وصحف بعينها وحرمان غيرها من ذلك، وكان حريا بالنقابة أن تدافع عن حرية تدفق المعلومات التي ناضلنا كثيرا من أجلها، كما كان واجبها أن تدافع عن حقوق تلك القنوات وصحفييها في البث باعتبارهم مصريين، وكثيرون منهم أعضاء بالنقابة، وأنهم أجبروا على ترك مصر بعد إغلاق قنواتهم وصحفهم داخلها.

وكان من مظاهر الضعف والاهتزاز أمام هجمات أذرع السيسي هو ذلك الحديث الممجوج عن عدم السماح لأي تيار أن "يركب" الجمعية العمومية ويوجهها لصالحه في إشارة للتيار الإسلامي تحديدا، فالمعروف أن نقابة الصحفيين هي نقابة رأي، وأنها تضم صحفيين من كل الاتجاهات السياسية، وقد شهدنا حضورا وحديثا للمرشح الرئاسي السابق الصحفي حمدين صباحي، وكذا المرشح الرئاسي السابق المحامي خالد علي، ولم تقل النقابة إنهما يركبان الجمعية العمومية.

لم يكن تأجيل اجتماع الثلاثاء هو التراجع الوحيد، بل إن التراجع الأهم هو التنازل عن طلب اعتذار عبد الفتاح السيسي، وفقا لحديث أمين صندوق النقابة، محمد شبانة، للتليفزيون المصري، والذي اتهم آلاف الصحفيين المشاركين في الجمعية العمومية بالخطأ باتخاذ ذلك القرار الذي عده صداما غير مبرر مع مؤسسة الرئاسة.

لا يدرك هذا العضو أنه مجرد فرد في الجمعية العمومية، ليس من صلاحياته ولا من صلاحيات المجلس مجتمعا فرض وصاية على الجمعية العمومية التي ضمت آلاف الصحفيين من مختلف الاتجاهات والمؤسسات، والذين رأوا في جمعهم ذاك أن المسؤولية الأولى عن اقتحام نقابتهم إنما هي في رقبة السيسي باعتباره صاحب القرار الأول في البلاد، وباعتبار أن الداخلية وضباطها المقتحمون هم مجرد أداة لتنفيذ سياساته وتوجهاته، ووفقا للأعراف النقابية ينبغي مساءلة عضو المجلس هذا الذي أخطأ بحق الجمعية العمومية.

أدرك أن أعضاء مجلس نقابة الصحفيين ليسو متماثلين من حيث الخبرة النقابية أو طاقات التحمل والمواجهة، فمنهم المناضلون أصحاب الخبرة والقدرة، ومنهم المرتمون في أحضان السلطة المسبحون بحمدها المقتنعون أنهم لا يمكنهم الوقوق بوجهها، وأن عليهم فقط "التطبيل" لها، وتنفيذ توجهاتها، وعمل "كنترول" على إرادة زملائهم، لكن قانون النقابة رقم 76 فرض على النقيب والمجلس التحرك لتنفيذ قرارات الجمعية العمومية (وليس تعطيلها أو سحبها).

لقد التزمت بعض الصحف والمواقع الإلكترونية بوضع شارات سوداء ونشر صور نيغاتيف لوزير الداخلية، ونشرت مقالات رافضة للعدوان على النقابة استجابة لقرارات الجمعية العمومية، وكان حريا بالمجلس أن يكون مبادرا بتنفيذ بقية القرارات التي لا تحتاج إذنا من أحد مثل رفع دعوى ضد وزير الداخلية لمخالفته للقانون باقتحام النقابة، ومحاسبة الصحف والصحفيين الذين لم يلتزموا بالقرارات، أو الذين حرضوا السلطة على زملائهم، لكن ضعف المجلس دفعه بدلا من ذلك لتقديم التنازلات، كما أغرى السلطة لتحرك كتائبها للضغط على المجلس ودفعه للاستقالة أو سحب الثقة منه، وهو ما قد يحدث في أي لحظة، وإزاء هذه الحالة الخطرة فإن على الجماعة الصحفية التي تحركت من قبل لحماية نقابتها في ليلة ليلاء أن تتحرك مجددا لحماية إرادتها، وقراراتها وتوصياتها التي يساوم عليها البعض الآن مقابل استمرار بقائهم حتى لو ضاعت كرامة الصحفيين.
التعليقات (0)