كتاب عربي 21

الوطنية أم العبودية؟

إسماعيل ياشا
1300x600
1300x600
كلما أسمع كلمة "الوطنية" يأتي أمام عينيَّ ذاك الكاريكاتير الرائع الذي رسمه الرسام السعودي عبد العزيز المزيني بعنوان "مقياس الوطنية" بمناسبة اليوم الوطني السعودي. وفيه رجل يرقص ووراءه رجل آخر يمسك بيده مسطرة ويقول لرجل ثالث: "أعتقد أن زاوية "الهز" العنيفة لدى هذا الرجل تثبت وبشكل قاطع وطنية هالرجل!!". 

بادئ ذي بدء، ألفت عناية القراء إلى أني لا أقصد في هذا المقال بلدا بعينه، بل إن الظاهرة التي أتحدث عنها موجودة في جميع البلدان بنسب متفاوتة ونكهات مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإنه يوجد في تركيا تيار يطلق عليه "الوطنيون" ويتبنى هذا التيار الأيدلوجية الأتاتوركية التي تتسم بالقومية التركية الإقصائية وتكره العرب والدين. 

الوطنية مصطلح فضفاض يتم استغلاله في كثير من الأحيان كوسيلة ناجعة للتغطية على الأخطاء، وتكميم الأفواه وقمع المعارضين وإرهاب المواطنين حتى لا يسألوا ولا يتساءلوا عن أسباب الفشل، ولا يطالبوا بالتغيير خشية الوقوع في "خطيئة" تنزع منهم وطنيتهم. وإن تم شحن المجتمع بجرعات كافية من الوطنية فكل من ينتقد سياسات الحكومة وفشلها يصنَّف "خائنا" و"ذا عين قذرة".

الأسبوع الماضي قدَّم محلل عربي في برنامج تلفزيوني تعريفا غريبا لـ"الوطنية"، وقال: "إذا تعارضت النظرة الشخصية للشخص مع النظرة الوطنية فلا قيمة للنظرة الشخصية"، ثم بيَّن أن المقصود من "النظرة الوطنية" السياسة المعلنة لحكومة بلاده. وإن افترضنا جدلا أن هذا التعريف للوطنية صحيح فعلينا أن نعتبر - على سبيل المثال - فصائل الثورة السورية التي تقاتل من أجل كرامة الشعب السوري وحريته "خونة" لا قيمة لنظرتهم، وأن نصنِّف شبيحة النظام السوري الذي سلَّم البلاد إلى إيران "وطنيين شرفاء".

هذا النوع من الوطنية يعني إلغاء الإنسان وعقله وشخصيته وحريته وكرامته، بل هو ضرب من العبودية بعينها، ويتعارض أيضا مع العقيدة الإسلامية التي تخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وترفض الطاعة المطلقة للمخلوقين. وعدَّ الله عز وجل من بين صفات الكافرين أنهم يندمون يوم القيامة على طاعتهم العمياء ويقولون: "ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا". وإن اعتبرنا هذا المفهوم للوطنية صحيحا وألقينا أنفسنا إلى النار - لا سمح الله - تلبية لسياسة الحكومة وباسم الوطنية، فماذا نفعل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف"؟

ماذا عن الصحفيين والكتاب والمثقفين الأحرار المعارضين لجرائم روسيا والصين والولايات المتحدة في الشيشان وتركستان الشرقية وفيتنام وأفغانستان والعراق؟ هل هم وطنيون أم خونة؟ وهل كان بإمكان الصحف الأمريكية نشر تلك الصورة الشهيرة التي التقطها المصور "نيك أوت" في فيتنام ليرى العالم كله مدى بشاعة الهجمات الأمريكية، لو كانت تتبنى هذا النوع من الوطنية؟

الذين يتشدقون بشعار "الوطنية" ويرفعونه في وجه المعارضين والمنتقدين للأخطاء معظمهم من المنتفعين الفاسدين الخائفين من التغيير والإصلاح، ويسعى هؤلاء من خلال رفع شعار الوطنية للحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم، ولتصفية حساباتهم مع خصومهم، مستغلين حملات الوطنية المزيفة وتخوين المعارضين.

سمعت أحد العلماء الأجلاء يقول قبل سنوات إن "الوطن أصبح وثنا يعبد"، ولا أدري ماذا كان يقول اليوم لو رأى الحملات التي تنظم لاستحمار الشعوب باسم الوطنية. تلك الحملات التي يقصد بـ"الوطن" في معظمها الحاكم نفسه وعرشه وفرشه وكرشه فقط لا غير. وتطلب من المواطن أن يكون "شيطانا أخرس" ويصفق باسم الوطنية للظلم والفساد وسفك دماء الأبرياء.

رأيي له قيمة ولو خالف سياسة الحكومة وآراء معظم الناس، لأنه رأيي وقناعتي، وهذا ما يجعله ذا قيمة، وليست موافقته لسياسة الحكومة أو مخالفته لها، والحكومة ليست مجبرة على تبني رأيي ولكني أيضا لست مجبرا على تغيير رأيي لمجرد أنه لا يتوافق مع سياسة الحكومة، وقد تمنعني الحكومة بشتى وسائل القمع من التعبير عن رأيي وقد تقول كما قال فرعون: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، ولكنها بالتأكيد لن تستطيع أن تصادره مني، ويبقى رأيي هو الذي أراه صحيحا وأؤمن به. 

وقد يكون رأيي أصلح للوطن وأنفع من رأي الحكومة، وقد أحب الوطن أكثر من الحاكم الذي يمكن أن يحب عرشه أكثر من حبه للوطن. ثم لماذا أحبس نفسي في قفص الوطنية وعبوديتها بينما كان بإمكاني التحليق في سماء الإنسانية حرا طليقا؟!
التعليقات (3)
مسلم سني غريب
الجمعة، 09-01-2015 01:13 م
مقالك يا أستاذ اسماعيل مستفز لكل الحكومات العربيه وخاصة حكام الخليج لذلك رحلك المجرم نايف عليه من الله ما يستحق .
خالد المالكي
الخميس، 08-01-2015 09:19 ص
لافض فوك ... مقال للأحرار فقط ..!
رقيق
الأربعاء، 07-01-2015 05:57 م
ان شعوبنا العربيه تتطلع للفكر المستنير في ظل انظمة استبدادية عاثت في الارض الفساد باسم الوطنية و الخوف على الوطن من التغيير و الذي الذي يروج له على انه سيكون للاسوء و يضربون الامثله على بعض البلدان