كتاب عربي 21

إمارة الشام الإسلامية: استراتيجية النصرة في مواجهة الخلافة

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
تدشين إمارة الشام الإسلامية من طرف جبهة النصرة بزعامة الجولاني لمواجهة إعلان قيام الخلافة الإسلامية بإمارة البغدادي هي النتيجة النهائية المنطقية لحالة الفوضى والانقسام والتشرذم، مع دخول سوريا والعراق نادي "الأزمات التي لا حل لها"، وانحراف طبائع الصراع في المشرق العربي على أسس هوياتية عرقية إثنية ودينية مذهبية، وغياب الحلول السياسية والمبادرات الإقليمية والدولية، حيث بات "التوحش" سمة أساسية في المناطق التي خرجت عن كيانية الدولة القطرية التي تحولت إلى حالة من الفشل المزمن، وأصبح الحديث عن سيادة الدولة ووحدة الأمة شيئا من الماضي بعد أن دخلت المنطقة في مسارات تفكك الدولة السلطوية الوطنية التعاقدية، وولجت سيرورة تفتيت بنية المجتمع التضامنية.

لا جدال بأن الإعلان عن تأسيس إمارة الشام الإسلامية هو الاستراتيجية العملية لجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في مواجهة الفرع العراقي المتمرد على القاعدة الذي أعلن عن قيام الخلافة الإسلامية على لسان الناطق باسم الدولة أبو محمد العدناني في 29 حزيران/ يونيو 2014 مع دخول أول أيام شهر رمضان، والذي بات واقعا مع ظهور أبو بكر البغدادي، كـ "خليفة" خطيبا للجمعة في مسجد الموصل الكبير في السادس من رمضان، الأمر الذي وضع النصرة والجماعات الإسلامية الجهادية في سوريا في حرج شديد وعمل على توليد تصدعات وانشقاقات في صفوفها. 

إعلان تأسيس "إمارة الشام الإسلامية" على لسان الجولاني زعيم جبهة النصرة جاء في تسجيل صوتي مسجل في 11 تموز/ يوليو 2014، وأرادت له النصرة أن يظهر كتسريب، إذ لم يصدر عن المؤسسة الإعلامية المعتمدة رسميا لدى النصرة وهي مؤسسة "المنارة البيضاء"، وهي خطوة مقصودة في سياق الإشارة إلى نهج النصرة التي تؤكد على التزامها بالشورى وعدم الانفراد باتخاذ القرار، إلا أنها تكشف عن خشيتها من التصدع على صعيد مكوناتها السورية المحلية، وفقدان التأييد والدعم والإسناد الجهادي العالمي، ففي الوقت الذي كانت تعمل جبهة النصرة على التكيّف مع المجتمع المحلي وتسعى إلى عدم الاصطدام مع الفصائل الإسلامية والوطنية المسلحة، وتقديم صورة مختلفة عن الفرع العراقي المتمرد، كانت تكتيكتها في جلب الأنصار المحليين قد استفذت غاياتها وارتدت مع طول أمد الصراع إلى تنامي خسارتها للجهاديين المعولمين المقاتلين في سوريا وهجرتهم المستمرة باتجاه خصمها العنيد دولة البغدادي.

هاجس الجهاد العالمي والصراع على احتكار تمثيل تنظيم القاعدة بدا واضحا في التسجيل الصوتي، الأمر الذي يثبت أن التسجيل لم يكن عفويا وكان معدا بدقة، فقد ظهر الجولاني وسط حشد من أنصاره ومؤيديه، الذين قاطعوه مرارا بالتهليل والتكبير، وبالإعلان: "كلنا قاعدة .. كلنا أسامة .. كلنا ظواهري .. كلنا جولاني"، وحتى يكتمل مشهد شرعية التمثيل الجهادي العالمي والمحلي وتدشين اندماج الأبعاد ظهر صوت الشيخ أبو فراس الشامي وهو جهادي عالمي ورفيق المنظر الجهادي العالمي أبو مصعب السوري مخاطباً الحشد بقوله: "بلا إطالة ومقدمات وتعريف، الكلمة الآن لشيخنا وأميرنا الفاتح أبو محمد الجولاني"، وبحسب مصادر النصرة الموثوقة فقد حضر خطاب إعلان الإمارة التي جرت في ريف حلب خلال مبايعة كتيبة صقور العز للشيخ الجولاني، الجهادي السعودي المعروف الشيخ الدكتور عبدالله المحيسني وعدد من رموز الجهاد المحليين والعالميين.

إعلان الإمارة من قبل الجولاني يشير إلى مرحلة جديدة لجبهة النصرة، ونهج مختلف في التعامل مع تطورات مشهد الثورة السورية والحالة الإقليمية والدولية المرتبكة، إذ تضع جبهة النصرة استراتيجية القاعدة المتعلقة بـ "إدارة التوحش" التي وضع أصولها أبو بكر الناجي موضع التطبيق العملي، فالإعلان تم بمشورة الجهاديين المحليين السوريين (الأنصار)أولا، تم بالاتفاق مع أكبر الفصائل الجهادية المعولمة (المهاجرين) الذين حافظوا على حيادهم سابقا بخصوص الخلاف بين جبهة الجولاني ودولة البغدادي؛ أمثال: جيش المهاجرين والأنصار، والكتيبة الخضراء، وجند الأقصى، وجيش محمد، وأنصار الخلافة، وصقور العز، وكتيبة بني غردان، وكتيبة الخرسانيين.
على الرغم من محاولة إظهار الإعلان عن تأسيس الإمارة في الشام عفويا، إلا أن خطاب الجولاني كان معدا بعناية في تحديد معالم المرحلة المقبلة، فقد بدأه بالقول: "آن الأوان أيها الأحبة لتقطفوا هذه الثمار، لقد جئتكم ببشرى والله، بملف نقيمُ به شرع الله عزّ وجلّ في هذه الأرض "، وأضاف: "قد آن الأوان أيها الأحبة لأن نقيم إمارة إسلامية على أرض الشام، نطبّق حدود الله عز وجل، ونطبّق شرعه بكل ما تقتضيه الكلمة من معنى، دون تهاون أو استهانة أو مواربة أو مداراة... تحفظ حقوق المسلمين وتصون حرماتهم".

ملامح الاستراتيجية الجديدة لجبهة النصرة وإمارتها الوليدة بدت أكثر براغماتية وواقعية وشديدة الوضوح، فهي تدشن شرعية مشروعها وتبرز هويتها السلفية الجهادية القاعدية، دون مواربة ومداراة كما كانت تفعل سابقا، ولا تلتفت إلى رضى أحد غير الجهاديين، فبحسب الجولاني: "أنتم أصحاب المشروع، فلا يزايدن عليكم أحد ... بيدكم هذا المفتاح (الإمارة) لا ينازعكم أحد غيركم لا في الشام ولا في خارجها"، ولذلك فإن خلافة البغدادي باطلة،  إذ يقول: "هذا الخليفة (أبو بكر البغدادي) باطل، حتى لو قام بإعلان الخلافة ألف مرة، لا يجب على أي أحد أن ينخدع بهذا الأمر"، وبحسب الجولاني: "خلافة تقام على هدم مشروع جهادي تحلم فيه الأمة منذ 1400 عام، خلافة تقوم على من أعان النظام في قتالكم، هي خلافة ساقطة ولو أعلنوها ألف مرة".

 زعيم جبهة النصرة أكد على قوة النصرة ونفوذها فـ "الجبهة تملك قوة هائلة، قَلّ من يستطيع منافستها في أرض الشام"، كما أن "هذه الأمة سيكون لها خطوط تماس مع كل من يتربصون بالأمة شراً، من النظام والغلاة والمفسدين ... بعد اليوم لن يكون هناك انسحاب من أي منطقة مهما كان السبب، لن نرحم من يقف في وجه مشروع الإمارة كائناً من كان"، وبحسب الجولاني فإن استراتيجيات الإمارة لفرض سيطرتها المكانية ستدخل حيز التنفيذ "في غضون أسبوع سيكون هناك محاكم شرعية في المناطق المحررة ... وسيكون هناك جيش وإمارة، وسيتم تقسيم الجيوش إلى كتائب وسرايا، وسيكون هناك جيش في حلب، وجيش في إدلب.... إخوانكم في درعا سيلتحقون بكم. والأمر كذلك في الغوطة المحاصرة.

 الغاية النهائية تتلخص بجمع الإمارات المتناثرة في إمارة موحدة تنتهي بتشكيل جيش، "بعد ذلك سيكون جيش عرمرم، يضرب اليهود ويتحدى الكل".

 لا شك بأن الاستراتيجية الجديدة لجبهة النصرة جائت بعد أن أعلن الفرع العراقي المتمرد على القاعد عن قيام دولة "الخلافة"، وحدوث حالات من الانقسام والتشرذم والتصدع في صفوف النصرة وخسارة المنطقة الشرقية وسقوطها بيد دولة البغدادي، وفشل السياسات اللينة في التعامل مع جماعة الدولة وعدم فعالية سياسة حرب الأنصار وضمور كفائة التكيفات مع المجتمح المحلي وضعف التنسيق مع الجماعات الأخرى وعدم الجدوى من سياسات توحيد الحركات الجهادية واستحالة رضا المجتمع الإقليمي والدولي، الدولي فبعد أشهر من انطلاق الثورة السورية والإعلان رسميا عن تأسيس "جبهة النصرة لأهل الشام" في سوريا من خلال تسجيل مرئي بعنوان: "شام الجهاد"، بتاريخ 24 كانون الثاني/ يناير2012، وهو تنظيم كان على صلات بتنظيم القاعدة المركزي وتم تشكيله بمساعدة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" للعمل في سوريا دون الإشارة إلى علاقته بالفرع العراقي تجنبا للأخطاء التي وقع فيها التنظيم في العراق، ومحاولة تدشين علاقة ودية مع الحاضنة الشعبية المحلية وتيسيير العمل والتنسيق مع الفصائل المسلحة الأخرى، إلا أن ذلك لم يفلح في التعامل مع النصرة يصورة مختلفة، فالولايات المتحدة لم تنتظر طويلا على "الجبهة " فقد أدرجتها على قائمة الإرهاب في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2012 واعتبرتها امتداداً للفرع العراقي للقاعدة، كما أن السعودية أدرجت التنظيم على لائحتها الخاصة بالإرهاب.

لقد ثبت للجولاني أن استراتيجية "سورنة" النصرة وتكيفها مع المجتمع المحلي، من خلال الاعتماد على ظاهرة "الأنصار"، وهي أحد اجتهادات تنظيم القاعدة عقب ثورات الربيع العربي، لم تفلح سوى في مراحلها الأولى واستنفذت أهدافها، فالخلاف بين نهج الجولاني والبغدادي وطبيعة الجدل والنقاش بين الطرفين عكس نهجين مختلفين في تدبير الاختلافات ورؤيتين مختلفتين حول مستقبل العمل الجهادي، فقد هيمن خطاب النصيحة الناعم على أطروحات فريق الجولاني مطالبين برأب الصدع وتحكيم العقل والعودة إلى الأصول المؤسسة للسلفية الجهادية وممثلها الأبرز تنظيم القاعدة، أما فريق البغدادي فقد هيمن خطاب القوة الصلبة على مقالاته مطالبا بالانحياز للدولة وأميرها ومسفها لاجتهادات خطاب النصيحة باعتبارها تتوافر على أخطاء شرعية ومغالطات تاريخية. 

فريق القاعدة بزعامة الجولاني وظهيره الظواهري يتمسك نظريا بالأصل التاريخي لموضوعة الخلافة المؤسسه على الشورى وعلى مبادئ السياسة الشرعية المستندة إلى العدل، أما فريق دولة البغدادي فيستند إلى فقه الأحكام السلطانية التي تقوم على مبادئ القوة والشوكة وشرعية أهل الحل والعقد، وعلى الصعيد العملي فإن قاعدة الظواهري تتمسك استراتيجيا بتراث حرب الأنصار وكسب القلوب والعقول على أسس جيوسياسية تقوم على استهداف الغرب عموما والولايات المتحدة وحلفائها من المستبدين في العالمين العربي والإسلامي في سبيل رفع الهيمنة وتطبيق الشريعة، ولذلك فإن حربها مفتوحة في الزمان والمكان، أما دولة البغدادي فتتمسك بمنطق الحروب الجديدة التي تقوم على أساس الهوية (سنة ـ شيعة) ومشروعها يستهدف إيران وحلفائها في العراق وسوريا وصولا إلى لبنان التي تصفه بـ "المشروع الصفوي" في المنطقة، وتعمل على تثبيت أقدامها بالقوة على كل شبر يقع تحت حيازتها دون الاكتراث لجلب الأنصار وكسب العقول والقلوب، بل بفرض منطقها وفق مبدأ التطهير المكاني، فدولتها حيث يقف جنودها.

إمارة الشام الإسلامية إذن هي استراتيجية النصرة الجديدة في مواجهة خلافة البغدادي الوليدة، ويبدو أن كلاهما بات مقتنعا باستحالة التعايش والحوار ورأب الصدع، وأصبح مقتنعا بدخول مرحلة "إدارة التوحش"، الأمر الذي ينذر بصدامات عنيفة ليس بين جناحي القاعدة وحسب، بل بين كافة الفصائل المسلحة التي ستجد نفسها مجبرة على الانحياز لأحد الفريقين، ولا عزاء للثورة السورية.   
التعليقات (1)
أبو عطا
الأحد، 13-07-2014 06:26 م
أصدرت جبهة النصرة بيانا توضيحيا حول الشريط المسرب الذي اعتمد عليه الكاتب في مقاله هذا نصه " بيان توضيحي حول ما أشيع عن إعلان جبهة النصرة لإمارة إسلامية"، والذي جاء كتوضيح للتسجيل المسرب عن "إقامة جبهة النصرة لإمارة إسلامية في الشام"، وجاء في البيان:: " - إنَّ مشروع جبهة النصرة من أول يوم أُسست فيه هو إعادة سلطان الله إلى أرضه وتحكيم شريعته. - إننا نسعى لإقامة إمارة إسلامية وفق السُنن الشرعية المعتبرة ولم نعلن عن إقامتها بعد، وفي اليوم الذي يوافقنا فيه المجاهدون الصادقون والعلماء الربانيون سنعلن عنها بإذن الله. - إننا نسعى لتحكيم الشريعة من خلال إقامة دور للقضاء ومراكز حفظ الأمن وتقديم الخدمات العامة للمسلمين في غضون عشرة أيام بديلا عن الهيئات الشرعية السابقة. - لن نسمح لأحد أن يقطف ثمار الجهاد ويقيم مشاريع علمانية أو غيرها من المشاريع التي تقام على دماء وتضحيات المجاهدين. - لن تتهاون جبهة النصرة مع المجموعات المفسدة في المناطق المحررة بالاتفاق مع الفصائل الصادقة. - رص الصفوف ضد الأخطار التي تهدد الساحة سواء من قبل النظام النصيري أو جماعة الخوارج الغلاة."