مقابلات فكرية

سورة الفيل وجدل التفسير والتفكير في حوار مع باحث بجامعة الزيتونة التونسية

أعتقد أنّ التّقدّم الشامل في المستويات الثّقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية يمر حتما عبر الإصلاح الدّيني..
أعتقد أنّ التّقدّم الشامل في المستويات الثّقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية يمر حتما عبر الإصلاح الدّيني..
رغم إجماع طيف واسع من المشتغلين على المدونة الفقهية الإسلامية على أنّ التفاسير القديمة لم تعد مستجيبة بما يكفي لمتطلبات الواقع وفهومه وعلى حاجة الوعي الديني الماسّة إلى مراجعة جذرية، فاتحتُها القطع مع ترسّبات ثقافة الأسطورة، في اتجاه تثوير فهم الموروث الدّيني ونصوصه لإنتاج معرفة جديدة، فإنّ خلافا مكينا بين مدارس الرّأي والفقه وأصوله، قديمها وحديثها، حول جملة الأدوات المستخدمة في فكّ شفرة المراد القرآني.

من بين الانتقادات الحديثة، ما يطرحه الدكتور ناجي الحجلاوي، أستاذ محاضر بمعهد الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة التونسية والمتخصص في مسائل التّفسير القرآني وما يثيره من قضايا متعلّقة بالمنهج والدلالات، والذي يرى في مناهج التفسير المعتمدة إيغالا في الإسرائيليات والخرافة، وغشاوة تحجب رحاب المعرفة. بل إنّ الدكتور الحجلاوي يعتبر الثقافة الدينية الموروثة تجعل الفقهاء وعلماء أصول الفقه، "ناظرين إلى كتاب الله بعين واحدة بدل النظر بعيون قرآنيّة. بل خوّلوا لأنفسهم التكلّم باسم الله وأن يوقّعوا مكانه". وما يستفزّه أكثر هو أن تظلّ الثقافة الموروثة ذاتها، تشجّع على تعدد الزوجات وتجرّم تعدّد الآراء!

في الحوار التالي، يناقش الصحفي والكاتب الحسين بن عمر الدكتور ناجي الحجلاوي وما يطرحه في مؤلفه الجديد "من التفسير إلى التفكير: سورة الفيل أنموذجا"، من جرأة معرفيّة على مجمل الموروث الدّيني، على وجه الخصوص ما أبانه من قطيعة كليّة مع التفاسير القديمة لسورة الفيل وما استوى في المخيلة الجمعية من كون أبرهة الحبشي كان  قد غزا مكة على ظَهرِ حيوان الفيل في نفس العام الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلّم. ذلك أن الدكتور الحجلاوي يقول إنّ المقصود بالفيل هو الرّأي الفاسد وليس الحيوان المركوب، فضلا عن كون الفيل لم يكن معتمدا كوسيلة حرب في الصحراء. ويتكئ الحجلاوي في ذلك على تأويل الشيخ محمد عبده للطير الأبابيل على أنها جراثيم أصابت جيش أبرهة ومستعينا بما أسماها اكتشافات حديثة في مجال المنحوتات أو النقوش الحجريّة بأرض اليمن!

وللتذكير فإن الدكتور ناجي الحجلاوي هو مؤلّف: "التفسير بين النظر والأثر: الطبري والجبائي أنموذجا" و"عائشة أمّ المؤمنين بين الدّين والتّاريخ" ومحدودية المناهج في كتب التّفسير"، وله تحت الطبع "براءة الشّهادة" و"حادثة الإفك: من القصة التراثية إلى التأويل الاستشراقي"، وله عديد المقالات المنشورة في مجلات تونسية وعربية. وفي رصيده خمس مجموعات شعرية. والكتاب موضوع هذا الحوار هو بعنوان "من التفسير إلى التّفكير: سورة الفيل أنموذجا".

س ـ بداية وانطلاقا من عنوان كتابك "من التفسير إلى التفكير"، هل ترى مقابلة ضمنية بين التفكير والتفسير بما ينزع صفة التفكير عن أصحاب التفسير، أم  هي دعوة للقطيعة مع التفسير؟

 ـ لا يذهبنّ الظّنّ إلى أنّ ثنائية التّفسير والتّفكير هي ثنائية متضادّة ينفي حضور أحد طرفيْها الطّرف الآخر. وعندئذ يقدَّم التّفسير على أنّه خال من كلّ تفكير، وأنّ التّفكير في قطيعة مع التّفسير. وإنّما القصد هو أنّ التّفسير قد جرى على سُنن متّبعة كاعتماد أدوات محدّدة كأسباب النّزول، والنّاسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، وكلّ العناصر المشكّلة لما عُرف بعلوم القرآن. وأمّا التّفكير فعموده الانفتاح على المعارف المستجدّة والتّوسّل بالمناهج الحديثة في فهم النّصّ تحقيقا لآفاق أوسع وسعيا للظّفر بأبعاد نظريّة أرحب. وعليه فالتّفسير بني على الإفحام في حين أنّ التّفسير مبني على الفهم والإفهام.

س ـ إذا كان الأمر كذلك، ففيم الاختلاف بين التفسير والتفكير؟

 ـ الاختلاف مداره أدوات إنتاج المعرفة، لذلك عمدت إلى الوقوف على دلالة كل مصطلح لاستبانة الفروق بينهما. فإذا دار المعنى اللّغوي حول مادّتيْ "سَفَرَ" و"فَسَرَ" حول إزالة اللّبس والخفاء والكشف والبيان، فإنّ المعنى الاصطلاحي الّذي استقرّ في الأذهان هو علم يُفهم به كتاب الله المنزّل وبيان معانيه واستخراج أحكامه واستمداد ذلك من علم اللّغة والنّحو والتّصريف والبيان وأصول الفقه والقراءات. وهو علم يحتاج إلى معرفة أسباب النزول والنّاسخ والمنسوخ، بغض النّظر عما علق بهذيْن المدخليْن من أفهام وما حام حولهما من مرويات.

وقد اُختلف في ضبط العلاقة بين التّفسير والتّأويل هل هما مترادفان أم متطابقان في المعنى أم أنّ التّفسير عليق بالمفردات والتّأويل بالنّص وهل أنّ التّفسير يكون قاطعا والتّأويل مكتفيا بالتّرجيح اعتبارا أنّ لهذا النّص ظاهرا وباطنا. والمهمّ من كلّ ذلك هو ملاحظة أنّ الفعل التّفسيري يخرج من محض المعرفة إلى المجادلة الّتي يغذّيها التّنافي المذهبي.

وليس خافيا على ذي لبّ أنّ مراد الله لا يدركه إلاّ الله ذاته وعليه يظلّ عزيزا متفلّتا على المفسّر.



بالإضافة إلى أنّ ورود عبارة المراد الإلهي على صيغة الإفراد يضيّق واسعا ويطبع الوعي الدّيني بالاكتفاء بالمعنى الواحد. وتتعمّق هذه الواحدية من خلال ربطها بوحدانية صاحب الخطاب. وتدريجيّا ترسّخ هذا المعنى الّذي توصّل إليه المفسّرون عبر التّاريخ فاكتسب صفتيْ الشّمولية والإطلاقية. وفرَضية هذا البحث تدور حول محاولة تخليص  النّصّ القرآني من ظلّ علاقته بمؤلفه إلى فضاء علاقته بقارئه. وتخليصها من الارتهان إلى المذهب والعمل على إبراز الكفايات اللّغوية الحاملة لأكثر من دلالة واعتبار أنّ الفهم النّسبي هو المرشّح لتعويض فلسفة المعنى الكلّي. ومهم الإشارة إلى أنّه في عوالم التّفسير، لا يكاد الدّارس يظفر فيها باتّفاق واحد حول ظاهرة تفسيرية واحدة، لا من حيث النوع ولا من حيث العدد إلاّ بشقّ النّفس.

س ـ إذا كان التفسير متعدّدا مكتسبا صفتي الشمولية والإطلاقية.. فماذا عن التفكير؟

 ـ تلك هي الرّحلة الّتي نروم قطعها متوسّلين بالمنهج المُقارني، وصولا إلى عوالم التّفكير الّتي عمادها التّواضع العلمي بالتّركيز على مراد القارئ حسب مقتضيات النّصّ بدلا من الجري وراء مراد الله. وبالاكتفاء بقضية واحدة يتمّ التّركيز عليها تأكيدا أنّ فعل التّفسير في صورته التّقليدية المتجشّم لتناول السّور كافة بالشّرح والتّوضيح بدءا من الفاتحة وانتهاء بسورة النّاس، ما عاد ممكنا لكثرة المواضيع العلمية وتشعّبها ما يعجز المجهود الفردي عن الاضطلاع بها. وقد ورد فعل التّدبر في المصحف في أربعة مواضع مسنَدا إلى الفاعل في صيغة الجمع تنبيها إلى ضرورة تضافر الجهود باختلاف تخصصاتها.

س ـ طيب، لو تجمل زبدة كتابك؟

 ـ الفكرة الجوهرية أنّ التّفسير الموروث تعامل مع النّصّ القرآني على أنّه يتضمّن مصاديق لكلّ مفردة. فالفيل، على سبيل المثال، مصداقه الأوّل هو الحيوان المعروف والأمثلة على ذلك كثيرة كالنملة والهدهد والعرش والكرسي ولكنّ القيل القرآني يحتمل خطابه المفاهيم المتجاوزة للمصداق الأوّل، ولذلك نجد آيات مصداقية كالّتي تذكر قريش، وهناك آيات مفهومية وأخرى كوْنية آفاقية وأخرى قانونية. والقارئ يستعين بالسياق النّصي للقرآن كيْ يقف على معان أكثر إقناعا للعقل.

س ـ على ماذا اعتمدت في دحض فكرة قدوم أبرهة على حيوان الفيل؟

 ـ المعطيات التاريخية وعلم الآثار والمنطق كلّها تدل على أنّ  تهيئة جيش كامل من أجل إسقاط كعبة  تبعد عن اليمن قرابة الألف كيلومتر أمر لا يستقيم، وكان أحرى بالجيش المسيحي أن يتوجه إلى كعبة الطائف وهي أكبر من كعبة قريش. وكان أولى بأبرهة أن يتتبع آثار الّذين أساؤوا إلى القُليس البيت المقدس في اليمن.  والأهمّ من ذلك كيف يصدق المسلمون أنّ الله ينتصر للوثنية وينتقم من القديس أبرهة المُوحد؟

س ـ هل الدكتور الحجلاوي مبتدع في ما يعتبره البعض تعسّفا في إخراج الآيات القرآنية من مجالها اللغوي إلى مفاهيم أخرى لا تصيب المعنى؟

 ـ ليس في الأمر أيّ تعسف، وكلّ ما في الأمر أنّ التّاريخ الّذي خطّه وهب بن منبّه في كتابه "تيجان ملوك حمير" أصبح عند البعض جزءًا من الدّين بل اعتبره البعض من ثوابت الدّين، ومن المعلوم من الدّين بالضرورة، ولم يُكلفوا أنفسهم الضغط على زر يكشف لهم عن نقش يُسمّى بنقش ركمانز يُثبت أنّ أبرهة لم يصل إلى مكّة وإنّما وصل إلى جنوب غرب شبه الجزيرة العربية سنة 552 للميلاد قبل ميلاد النّبي بثمان عشرة سنة، وأنّ نقشا آخر باليمن يُثبت أنّ أبرهة قد تُوفي سنة 567 للميلاد قبل ميلاد النّبي بثلاث سنوات. والقصّة كما هندسها وهب بن منبه تجعل الفيل يفهم العربية لأنّ سائسه همس له في أذنه: "ابرك محمود"، وأنّ الفيل الّذي يتطلب عُشبًا كثيرًا وماء غزيرًا في اليوم الواحد يستطيع حسب رأي هذا المؤلف السيْر في الصحراء لمدّة طويلة، وأنّ العرب المعروفين بالشجاعة يستسلمون أمام الاعتداء على مقدساتهم وأنّ حدثًا معجزًا كالّذي صوره لا يستفز أيّ شاعر من العرب كيْ ينظم معلقة تُخلد نجاة الكعبة المستهدفة بالتّهديم وتُعلّق على جدرانها كما عُلّقت أشعار عنتر الّتي تروي كرّه على القبائل المناوئة.

س ـ قد سبقك الشيخ محمد عبده عندما أوّل الطيور الأبابيل على أنّها جراثيم، فردّ عليه كثيرون منهم عباس محمود العقاد. في حين انتصر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور إلى الروايات المثبتة لحادثة فيل أبرهة، وهو شيخ المقاصد؟

 ـ تظل المشكلة في عملية التّجديد رهينة المنهج المُتبع، فمحمد عبده حينما جنح إلى هذا الرأي رغب في إخراج المعنى القرآني مخرجًا معقولاً باعتبار أنّ هذا القرآن يعني بخطابه النّاس كافة (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (سورة الأعراف 7، الآية 158) وفكرة الجراثيم الّتي تأولها محمد عبده تُقنع العقل البشري في الصين كما هو في اليابان أو في أمريكا أو إفريقيا ولكنّ التّأويل القائم على منهج واضح المعالم يمكن أن يحلّ أغلب الإشكالات في النّصّ القرآني، والمنهج الّذي اعتمدته في هذا البحث هو المنهج اللّفظي التّرتيلي. يتناول الدّارس لفظًا ويُرتّله أيّ يُجمعه مع أمثاله في القرآن بأسره ويُقارن بين السياقات المختلفة ليصل إلى المعنى الممكن، فعبارة "حجارة من سجيل" إذا جمعناها في رتل وجدناها تتكرر في ثلاثة مواطن  في سورة هود 11 الآية 82  قال الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ) وكذلك في سورة الحجر 15 الآية 74 قال الله تعالى: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ)  وأخيرا في سورة الفيل فإذا بالسياقيْن الوارديْن في سورة هود والحجر يتعلقان بقوم لوط وهكذا لا يجد الدّارس حينئذ صعوبة في حمل سورة الفيل على هذا القوم.

س ـ بحسب رأيك ما الذي جعل قصّة الفيل وجيش أبرهة تترسّخ في الوعي الديني الإسلامي وتجد قبولا واسعا؟

 ـ الّذي جعل هذه القصة تجد قبولا واسعا هو انطلاء ما أورده وهب بن منبه وغيره من أهل الكتاب الّذين أسلموا باكرا من أمثال كعب الأحبار وعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا على المفسرين فأدرجوا هذه الروايات في تفاسيرهم وقد عمل التّعليم على ترسيخ هذه الأفكار الموهومة في أذهان الناشئة حتى ظن المتأخرون أنّها جزء من الدّين.

س ـ هل نفهم من كلامك، تأثير الإسرائيليات في توجيه الوعي الدّيني؟

 ـ للأسف الشديد، شكلت الإسرائيليات أرضية نظرية مهمّة في رسم خريطة الوعي الدّيني وقد تمّ إيجاد مرويات تقول: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج والسبب الأصلي لهذه الثقافة الّتي كرسها اللاهوت التوراتي أنّ العرب كانوا أمّة أمية، ولمّا نزل الوحي وجدوا في أهل الكتاب ملجأ وملاذًا لحلّ كلّ مشكل في النّصّ. وقد تصدر وهب بن منبه المشهد حين كان يُفسر قصة الخلق وكان عمر بن الخطاب يسأله عما تأكل الملائكة على ما أورده الطبري في تفسيره.

س ـ لكن قد تجد من يحاججك بأنّ الاسرائيليات والأثر المسيحي هما دليلان على ضعف من سعوا في تضمينها وليس ضعفا في التفسير؟

 ـ الضعف بادٍ في المفسرين الأوائل حين ضمنوا تفاسيرهم آراء أهل الكتاب ولم ينتبهوا إلى أثر الحركة الزمانية في الفكر، وقد أشار القرآن إلى هذه الفكرة حين اعتبر نفسه مهيمنا على الكتب الأخرى الّتي سبقته. وهذه الهيمنة يُراد منها التطلع إلى إشباع العقل بالمعاني المنطقية وليس بالأساطير والخرافات الّتي لازمت الإنسان طيلة عصوره الأولى.

س ـ هل ترى تعارضا بين الفسحة في القصص القرآني وتأويلاته وبين ثوابت العقيدة؟

 ـ لا ثابت إلاّ الله، وما سواه خاضع للتبدل والتّغير والحركة وكلما تقدّم الزمن تطور العقل وازدادت المعارف ما ينعكس إيجابيا على العقائد والإيمان. وقد اعتمد القرآن أساليب عديدة تُمثّل في حد ذاتها وقائع خطابية كالمَثَل والقصّة ولغته في كلّ ذلك رمزية تُشجع الإنسان على الاجتهاد من أجل الظفر بمرموزها ومعادلاتها المعنوية والدلالية، وليس في القصص تشريع لأنّه مرتبط بالأحداث التّاريخية المشروطة بشروطها الموضوعية وما يصلح في مجتمع لا يكون صالحًا بالضرورة في مجتمع آخر، ويكفي أن يستنبط دارس القرآن العبرة من كلّ قصة.

س ـ هل ينحو الدكتور الحجلاوي منحى سبينوزا في نفي المعجزات الإلهية سبيلا لحفر القطيعة مع التفاسير القديمة؟

 ـ كان سبينوزا يعتبر أنّ المرء يُحيل كلّ أمر يتجاوز حدود عقله إلى المعجزة. وما ينبغي تأكيده أنّ المعجزة في القرآن إنّما هي تجاوز للمألوف من العوائد والسائد من المعارف وليست خرقًا لقوانين الطّبيعة وسنن الكوْن الّتي أودعها الله فيه، قال الله تعالى: ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (سورة فاطر 35، الآية 43).

أمّا ما يتعلّق بالقطيعة فالمراد بها اعتماد منهج في الفهم وأدوات في إنتاج المعرفة يختلف عن أدوات القدامى لأنّ المعرفة رهينة أدواتها. إذا اعتمد التّفسير أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاصّ والعامّ بطريقة معينة فإنّ دارس القرآن في الوقت الحالي ليس مجبرًا باعتماد هذه الأدوات وقد اشارت في الكتاب إلى طرق أخرى من قبيل اعتماد المحاور والموضوعات في القرآن الكريم أو توخي المنهج اللّفظي الترتيلي كما بدأه الباحثان العراقيان: عالم سبيط النيلي وعمقه قصي هاشم فاخر.

س ـ انطلقت من قصّة الفيل لتشنّ حربا على أدوات التفسير المعتمدة، ما هو تأثير ما تعتبره تأويلا خاطئا لسورة الفيل؟

 ـ إنّ الأزمة لا تكمن في القصّة في حدّ ذاتها طالما هي جزء لا يتجزأ من نسيج النّصّ القرآني، وإنّما الأزمة كامنة في قراءة هذه القصّة وكيفية التّعامل معها فهما وتدبّرا وتنقية من أكاذيب القُصاص وإضافات أهل الكتاب الّذين تصدّروا للعملية التّفسيريّة والتّأويليّة باعتبارهم أصحاب معرفة مسبقة بالكتاب المقدّس ومحتوياته ومكتسبين لأدوات فهمه. وإذا كانت القصّة القرآنية كاشفة عن الجدل القائم بين الغيب والشّهادة، فإنّ القراءة التّراثية ضخّمت من التّقابل بين القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية. ووظّفت القصّ إلى إبراز عظمة الله وانتقامه من الإنسان الضّعيف.

ولقد جرت الفهوم المتعلّقة بالقصّة التّراثية إزاء القصّة القرآنية وراء هذه الفكرة حتّى وإن أدّى بها ذلك إلى الجمع بين الرأي ونقيضه، ومن ذلك ما ورد في قصة أصحاب الفيل أنّ الله انتصر للوثنيين في مكّة وانتقم من أهل الحبشة الموحدين باعتبارهم مسيحييّن. ولا غرو في ذلك فهم من المغضوب عليهم والضالين سلفا كما يقرّ بذلك الفعل التّفسيري. لقد ضاعت العبر المستهدفة من القصّة داخل البناء القصصي كما ورد في التّفسير المهتم بالتّفاصيل غير المفيدة من أزمة وأمكنة وشخوص وأحداث وسرد ووصف وحوار ومفاجآت.

ولما كانت سورة الفيل نصا مندرجا ضمن فضاء الوحي المكّي، فإنّ القطب الّذي يدور حوله الوحي في هذه المرحلة إنّما هو مقاومة الشّرك والحطّ من الوثنية لما فيها من ضعف الوعي التّجريدي وركون الذّهن إلى التّمثيل والتّجسيد. ولكنّ الأسئلة  المطروحة بناء على ما طرأ على لغة الوحي بمقتضى التغيّر الزّمني والمكاني تتمثّل في التّساؤل حول قدرة العقل على إعادة صياغة الفهم العليق بالوحي طبقا لحاجات العصر ومنجزاته العلمية، ولاسيّما أنّ الوحي ذاته قد أوكل فعل القراءة والتّدبّر في كلّ آياته إلى العقل المتلقّي.

وقد تفطن محمّد إقبال إلى أنّ الصّورة المثلى لقراءة القرآن هي أن يُقرأ وكأنه يتنزل لأوّل مرة الآن وهنا. وما من شكّ في أنّ أسلوب القصّ يتميّز بقدرة عميقة على التّأثير في الوجدان والعقل في آن واحد. فالاكتفاء بالمعنى الظّاهري الّذي تشي به العبارة القصصيّة قد يتحوّل في كثير من الأحيان إلى إفادة مسطّحة قد تُخفي دلالات أعمق ومصاديق محتملة أخرى لربّما كانت أعمق وأكثر ثراء. تلك هي العلامة المميّزة للوحي الّذي يجسّد المعجزة في الرّسالة الخاتمة حيث يمثّل كلّ طرف منهما وجها للآخر فهي دعوة برهانها منها ودليلها متّصل بها، على حدّ عبارة التّهامي نقرة.

إنّ القصّة القرآنية حُبْلى بأبعادها التّعليمية المتعدّدة في المستوى التّاريخي والتّربوي والسّلوكي والعقدي، وهي لا تخلو في كلّ ذلك من مسحة إعجازية. ولذلك هي قصّة ليست ككلّ القصص بها توسّل القرآن لتصوير المعنى الذّهني المجرّد والشّعور المرهف بالمثل المحسوس المتدفّق بالحياة. ومع ذلك مثلت هذه القصّة في القرآن محور جدل أخذا وردّا ولاسيّما عند المستشرقين الّذين ربطوا بينها وبين حوادث التّاريخ ربطا مباشرا وأصدروا أحكاما جائرة مخالفة لحقائق القرآن معتبرين أنّها ذات محتوى تاريخي خاطئ.

س ـ هل تتوقف نهضتنا الإسلاميّة على نقد النص الدّيني وتمثلاته؟ وما مدى تأثير ذلك في الارتقاء بالوعي الجمعي وخدمة الحرية وتحقيق القيمة العلمية المضافة؟

  ـ أعتقد أنّ التّقدّم الشامل في المستويات الثّقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية يمر حتما عبر الإصلاح الدّيني ومادام العقل العربي والإسلامي مُكبّلاً بالأفهام الخاطئة حوْل المكتوب والقضاء والقدر والآجال والأرزاق فلا نستطيع الحديث عن نهضة وتقدّم.
التعليقات (0)