كتاب عربي 21

غزة: مفاجآت وقعت وأخرى منتظرة

أحمد عمر
اجتماع عربي إسلامي بشأن غزة بدون مفاجأت- واس
اجتماع عربي إسلامي بشأن غزة بدون مفاجأت- واس
مرَّ أكثر من شهر على طوفان الأقصى من غير مفاجأة سوى إثخان إسرائيل في قتل الأطفال والنساء، وعدِّنا الضحايا والمنازل المهدمة، حتى ألِفْنا القتل. نرى الضحايا يستغيثون ولا نستطيع أن نغيثهم، كأننا أسرى في زنزانة وأهل غزة في زنزانة مجاورة. قال جميع الناجين من المعتقلات السورية إن أشد تعذيب ذاقوه هو سماع صيحات آلام النساء والأطفال، وعجزهم عن إغاثتهم. ونحن بمشاهد الأخبار نتعذب أشد العذاب، أما الاحتلال وجمهوره فيستلذون بمشاهد "العرض المسرحي" الروماني، ويتطهرون به من آلام الهزيمة التي ذاقوا وبال أمرها في طوفان الأقصى.

انتظرت أن يأتي الطوفان بمفاجآت، غير صور الشهداء الأطفال وصبر أهلهم وصمودهم وعبارات التهليل والتحميد والاسترجاع، وجيش "الكي" الإسرائيلي يمطر غزة بالنار، ويقتل كل عشر دقائق طفلا.

انتظرت حادثة ما في الشارع العربي، مفاجأة في أحد قصور الحكم، مفاجأة في جيش عربي ما، مفاجأة تغير الواقع، وتبدل واقع القصف اليومي، وتسرق الأنظار والكاميرات عن صور الأطفال تحت الأنقاض، وتلوي عنان التاريخ، كأن يقتحم جندي سياج الحدود في الجولان، ألم يعلن المحللون السياسيون المقربون من بشار الأسد منذ عشرين سنة أو يزيد عن فيلم يعدّه المخرج السياسي بشار الأسد اسمه "جبهة الجولان ستشتعل قريبا"، ولعلها الفرصة المناسبة للاشتعال، لكنها لم تقع بعد.

انتظرت مفاجأة ما غير مشهد رجال الشرطة الأردنية وهم يبكون مثل بقية المتظاهرين! وحال الأردني أفضل من حال المواطن السوري الجائع، أو من حال المواطن المصري الممنوع من التظاهر أو من السعودي السعيد بعيد موسم الرياض وانقضاء عهد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

انتظرت شيئا غير المظاهرات والمسيرات في العواصم البعيدة، وعبارات التنديد المقدد، بل إن المظاهرات ندرت في أهم عاصمتين من عواصم دول "الطوق والأسورة"، هما دمشق والقاهرة!

انتظرت مفاجأة غير سحب السفراء، ولم يسحب سوى سفيرين عربيين من تل أبيب، فإما أنَّ سحب الرصاص التشعبي من تل أبيب مجهد ويحتاج إلى عمليات جراحية تحت التخدير، وقد نفدت عقاقير التخدير، أو أن سحب السفير من قاع البحر يحتاج إلى رافعات قوية ونادرة كالتي سحبت الغواصة الغارقة كورسك الروسية من قاع بحر بارينتس.

انتظرت أن يسرق طيار عربي طائرة حربية أو مدنية، ليس للحرب وقصف العدو، إنما لتوزيع منشورات أو إلقاء عبوات ماء على أهل غزة. انتظرت أن يُضرب زعيم عن الطعام -بما أنه مسكين وليس عنده سلاح غير المعدة الخاوية- فيصوم يوما أو بعض يوم في خيمة منصوبة أمام قصره الفاخر.

انتظرت أن يغضب الرئيس المصري مثل غضبته يوم غضِبَ للكرسي "واللي حيقرب منو"، الرئيس الدكر، بعد أن قُصف له مركز حدودي، فخرج يتهدد ويتوعد على طريقة " القرني" في الأفلام المصرية، فقال: من فضلكم مصر دولة لها سيادتها واحترامها! وقد احتفل إعلاميون بتصريحات السيسي الشجاعة عن غزة والقضية الفلسطينية التي يجب أن تبقى حيّة، سريريا في غرفة العناية المشددة، وأكبروا جملته عن رفضه تهجير أهل غزة إلى سيناء، وأغفلوا قوله عن إمكانية تهجريهم إلى صحراء النقب. التهجير، إن وقع، سيكون إلى صحراء خالية من الماء حتما؛ أهل غزة سيعاقبون بالتيه في الصحراء والموت عطشا فيه.

انتظرت مفاجأة كأن تستغل الصين المشهد، فتستقبل ممثلا لحماس في بكين كما فعلت روسيا، كأن تغزو تايوان، كأن يهدد زعيم دولة نفطية "بشيل العدة".. عدة التطبيع ..

انتظرت أن تهبط كائنات فضائية قوية ومقتدرة، وتقول: كفى، آن لهذا الشعب أن يترجل.

انتظرت أن يصدر ملوك العرب (كتر خيرهم كتر خيرهم) إعلانا بجائزة كبيرة لمن يعتقل أبا عبيدة حيا أو ميتا.

عفوا أيها السادة..

لكن الأخبار لم تكفّ عن المفاجآت الصغيرة وهي كثيرة:

مثل ظهور الملك الأردني في مشهد سينمائي بالزي العسكري وتأديته مشهدا كنا نؤديه صغارا مقلدين الأفلام الغريبة، ثم سمعنا خبرا عن قيام سلاح الجو الأردني بنقل شحنة أدوية إلى المشفى الأردني في غزة، للمشفى الأردني الملكي وحده وليس للمشافي الأخرى، كأنها مشاف إسرائيلية، ثم تبين أن النقل كان إلى العريش وليس إلى المشفى في غزة، وإنها ثلاثة صناديق لا غير من الأدوية وليس من موانع الحمل، وإنها نقلت بعد التنسيق مع إسرائيل تنفيسا لغضب الشعب الأردني، فسررت جدا للمشهد السينمائي، وتذكرت الفارسين المغوارين رامبو وشوارزنيجر.

ومثل فتوى إمام الحرم الشيخ السديس بضرورة طاعة ولي الأمر المعصوم، وإن ضُبط وهو يزني، ومفاجأة بفتاوى شيوخ سلاطين تحذر النساء من الغواية بجمال أبي عبيدة، مع أنه ملثم، فالاغتواء يجب أن يكون بجمال ولي الأمر أو اللاعب ليوناردو.. ثمة مفاجآت باستمرار موسم الرياض بجزئه الأول على المستوى الشعبي، وجزئه الثاني على مستوى الأمراء والقادة في مؤتمر القمة الإسلامية.

المفاجآت كانت كثيرة لكن في العدوة الأخرى من الكوكب:

في شوارع أمريكا وبريطانيا وفرنسا التي اندلعت فيها مظاهرات كبيرة، اضطرت حكوماتها إلى غض النظر عنها بعد مصادرة الشعارات المعادية للسامية.

في تصريحات قادة عظام مثل بوتين عن ضرورة حل الدولتين الذي تأخر كثيرا، في فيتو الصين وفيتو روسيا، في تصريح الرئيس ترامب الذي أظهر رعبه من الصور التي شاهدها في غزة، بل إن كارها للإسلام مثل ماكرون طلب من إسرائيل الرأفة بالأطفال والنساء.

في مظاهرات حتى في طوكيو البعيدة، وفي رقصات شعب نيوزلندا النائية في المحيط الهادي.

في تصريح وزير الخارجية الأمريكية بلينكن حامي الظعائن: إن أهل غزة لن يُهجروا، وأن الإدارة الأمريكية ستوحد غزة مع الضفة. لقد أصبح الأمريكان دعاة للوحدة الوطنية والعربية!

في تصرح نتنياهو أنه يريد أن يرعى أطفال غزة في رياض أطفال وينشئهم في الحلية على حب إسرائيل وخدمة اليهود.

في انكشاف وجه إسرائيل وأنها نسخة من سوريا الأسد، النعل بالنعل والجزمة بالجزمة!

لكني ما زلت انتظر، فأنا سجين مثل ملياري مسلم أو ثلاثة مليارات من السجناء، وليس على السجين سوى الانتظار، أدّق على الحيطان على طريقة السجناء وأتواصل معهم بـ"مسحوق الهمس" ولغة الإشارة.

يتوقع المحللون هدنا تقصر وتطول، أما أنا فأنظر إلى التاريخ، وأنتظر معركة كبيرة. لقد كشف الطوفان عورة إسرائيل العسكرية، أما انكشاف عورتها الأخلاقية فأشد وأنكى، وهي ستر لعورتها تزداد استعارا وعارا.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (3)