كتاب عربي 21

قفزة طبع النقود بمصر مؤشر لعمق الأزمة الاقتصادية

ممدوح الولي
1300x600
1300x600
جرت العادة على اقتراض الحكومة المصرية من البنوك التجارية في صورة قروض مصرفية وبيع أذون وسندات خزانة لها، إلى جانب اقتراضها من المصرف المركزي المصري بنفس الشكلين، وذلك لسد عجز الموازنة، إلا أنها تلجأ كذلك للتوسع في إصدار نقود جديدة لمواجهة العجز المزمن في الموازنة، وما يطرأ من احتياجات مالية طارئة وموسمية خاصة وقت الأزمات.

وهذا ما حدث في شباط / فبراير 2011 عندما قام المصرف المركزي بإصدار نقود بنحو 22 مليار جنيه، لمواجهة حالات السحب المتوقعة من جانب الجمهور، بعد إغلاق البنوك لمدة أسبوعين بسبب أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير وحاجتها للسيولة، مع نفاد النقود من ماكينات السحب الآلي خلال تلك الفترة.

وكان ذلك حدثا مثيرا بالنسبة لقيمة إصدار النقد الشهري، والتي ظلت لسنوات ما بين عامي 2003 و2010 يدور متوسطها الشهري حول المليار جنيه، وكان أعلى رقم شهري في شهر تموز/ يوليو الذي يمثل بداية العام المالي الذي تعمل به الحكومة، لمواجهة الزيادات السنوية المقررة بأجور العاملين في الحكومة وبالمعاشات.

وهكذا وصل المتوسط الشهري لإصدار النقد خلال عام 2011 حوالي ثلاثة مليارات من الجنيهات، واستمر ذلك المتوسط الشهري بنحو 2.4 مليار جنيه خلال فترة تولى المجلس العسكري، الذي قام باستنزاف الاحتياطي من العملات الأجنبية، مما قلل من احتياجاته للاقتراض سواء الداخلي أو الخارجي، وكذلك طبع النقد.
مع زيادة التضخم العالمي بالنصف الثاني من العام الماضي، وزيادة تكلفة استيراد الغذاء والوقود وبدء خروج الأموال الساخنة مع إعلان بنك الاحتياط الفيدرالي عن اعتزامه رفع الفائدة، أدى ذلك إلى استمرار التوسع في إصدار النقود

لكنه في العام المالي 2012/2013 والذي شهد تولي الرئيس محمد مرسى، ومع التضييق الخليجي في تقديم المعونات لمصر، واستهداف الحفاظ على القدر القليل المتبقي من الاحتياطيات من النقد الأجنبي، فقد تم اللجوء لزيادة إصدار النقد ليصل المتوسط الشهري لذلك إلى 4.7 مليار جنيه.

تصريحات رسمية نادرة عن طبع النقود

ومع سخاء المعونات الخليجية مع تولي الجيش السلطة في تموز/ يوليو 2013، تراجعت قيمة إصدار النقد ليدور حول الملياري جنيه شهريا، لكنه مع توقف المعونات الخليجية والتوسع بالاقتراض الداخلي والخارجي، رافق ذلك التوسع في إصدار النقد حتى وصل المتوسط الشهري إلى 6.8 مليار جنيه عام 2016، عام استفحال أزمة السوق السوداء للدولار، حتى تم الاتفاق مع صندوق الدولي على قرض جديد أواخر العام، والذي رافقته قروض من دول عربية ومؤسسات إقليمية ودولية، ولهذا عاد إصدار النقد ليدور متوسطه الشهري حول الثلاثة مليارات جنيه شهريا لمدة عامين، ثم زاد المتوسط الشهري إلى خمس مليارات جنيه عام 2019، ليقفز إلى 8.8 مليار جنيه. وهو متوسط غير مسبوق تاريخيا في عام 2020، عام ظهور وتفشى فيروس كورونا بما احتاجه من إنفاق صحي واجتماعي لتخفيف الأزمة على المواطنين.

لكن مع زيادة التضخم العالمي بالنصف الثاني من العام الماضي، وزيادة تكلفة استيراد الغذاء والوقود وبدء خروج الأموال الساخنة مع إعلان بنك الاحتياط الفيدرالي عن اعتزامه رفع الفائدة، أدى ذلك إلى استمرار التوسع في إصدار النقود، ليصل متوسطها الشهري في العام الماضي 8.2 مليار جنيه.

وعادة ما يتفادى المسؤولون المصريون الحديث عن طبع النقود إلا فيما ندر، ومن ذلك تصريح وزير الاستثمار فيما بين عامي 2014 و2016 أشرف سالمان، حين قال: "إحنا شغالين طبع فلوس وهذا ليس في صالح الاقتصاد"، وكذلك تصريح محافظ البنك المركزي الحالي طارق عامر في أيار / مايو 2018 لإحدى الفضائيات المحلية، بأن المشروعات القومية ممولة بنقود مطبوعة.

وحينما حاول رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي الحديث عن مصدر تمويل المشروعات العامة في احتفالية عامة، منعه الجنرال من استكمال الحديث في ذلك الأمر، وهو ما التزم به وزير المالية محمد معيط عندما تحدث عن مصادر تمويل المشروعات القومية، متفاديا الحديث عن طبع النقود.
عادة ما يتفادى المسؤولون المصريون الحديث عن طبع النقود إلا فيما ندر، ومن ذلك تصريح وزير الاستثمار فيما بين عامي 2014 و2016 أشرف سالمان، حين قال: "إحنا شغالين طبع فلوس وهذا ليس في صالح الاقتصاد"، وكذلك تصريح محافظ البنك المركزي الحالي طارق عامر في أيار / مايو 2018

قروض وإصدار سندات وطبع نقود

وفي العام الحالي ومع استمرار ارتفاع التضخم العالمي ونشوب الحرب الروسية الأوكرانية، وكبر قيمة خروج الأموال الساخنة، وارتفاع أسعار الفائدة عالميا، زادت صعوبة إمكانية طرح سندات مصرية جديدة بالأسواق الدولية، خاصة مع تراجع القيمة السوقية لإصدارات السندات المصرية بالبورصات العالمية بشكل حاد.

دفع طول فترة المشاورات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، الحكومة للتوسع في الاقتراض من البنوك التجارية، لتصل قيمة الائتمان المحلي الذي حصلت عليه 68.5 مليار جنيه في الشهر الأول من العام، والذي زاد إلى 324 مليار جنيه في آذار/ مارس. كما بلغ 70 مليار جنيه في الشهر الرابع من العام الحالي وهي آخر بيانات متاحة، ورافق ذلك حصول الحكومة على قروض من البنك المركزي بقيمة 126 مليار جنيه خلال الشهور الأربعة الأولى من العام الحالي.

ولكن كل تلك القروض من البنوك التجارية ومن البنك المركزي المصري، والتي رافقتها ديون خارجية بلغت قيمة زيادتها 8.1 مليار دولار في الربع الأخير من العام الماضي، و12.3 مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي، لم تكف احتياجات الحكومة، فلجأت أيضا لطبع النقود لتصل قيمة إصدار النقد خلال الربع الأول من العام الحالي 19.3 مليار جنيه.

لكن شهر نيسان /أبريل من العام الحالي شهد طفرة غير مسبوقة بإصدار النقد، بلغت 79.2 مليار جنيه خلال الشهر، وهو معدل شهري غير مسبوق تاريخيا تخطى الرقم القياسي السابق والبالغ 34.5 مليار جنيه بشهر أيار/ مايو 2020، في عنفوان تداعيات أزمة كورونا.

وجاءت تلك الطفرة غير المسبوقة لطبع النقود مع تمويل محصول القمح، وتبكير الحكومة لصرف زيادة الأجور والمعاشات السنوية، لتبدأ في شهر نيسان/ أبريل بدلا من الموعد المعتاد في بداية العام المالي الجديد أول تموز/ يوليو، إلى جانب العجز المتزايد في صافي الأصول الأجنبية (العُملات) في الجهاز المصرفي، والذي بلغ 19.7 مليار دولار منتصف العام الحالي، موزعا ما بين البنك المركزي بقيمة 8.2 مليار دولار، وباقي البنوك التجارية العاملة في مصر البالغ عددها 38 بنكا بقيمة 11.5 مليار دولار.

وذلك رغم القيود التي فرضها البنك المركزي ووزارتا التجارة والمالية على الاستيراد السلعي، مع عودة السوق السوداء للدولار، والتي كانت قد اختفت عام 2017، ما زاد من الطلب على الدولار للاحتفاظ به أملا في زيادة قيمته مستقبلا، إلى جانب أنواع الطلب الأخرى على الدولار سواء المعتادة للاستيراد أو لتمويل الأنشطة غير المشروعة كالتهريب والمخدرات والسلاح وغيرها.
تمثل زيادة إصدار النقد في الأحوال العادية سببا في ارتفاع الأسعار، بسبب كثرة النقود في مواجهة المعروض المحدود من السلع والخدمات، فما بالنا بمعدلات تضخم متزايدة في الأسواق المصرية بدأت خلال النصف الثاني من العام الحالي، ثم تصاعدت وتيرتها خلال شهور العام الحالي

المركزي يمتص السيولة ويتوسع بطبع النقود!

وتمثل زيادة إصدار النقد في الأحوال العادية سببا في ارتفاع الأسعار، بسبب كثرة النقود في مواجهة المعروض المحدود من السلع والخدمات، فما بالنا بمعدلات تضخم متزايدة في الأسواق المصرية بدأت خلال النصف الثاني من العام الحالي، ثم تصاعدت وتيرتها خلال شهور العام الحالي، حتى بلغت نسبة التضخم الرسمية في أنحاء الجمهورية في أيار/ مايو 15.3 في المائة، وظلت النسبة خلال الشهرين التاليين تقترب من الخمسة عشرة في المائة.

كما ارتفعت معدلات التضخم بالنسبة للغذاء لتتخطى نسبة 29 في المائة بشهر نيسان/ أبريل، وظلت نسبة تضخم الغذاء فوق العشرين في المائة خلال الشهور التالية، مع استحواذ الغذاء على النصيب الأكبر من الإنفاق للفقراء ولمتوسطي الدخل.

وهكذا كان التوسع في إصدار النقد والذي بلغ 79 مليار جنيه بشهر نيسان/ أبريل الماضي، متعارضا مع سعي البنك المركزي لامتصاص السيولة من السوق، من خلال سعيه لتقليل التعامل بالكاش بين الجمهور، وقيامه برفع سعر الفائدة مرتين خلال العام الحالي بنسبة ثلاثة في المائة، لمواجهة التضخم المرتفع، وسعيه من خلال آلية الودائع المربوطة بطرح أسبوعي للبنوك لاستقطاب جانب من سيولتها، مما يعني تناقض مسلك التوسع في إصدار النقد مع مسلك جذب السيولة من الأسواق، خاصة وأن سعر الفائدة الحقيقي بمصر أصبح سالبا منذ شهر شباط/ فبراير من العام الحالي، واستمر ذلك الأمر خلال الشهور التالية وحتى كتابة هذه السطور، مما يحول دون اللجوء للإيداع في البنوك من جانب قطاع من المصريين كأفراد وشركات، بينما تمثل الودائع المصرفية الرافد الأكبر بموارد البنوك، والتي تمكنها من إقراض الحكومة وشراء البنوك لما تطرحه الحكومة من أذون وسندات خزانة لسد عجز موازنتها.

فائدة حقيقية سلبية منذ 6 شهور

كما تتسبب تلك الفائدة الحقيقية السلبية في عدم عودة الأموال الساخنة لمصر حاليا، إلى جانب انتظارها لخفض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي المتوقع حدوثه بين الحين والآخر، استجابة لمطلب صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد يساهم في سد الفجوة الدولارية، لمواجهة المتطلبات الاستيرادية الأساسية، وسداد أقساط وفوائد الدين الخارجي المرتفعة القيمة.
من المؤكد تصاعد الدين العام الداخلي لمستويات غير مسبوقة تاريخيا حاليا، في ضوء استمرار إصدار أذون وسندات الخزانة الحكومية والاقتراض الحكومي المستمر، لكن الجهات الرسمية سواء البنك المركزي أو وزارة المالية أو وزارة التخطيط، تمتنع عن نشر بيانات الدين العام الداخلي منذ أكثر من عامين!

وشهدت الفترة الأخيرة عددا من المؤشرات السلبية غير المسبوقة تاريخيا، حيث بلغ العجز بميزان المعاملات الجارية خلال الربع الأول، من العام الحالي 5.8 مليار دولار، وهو معدل فصلي لم يحدث من قبل. كما بلغ العجز في الميزان الكلي للمدفوعات 7.3 مليار دولار وهو معدل فصلي لم يحدث من قبل، وبلوغ الدين الخارجي بنهاية الربع الأول من العام الحالي 157.8 مليار دولار كرقم غير مسبوق، مما يشير إلى عمق الأزمة التي يمر فيها الاقتصاد المصري.

وتراجع الاحتياطي من العملات الأجنبية إلى 33.1 مليار دولار بنهاية تموز/ يوليو الماضي، أي أقل مما كان عليه بنهاية عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك حين كان 36 مليار دولار، مع بلوغ قيمة طبع النقود 79.2 مليار جنيه بشهر نيسان/ أبريل، وهو معدل شهري لم يحدث من قبل.

ومن المؤكد تصاعد الدين العام الداخلي لمستويات غير مسبوقة تاريخيا حاليا، في ضوء استمرار إصدار أذون وسندات الخزانة الحكومية والاقتراض الحكومي المستمر، لكن الجهات الرسمية سواء البنك المركزي أو وزارة المالية أو وزارة التخطيط، تمتنع عن نشر بيانات الدين العام الداخلي منذ أكثر من عامين!

twitter.com/mamdouh_alwaly
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الإثنين، 15-08-2022 02:02 ص
*** الشكر الوافر للأستاذ ممدوح الولي، على ما ينشره في مقالاته من أرقام وبيانات هامة، قل أن نجدها منشورة في المصادر الأخرى المتاحة، والتي توضح حقيقة الوضع الاقتصادي لمصر، وتكشف أكاذيب ما تنشره الآلة الإعلامية لحكومة السيسي الانقلابية عن الاقتصاد السيساوي المزدهر لجمهوريته الجديدة، وعن النجاح المزعوم لمشاريعه الوهمية التي تهدر عليها أموال مصر وشعبها، والهدف الأوحد لتلك المشروعات غير ذات الجدوى الاقتصادية، التي يتم إسنادها من سلطة الانقلاب بالأمر المباشر، وينال الحظوة بتنفيذها من يتم اختيارهم بالأسم لشركائهم من الشركات والمقاولين دون منافس، وبأضعاف تكلفتها الحقيقية، ولتقوم عصابة السيسي بفرض الإتاوات عليها، وتحصيل العمولات الخفية عنها، والوضع أدهى وأمر لعمولات صفقات السلاح الأجنبية المليارية، التي يقومون بتهريبها إلى شركائهم في الخليج من خلال شبكة المصارف والمؤسسات المالية التابعة لهم لتبييضها، وإخفاء سرقتها من مصادرها الحقيقية من الأموال العامة لمصر ومن الديون التي أغرق مصر فيها، ومن قيمة ما يبيعه ويرهنه للأجانب من أرض مصر وأصولها، والنتيجة المتوقعة التي ننحدر إليها بسرعة، بسبب سياسات الإهدار والنهب المنظمة المتعمدة لعصابة السيسي الانقلابية، هو الانهيار الاقتصادي على النمط اللبناني، ودون أن نساهم في إثارة الذعر بين الناس على مشروعاتهم التي ستفلس، وأبنائهم الذين سيفقدون وظائفهم، وعلى أموالهم السائلة التي ستنهار قيمتها، وعلى ودائعهم المصرفية التي ستفرض القيود عليها، حتى بعد ضياع قيمتها على النمط اليوناني واللبناني، ويبقى طلب هام أخير من الأستاذ ممدوح الولي، وهو عرض الأرقام العديدة التي يدرجها في مقالاته على شكل جداول لو أمكن، حتى يمكن استيعابها وتتبعها بسهولة أكبر، ومثال لذلك ما عرضه من تطور الإصدار النقدي الجديد السنوي لحكومات الانقلاب، الذي جاءت قيمه مفاجأة مذهلة لنا، رغم كثرة تحدث عامة الناس عن الإغراق في طباعة أوراق النقد، والتي سينتهي أمرها بأن يضطر الناس لحملها في أجولة الدقيق، بافتراض أنهم سيجدوها، ويا جماهير الشعب المصري، من الدهماء الذين أتيتم بالسيسي ووضعتم بيادته وبيادة عسكره فوق رؤؤسكم، بل وداخل عقولكم، وسكتم عن جرائمهم، وطبلتم وزمرتم وصفقكتم لهم، فلتعلموا علم اليقين بأنكم ستدفعون الثمن، لأن سنة الله في خلقه (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)، والله أعلم بعباده.