كتب

محمد جبرون.. عمل تركيبي جديد في صياغة تاريخ المغرب

كتاب يروي تاريخ المغرب الأقصى المعاصر
كتاب يروي تاريخ المغرب الأقصى المعاصر

الكتاب: "تاريخ المغرب المعاصر (1912- 1999) من الحماية إلى وفاة الملك الحسن"
المؤلف: الدكتور محمد جبرون
دار النشر: دار الإحياء للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى
السنة 2022
عدد الصفحات: 544

مقدمة

لا يزال تاريخ المغرب، في حاجة إلى إسهامات علمية وأكاديمية تراكمية، لإخراج الرواية العلمية من بين دفاتر التاريخ الرسمي، والكتابات الإيديولوجية.

الباحثون على المادة التاريخية، يشتكون كثافة الرواية الرسمية من جهة، وضياع جزء كبير من الحقيقة التاريخية في الوثائق الغميسة، التي لم تجد طريقها بعد إلى التحقيق.

 

وقد بذل الأستاذ محمد المنوني رحمه الله جهدا ضخما من أجل حصر عدد كبير من الكتب والتآليف والوثائق والأوراق والتقاييد والكنانيش والفتاوى وغيرها مما اعتبره مصادر مهمة لكتابة تاريخ المغرب، لكن النزر اليسير من هذا المجموع الضخم، هو الذي تحقق، وتم إخراجه للنشر، ولا تزال المادة التاريخية، على عظم الجهد الذي قام به المنوني وغيره، والجهود التحقيقية التي تلت عمله من قبل الباحثين المتخصصين، غير كافية لتأطير العديد من الفترات التاريخية وإخراج الحقيقة التاريخية منها.

 

وإذا كانت الجهود السابقة في إخراج المادة التاريخية للنشر، قد ساهمت في بناء سرديات متعددة، تغني الحس النقدي لدى الباحث والقارئ على السواء، فإن التراكم في تحصيل المادة التاريخية وتدقيقها والتحقيق في الروايات لمعرفة الحقيقة التاريخية، لا يزالا بعيدين.

وإذا كان الأمر يخص الواقعة الواحدة، أو مرحلة من تاريخ المغرب، فما بالك بالتحديات العلمية التي تزداد حدة إذا تعلق الأمر بجهد تركيبي، يأخذ على عاتقه تأطير تاريخ المغرب من الفتح الإسلامي إلى العهد المعاصر، فما بالك إن تم الحفر بعيدا في هذا التاريخ، وتم مده إلى تاريخ المغرب ما قبل الفتح الإسلامي.

الواقع أن الكتاب الذي سنقدمه للقارئ ليس هذه هي أول مرة يتم فيها إنتاج قراءة تركيبية لتاريخ المغرب، فقد سبق أن قام بعض الباحثين والمؤرخين المغاربة بهذا الجهد، مع تباين وتفاوت في الإجمال والتفصيل (نذكر على سبيل المثال جهد عبد العزيز بن عبد الله، وإن كان قصره على العصر الحديث، وجهد عبد الله العروي في مجمل تاريخ المغرب في ثلاثة أجزاء، وجهد إبراهيم حركات في المغرب عبر التاريخ في ثلاثة أجزاء،)، فإن الجهود التي قامت بها المؤسسات الرسمية (المعهد الملكي: موجز تاريخ المغرب تحيين وتركيب محمد القبلي)، أو المدنية (معلمة المغرب) أو قام بها الأجانب (بروفونصال، ريفيت، لوطورنو...)

 

لكن مع ذلك، يبقى لهذا العمل (تاريخ المغرب الأقصى) الذي قام به الدكتور امحمد جبرون خصوصيته وفائدته، ذلك أنه استهدف بوجه خاص، سد بعض الفراغات في هذا الموضوع، من جهة المحاولة العلمية لكتابة التاريخ، وأخذ بعض المسافة عن الرواية الرسمية، والتحقيق في القراءة الأجنبية لتاريخ المغرب، والتجرد من نزوعاتها الكولونيالية، ومحاولة تقديم مساهمة جديدة، تعزز التراكم الحاصل في الموضوع، وتقدم للقارئ العربي، المغربي والمشرقي مادة ميسرة بأسلوب سهل ممتنع، يحيل إلى المصادر والمراجع، ويقوم بجهد تحليلي للوقائع، ويمد عينه إلى المسار الذي يتجه فيه تاريخ المغرب من خلال خلاصاته التركيبية التي تعقب كل فصل على حدة.
 
في البدء كان تاريخ المغرب الأقصى

بدأ المؤلف هذا المشروع التركيبي في كتابة تاريخ المغرب من فترة الفتح الإسلامي (62/681)، ومد زمن الجزء الأول إلى الحماية (1912)، واستكمل الجزء الثاني تأطير فترة ما بعد الحماية إلى وفاة الملك الحسن الثاني في نحو 1100 صفحة في الجزءين معا.

انطلق المؤلف في عمله التأريخي على أربع فرضيات أساسية، ركز في الأولى على البعد الوطني في انتقاء المادة التاريخية وتوظيفها، وتبعا لذلك، فقد اختار المؤلف أن يجعل محور جهده الأكاديمي حول تاريخ المغرب الأقصى، وتجنب الخلط بينه وبين أحداث ووقائع تهم المغربين الأدنى (تونس)، والأوسط (الجزائر)، كما سعى إلى التحرر من أي تحيز عرقي أو طائفي، ويظهر ذلك واضحا في اصطلاحاته، إذ تجنب بعض الألفاظ ذات الإيحاء السلبي كلفظ البربر وما شابهه. تقوم الفرضية الثانية على تأكيد الدور المحوري للإسلام في ظهور المغرب الأقصى سياسيا وحضاريا، حيث ساهم الدين الجديد في تمهيد السبل لبناء وحدة سياسية، وبناء كيان سياسي وطني فوق التراب المغربي، وهو ما كان متعذرًا في السابق، واستمر الإسلام في القيام بهذا الدور على امتداد العصر الوسيط الطويل.

وقد تأكدت هذه الفرضية في خلاصاته التركيبية، إذ سلط المؤلف الضوء، على الكيان السياسي الموحد الذي ظهر عليه المغرب الأقصى، وذلك منذ دولة المرابطين، أي في القرن الخامس الهجري، بعد خروجه من مرحلة حكمك الطوائف والإمارات المستقلة، واستطاع المغرب ليس فقط أن يحافظ على هذا الكيان السياسي، بل تجاوز ذلك إلى الامتداد إلى الصحراء والمغرب الأوسط وأحيانا إلى الأندلس شمالا، وإلى ليبيا شرقا، ممالك السودان وحتى نهر السينغال جنوبا، وركز المؤلف في خلاصاته التركيبية على عدم نكوص هذا الكيسان السياسي الموحد إلى مرحلة ما قبل المرابطين (حكم الطوائف والإمارات المستقلة).

أما الفرضية الثالثة، فقد قامت على اعتبار الجهاد الوطني عملا عسكريا لمواجهة التجزئة والانقسام الطائفي والقبلي، ومواجهة الغزو الأجنبي، وحماية السيادة الترابية للبلاد.

 

يبقى لهذا العمل (تاريخ المغرب الأقصى) الذي قام به الدكتور امحمد جبرون خصوصيته وفائدته، ذلك أنه استهدف بوجه خاص، سد بعض الفراغات في هذا الموضوع، من جهة المحاولة العلمية لكتابة التاريخ، وأخذ بعض المسافة عن الرواية الرسمية، والتحقيق في القراءة الأجنبية لتاريخ المغرب، والتجرد من نزوعاتها الكولونيالية، ومحاولة تقديم مساهمة جديدة، تعزز التراكم الحاصل في الموضوع، وتقدم للقارئ العربي، المغربي والمشرقي مادة ميسرة بأسلوب سهل ممتنع،

 



وركزت الفرضية على إثبات الدور المركزي للمغرب الأقصى في تاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط، تأثيرا وتأثرًا، فكما كان المغرب وراء فتح الأندلس، وكان فاعلا بها لقرون، وكان أيضًا موضوع نفوذ الأندلسيين لقرون، ثم الإيبيريين من بعدهم.

انتهج المؤلف في جزئه الأول، منهج "البنيوية المنهجية المنفتحة"، حتى يتجاوب بذلك مع رغبات «القراء غير المؤرخين»، الذين يفضلون الأنساق «الروائية» في قراءة التاريخ، والتي تعطي أهمية خاصة لتسلسل الأحداث وتعاقبها الزمني، ولا تكثر من الاشتراطات المنهجية والمفهومي، فجاء هذا الجزء، ليغطي ثلاث مراحل أساسية من تاريخ المغرب، المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى عصر الدول الكبرى (الباب الأول)، والمغرب الأقصى في عصر المرابطين والموحدين والمرينيين(الباب الثاني) والمغرب الأقصى في العصر الحديث السعديين، والعلويين).
 
وقد حاول المؤلف في هذا الجزء جمع المادة التاريخية وتحليلها وتركيبها، وذلك بالرجوع إلى عشرات المصادر والمراجع، قديمها وحديثها، بما يتناسب مع حجمه والغاية منه. كما حاول الباحث توظيف مجموعة من الخرائط والخطاطات الأصيلة التي تتوافق مع فرضياته واختياراته وترجيحاته، المنهجية والمعرفية، وذلك لتوضيح بعض الأفكار وتيسير الإفادة منها، ولبيان بعض المواقع والحركات على مستوى المجال.
 
تاريخ المغرب المعاصر

لم تمر أكثر من أربع سنوات، حتى اكتمل العمل التركيبي الذي قدمه المؤلف للقراء وذلك بإصدار الجزء الثاني "تاريخ المغرب المعاصر"، الذي أطر الظرفية الممتدة من توقيع معاهدة الحماية مع فرنسا سنة 1912 إلى وفاة المرحوم الملك الحسن الثاني سنة 1999. 

وقد علل المؤلف اختيار سنة وفاة الملك الحسن الثاني، كأفق زمني لمشروعه التركيبي، اعتبارا منه لعدم توفر شرط الموضوع التاريخي في فترة «تاريخ» ما بعد وفاة الحسن الثاني رحمه الله، فالتاريخ ـ حسب المؤلف ـ هو "معرفة بواسطة الوثائق"، وعمل المؤرخ يبدأ عندما ينتهي الصحفي أو المُحقق من عمله، وهو ما لم يتم بعد.

يغطي الجزء الثاني من مشروع الباحث التركيبي عهدين: عهد الحماية الذي يمتد من سنة 1912 إلى سنة 1956؛ وعهد الاستقلال، الذي يمتد من 1956 إلى سنة 1999، سنة وفاة الملك الحسن الثاني رحمه الله.
 
وقد حاول المؤلف تقديم سردية تضم أحداث ووقائع كل عهد على حدة، من خلال مجموعة من الفصول، وكان همه هو محاولة بناء ما أسماه بـ"رأي عام تاريخي" حول العهدين، يصعب على الكثير من القراء وخاصة من جيل الشباب تكوينه في ضوء الإكراهات التي يعاني منها النشر التاريخي في البلاد، والمزاحمة التي يعاني منها من طرف «وسائل التزييف» الحديثة، وخاصة الوافدة من وسائل التواصل الاجتماعي.

يعلل المؤلف الحاجة إلى إعادة بناء هذه السردية ، وإعادة تشكيل ما أسماه بـ«الرأي العام التاريخي» بالأغلاط الكبيرة التي يرتكبها بعض المواطنين، والسياسيين، والجهل الفظيع الذي تعاني منه الأجيال الجديدة بتاريخ المغرب، والذي قد يؤدي بهم حسب المؤلف إلى الاستخفاف بالثوابت الوطنية، والتهاون في الدفاع عنها، والاستعداد للتفريط فيها ويعتبر المؤلف أن فالتاريخ كان يمثل في الماضي القريب حصن المغرب وسلاحه الفتاك في الدفاع عن كيانه، واستمرار دوره الحضاري في حوض البحر الأبيض المتوسط والعالم، وسيبقى كذلك سلاحا أساسيا في مواجهة تحديات المستقبل وأخطاره.
 
حاول المؤلف من خلال هذا العمل توسيع مساحة هامش الحرية في تناول هذه الأحداث والوقائع، والوفاء لـ "الحقيقة التاريخية"، والتجرد من ضغط الكتابة الرسمية للتاريخ وثقلها، والقراءة الإيديولوجية والسياسية، التي تنحاز للأحزاب أو تمجد عبقرية ألأخاص وبطولاتهم، وتحول التاريخ إلى عمل دعائي، وكان همه في هذا العمل هو تقديم أحداث هذا التاريخ بصورة تسمح للقارئ بممارسة نوع من النقد للمتن التاريخي الوطني، وتكوين رأيه الخاص حول الأشخاص والمؤسسات.
 
اعتمد المؤلف منهج الاستثمار الانتقائي للرصيد الوثائقي والمعلوماتي الكثيف المتوفر، وذلك في معالجة معضلة عدم القدرة على استثمار كل التراكم الوثائقي الغني المتوفر.

قسم الباحث هذا الجزء إلى بابين اثنين، تناول في الأول العهد الزمني الأول أي المغرب ما قبل الحماية (الباب الأول) في خمسة فصول، تناول في ألأول الإطار القانوني للحماية والاحتلال العسكري للمغرب والإدارة في هذا العهد، وتعرض في الثاني إلى المقاومة المسلحة للاحتلال، واستعرض في الثالث نشأة الحركة الوطنية ومسارها إلى فغاية نفي الملك محمد الخامس، فيما خصص الفصل الرباع لثورة الملك والشعب، وتناول في الفصل الخامس وضعية الاقتصاد والمجتمع والثقافة في مغرب الحماية، وحرص عند كل فصل على تسجيل خلاصة تجمع الاتجاه العام للتاريخ في هذه المرحلة في الجزئية المخصوصة بالتأريخ.

وفي الباب الثاني، الذي يؤطر عهد المغرب المستقل، فقد تناوله في ثلاثة فصول، خصص الأول (الفصل السادس) لاستعراض تحديات بناء الدولة الوطنية بعيد الاستقلال، وتناول في الفصل الثاني (الفصل السابع) المغرب في عهد الملك الحسن الثاني (تحولات السياسة الداخلية والخارجية)، فيما جاء الفصل الأخير (الفصل الثامن) يسلط الضوء على وضعية الاقتصاد والمجتمع والثقافة في هذه الفترة.
  
وعلى العموم، فقد حاول المؤلف أن يقدم مادة كتابه بشكل بيداغوجي سلس يراعي إمكانات القارئ الثقافية، واعتمد تبويبا منهجيا، يساعد على تتبع خيوط الأحداث وتطوراتها بأسلوب السرد الحكائي، وباعتماد الصور كفواصل ومحطات استراحة تكسر الملل الذي قد ينشأ عن القراءة، وتشكل انطلاقة قرائية جديدة.


التعليقات (0)