قضايا وآراء

هل يمكن للرئيس التونسي أن يتراجع عن "التأسيس الجديد"؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

تبدو الإجابة بالنفي عن السؤال الوارد في العنوان، بعد استواء سوق "تصحيح المسار" وهيمنته على كل السلطات، بل بعد نجاحه في فرض خارطة طريقه إلى حد هذه اللحظة، من باب البداهة. فما الذي سيدفع الرئيس إلى التراجع عن مشروعه السياسي في ظل موازين قوة ما زالت تميل لفائدته داخليا وخارجيا، خاصة بعد أن نجح في تمرير اللحظة الأولى من خارطة طريقه (الاستشارة الوطنية الالكترونية)، وفرَض مخرجاتها أساسا للحوار "الوطني" الذي سيمهد به للحظة الثانية من خارطة الطريق "الاستفتاء"؟

وما الذي سيجعل الرئيس يلقي بالا للمعارضة؛ وهي إما حليف موضوعي له أو ذات سمعة سيئة عند جزء معتبر من الشعب التونسي؟ ولماذا سيتراجع عن "الاستفتاء"، وهو سيعتبره ناجحا مهما كانت نسبة المشاركين فيه، كما فعل مع الاستشارة الوطنية التي اعتبرها ناجحة رغم أن نسبة المشاركة فيها لم تتجاوز 5 في المائة من مجموع التونسيين؟ ولكنّنا نعتقد أن ما تقدّم كله لا يجعل اكتمال خارطة الطريق الرئاسية ووصولها إلى لحظتها الأخيرة حتمية تاريخية. وهي فرضية سنحاول الاشتغال عليها في هذا المقال، ببيان الشروط الضرورية لحمل الرئيس على التراجع عن "التأسيس الجديد".

 لفهم الواقع التونسي بعد 25 تموز/ يوليو قد يكون علينا الانطلاق من ملاحظة وصفية مدارها أن ذلك الحدث -سواء اعتبرناه تصحيحا للمسار أو انقلابا- لم يُنتج نخبا جديدة، بل ظلت النخب القديمة نفسها تتحكم في المشهد العام. فالرئيس الذي تحدث أنصاره عن بؤس النخب وعن ضرورة تصعيد نخب بديلة لم يفعل غير إعادة تدوير النخب الشيو- تجمعية، بدءا من تركيبة حكومته، مرورا بالأغلب الأعم من كبار المسؤولين الإداريين والديبلوماسيين، وانتهاء بالمشرفين على "الحوار الوطني" وكتابة الدستور.

ما الذي سيجعل الرئيس يلقي بالا للمعارضة؛ وهي إما حليف موضوعي له أو ذات سمعة سيئة عند جزء معتبر من الشعب التونسي؟ ولماذا سيتراجع عن "الاستفتاء"، وهو سيعتبره ناجحا مهما كانت نسبة المشاركين فيه، كما فعل مع الاستشارة الوطنية التي اعتبرها ناجحة رغم أن نسبة المشاركة فيها لم تتجاوز 5 في المائة من مجموع التونسيين؟

ولا يبدو أن تعيين بعض الولاة (المحافطين) من أنصار مشروعه يطعن في هذه الملاحظة، بحكم محدودية عددهم وعدم مشاركتهم في صياغة القرار الوطني. أما المعارضة فإنها لم تتخلص -في الأغلب الأعم- من النخب القديمة، بل لم تتخلص بعد من وعيها السياسي "اللا وظيفي" الذي يمدّ في أنفاس "تصحيح المسار" من حيث لا تشعر. فحركة النهضة مثلا ما زالت مصرّة على "خطاب" التوافق وتقديم وجوهه التي يحمّلها الشعب -بحق أو بباطل- مسؤولية العشر العجاف أو "العشرية السوداء".

أما "تنسيقية الأحزاب الاجتماعية" (وقد أضيف إليها حزب العمال وحزب القطب اليساريان)، فإن موقفها يلخصه مبعوث الاتحاد الأوروبي إلى تونس عندما قال بأنه قد لاحظ خلال اتصالاته بالأحزاب والمجتمع المدني في تونس أن هؤلاء يُبدون مخاوف من عودة النهضة للحكم؛ أكثر من مخاوفهم من عودة الاستبداد الذي يبشر به "التأسيس الجديد".

إننا أمام وضعية معقدة يصبّ خراجها في خزائن "تصحيح المسار"، رغم وعي الجميع بأنه قد حوّل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية تؤسس لجمهورية ثانية قد تنفي الحاجة إليهم، أو على الأقل قد تجعلهم مجرد أجسام وظيفية في خدمة الرئيس ومشروعه.

ولكنّ هذا "الخطر الوجودي" لم يدفع بالمعارضة إلى التوحد أو إلى مراجعة مواقفها من شرعية التأويل الرئاسي للفصل 80 من الدستور، ذلك التأويل الذي لا يمكن لمن رضي به أن يعارض الرئيس فيما بناه عليه من خيارات "تصحيحية" منذ صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر الماضي. فمن رضي بالمقدمات، أي بشرعية التأويل الرئاسي للدستور وتجميد البرلمان وحل الحكومة ورفع الحصانة عن النواب، سيكون عليه أن يقبل بالنتائج، أي حل البرلمان، وحل الهيئات الدستورية أو تجميدها، واحتكار كل السلطات، وتحصين مراسيم الرئيس من الطعن، وفرض الاستفتاء بصورة مخالفة لأحكام الدستور.. الخ. وهو ما يعني أن أي نقد للمسار الذي اختاره الرئيس بعد 25 تموز/ يوليو سيظل بلا قيمة؛ ما لم يطرح سؤال الشرعية وآليات الاعتراض "الدستوري" عليها أو الطعن فيها أو حتى تعديلها.
من رضي بالمقدمات، أي بشرعية التأويل الرئاسي للدستور وتجميد البرلمان وحل الحكومة ورفع الحصانة عن النواب، سيكون عليه أن يقبل بالنتائج، أي حل البرلمان، وحل الهيئات الدستورية أو تجميدها، واحتكار كل السلطات، وتحصين مراسيم الرئيس من الطعن، وفرض الاستفتاء بصورة مخالفة لأحكام الدستور

فما دام أغلب معارضي الرئيس يثمّنون "البيان رقم 1" وإن عارضوا ما تلاه من قراراتٍ، فإنهم لا يطعنون في شرعية "تصحيح المسار"، بل سيكونون في موقع شبهة قد تُصحح قول الرئيس فيهم عندما اتهمهم بـ"الطمع"، واعتبر أن نقمتهم عليه راجعة إلى حرمانهم من المشاركة في إدارة "حالة الاستثناء" وتحديد مخرجاتها.

 إن توافق المعارضة على توصيف ما وقع يوم 25 تموز/ يوليو بالانقلاب -ونزع الشرعية الدستورية عنه- هو شرط ضروري لتحسين موقعها في مواجهة "التأسيس الجديد"، ولكنه شرط غير كاف. فحصول "الإجماع" على ذلك التوصيف -على افتراض وقوعه- يحتاج إلى مراجعات جذرية من لدن مكونات المعارضة كلها، وهي مراجعات تنطلق من الاعتراف بالمسؤولية والقيام بالنقد الذاتي. ولكن هذا المطلب يبدو في حكم المحال في السياق الحالي الذي يحاول كل طرف توظيفه لإعادة هندسة المشهد السياسي، بعيدا عن الإرادة الشعبية.

وإذا كان الرئيس يريد فرض "التأسيس الجديد" بعيدا عن أية محددات كمية ودون طرح فرضية الفشل (من المرجح أنه سيعتبر الاستفتاء ناجحا مهما كان عدد المشاركين فيه، ما دام يعلم جيدا أن المعارضة ستقاطع الاستفتاء وسيكون الأغلب الأعم من المشاركين من أنصار "نعم")، فإن أغلب مكونات المعارضة لا تختلف عنه من حيث سعيها إلى الاستفادة من اهتراء شرعية الرئيس (وهي فرضية قد تتأكد بعد الاستفتاء)، وذلك لحمله على إشراكها في السلطة ودفعه إلى تحقيق ما كانت تنتظره من تصحيح المسار: ضرب حركة النهضة، أو على الأقل تحجيم دورها السياسي في أية تسويات قادمة.
إننا أمام مشروع سياسي يحتكر الحديث باسم الإرادة الشعبية، ولكنه لا يشرط شرعيته بها. فالرئيس الذي لم يعدّل موقفه بعد فشل الاستشارة الوطنية الإلكترونية، لن يُغير موقفه من دوره "الخلاصي" مهما كان عدد المشاركين في الاستفتاء المنتظر يوم 25 تموز/ يوليو الجاري. وهو ما يعني أن على المعارضة التوحد لمواجهة خارطة الطريق الرئاسية

 مهما كان موقفنا من "تصحيح المسار" و"التأسيس الجديد"، فإننا أمام مشروع سياسي يحتكر الحديث باسم الإرادة الشعبية، ولكنه لا يشرط شرعيته بها. فالرئيس الذي لم يعدّل موقفه بعد فشل الاستشارة الوطنية الإلكترونية، لن يُغير موقفه من دوره "الخلاصي" مهما كان عدد المشاركين في الاستفتاء المنتظر يوم 25 تموز/ يوليو الجاري. وهو ما يعني أن على المعارضة التوحد لمواجهة خارطة الطريق الرئاسية قبل أن تبلغ لحظتها النهائية (الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها).

ولكنّ توحّد المعارضة لا يعني طمس اختلافاتها أو إنكارها، ولا يعني أيضا التسوية بينها في المسؤولية عن فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، فكل ما يعنيه هو الاعتراف بوجود أزمة بنيوية تحتاج إلى حوار وطني حقيقي بعيدا عن منطق الصراع الوجودي ومفردات النفي المتبادل، ولا تحتاج إلى "تأسيس جديد" أو إلى تلك الحوارات التي أعادت إنتاج الأزمة وعمقتها.

إننا في حاجة إلى حوار يفرض على الرئيس التراجع عن منطق البديل والقبول بموقع الشريك، حوارٍ لا يصادر على الإرادة الشعبية ولا يكون مجرد منبر للدفاع عن مصالح اللوبيات الداخلية والقوى الخارجية. وقد يبدو هذا الطرح ضربا من "الطوباوية"، ولكننا نؤمن بأنه المخرج الأوحد من الأزمة بعد فشل كل أشكال "الواقعية" والتسويات البراغماتية المؤقتة التي كان محصولها ما نرى.

 

 

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)