كتاب عربي 21

هي ذي الجثة، فما أنتم فاعلون؟

طارق أوشن
1300x600
1300x600

عندما اغتيل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بسفارة بلاده بإسطنبول قبل سنوات، تعالت الأصوات الدولية المنددة بالجريمة؛ مطالبة بفتح تحقيق شفاف ونزيه يؤدي إلى معاقبة الجناة. توقف الموضوع جنائيا على غياب الجثة، باعتبارها الدليل المادي الذي لا تستقيم أركان الجريمة بدونه، بعد التأكيد الرسمي للسلطات السعودية أن عددا من "العناصر المارقة" المنتسبة لأجهزتها "سلمتها لمتعهد محلي".

وعندما انهالت الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية بالضرب المبرح على الناشط السياسي نزار بنات بداخل بيته قبل أشهر، تعالت الأصوات المحلية الدولية المنددة بالجريمة؛ مطالبة بفتح تحقيق شفاف ونزيه يؤدي إلى معاقبة الجناة. صور جثة الرجل المسربة ساعات بعد اعتقاله أكدت، بما لا يدع مجالا للشك، حجم ما تعرض له من تنكيل وتعذيب أفضيا إلى وفاته على أيدي عناصر من الأمن الفلسطيني، واضطرت معه النيابة العامة إلى التحقيق وإصدار الأحكام على المتهمين.

انتهت القضيتان بإغلاق السلطات القضائية التركية لملف جمال وتحويله للقضاء السعودي شهر نيسان/ أبريل الماضي، فالقضية حسب بيان المدعي العام لإسطنبول "تراوح مكانها"، بعد أن تعذر "تنفيذ أوامر المحكمة؛ فالمتهمون أجانب". وكانت النيابة العامة السعودية قد أعلنت عن محاكمة أعضاء "فريق الاغتيال" وإصدار الأحكام السجنية المناسبة في حق من ثبت تورطهم في التنفيذ، والعهدة على البيانات الصادرة عنها. أما قتلة نزار بنات، فقد استعادوا حريتهم وفق اتهامات صادرة من عائلته التي ثبت لديها "بالدليل القاطع دون أدنى شك، خروج ثلاثة عشر من أصل أربعة عشر من أعضاء فريق الاغتيال من السجن، دون إذن من المحكمة ودون أي مبرر قانوني". 

ثلاثة أيام فقط بعد بيان عائلة بنات الذي أكدت فيه أن "الجريمة كاملة ومكتملة الأركان قبل وفي أثناء وبعد عملية الاغتيال"، لم يخلف جيش الاحتلال موعده مع تاريخ حافل بالجرائم، فأقدم على اغتيال مراسلة قناة الجزيرة بالقدس شيرين أبو عاقلة في وضح النهار. التحقيق الوحيد الذي أمكن إجراؤه حتى اليوم، تكفلت به النيابة العامة الفلسطينية المتهمة بالإفراج عن قتلة ابن بلدها بنات. المصداقية تكتسب بالممارسة لا بالشعارات، وشيرين احتاجت لربع قرن من العمل الميداني لتكون رمزا لها. تقارير وتحقيقات نيابات عامة محلية لا مصداقية لها ولإجراءاتها، إساءة لطهارة الملف وتشريع لأبواب ونوافذ تفتح المجال للتشكيك والتسويف من لدن سلطات القمع والاحتلال.

وبوجود الجثة، تحول السؤال إلى الرصاصة التي اخترقت رأس شيرين. ففي وقت يصر فيه النائب العام الفلسطيني أن المقذوف الناري لن يسلم لسلطة الاحتلال، تصر نظيرته في الجيش الاسرائيلي ألا تقدم ممكنا في التحقيق الداخلي إلا باستلام الرصاصة وفحصها. ولأن مصداقية الجهاز القضائي الفلسطيني منقوصة، أمكن لجنود الاحتلال وحماتهم من القادة والسياسيين والقضاة الرقص على الكلمات، كما تعودوا الرقص على الجثث والتمثيل بالضحايا والسعي لاختطاف الجثامين واحتجازها. وإذا كان التحقيق المسلم لمحمود عباس، الذي لم يفعل غير إعادة وتجميع ما كان في الأصل معروفا، سيشكل "حجر الأساس في ملاحقة المجرمين والقتلة"، حسب تصريحات النائب العام، فالخوف كل الخوف أن يذهب دم شيرين أبو عاقلة هدرا على مذبح التقاط الصور وإصدار البيانات وتوالي الإدانات.

عندما انتشر خبر اغتيال شيرين ومعه صورها ملقاة على الأرض بزيها الصحفي، في مشهد أعاد إلى الأذهان ما علق في الذاكرة مع محمد الدرة ووالده أو الطفل الكردي إيلان، انطلق منسوب التنديد والاستنكار وتسابق كثيرون على تسجيل المواقف "المجانية" التي لا تقتضي دفع الأثمان. صارت ابنة القدس أيقونة في أحاديث البعض وأنموذجا في كلام آخرين. هي فعلا كذلك، لكنها كانت أحوج ما تكون إلى أن تسمع وترى مقدار الثناء عليها حية لا جسدا يوارى الثرى. 

أصدرت وزارات الخارجية بيانات ونددت بالجريمة منظمات مهنية وحقوقية. تكلم بلينكن ولسانه أقرب ما يكون إلى الدفاع عن الاحتلال، وكذلك فعل جو بايدن متحاشيا التعليق، فجنسية الأمريكي درجات وإسرائيل أكبر من أن يطبق عليها شعار الجواز أن حامله "تحت حماية الولايات المتحدة الامريكية فوق أي أرض وتحت أي سماء"، والإدارة الأمريكية صخرة صماء أمام الدعوات الصادرة عن أعضاء في الكونغرس، بدعوة مكتب التحقيقات الفيدرالية لبحث الملف والمساهمة في بيان ما استعصى فيه. اجتمع مجلس فيما بدا سابقة ومُنع أعضاء من البرلمان الأوروبي من الدخول للأراضي الفلسطينية لمجرد مناقشة الموضوع، وربما تقديم العزاء. المسلسل في بداياته والوعد أن سيستمر في تكرار حلقاته لشهور وشهور.

 

التزام قطر بقضية شيرين من خلال ما خرج للعلن من تصريحات أميرها خلال جولته الأوروبية تعليقا وخطابات وبيانات مشتركة، وقرار شبكة الجزيرة الإعلامية بالتحرك الفعلي وتحويل القضية لأنظار محكمة الجنايات نقطة ضوء في بحر من غياهب الجحود والنسيان.

 



في معرض تعليقه على اغتيال شيرين، قال رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي؛ إن "الصحفية قتلت في منطقة قتال"، مضيفا أن الجنود الإسرائيليين "يطلقون النار بشكل محترف، وبطريقة دقيقة على عكس الفلسطينيين". مثل هذا التصريح إدانة واعتراف صريح بتعمد الاستهداف. والتجربة علمتنا أن الكيان الصهيوني فوق كل محاسبة، مهما توفرت أركان جريمة الحرب التي ارتكبها الجند والشرطة وقطعان المستوطنين. إحجام محكمة الجنايات الدولية عن التعليق في عهد كريم خان، دليل لا يحتاج إلى بيان، بعد أن حوربت فاتو بنسودا وانتهت خارج أسوار الهيئة التي أنشأت بهدف وضع لمسلسل الإفلات الدولي من العقاب. فاتو هي من عوقبت لتحيزها للمبدأ، وتجرئها على دولة الاحتلال وحليفها الأمريكي. 

التزام قطر بقضية شيرين من خلال ما خرج للعلن من تصريحات أميرها خلال جولته الأوروبية تعليقا وخطابات وبيانات مشتركة، وقرار شبكة الجزيرة الإعلامية بالتحرك الفعلي وتحويل القضية لأنظار محكمة الجنايات، نقطة ضوء في بحر من غياهب الجحود والنسيان. لكن التجربة أثبت أن الدفع باتجاه تصعيد ميداني أو حرب ستكشف عن بشاعات أفظع. نهج إسرائيلي ثابت لا ينتهي من جريمة حتى يرتكب أخرى، ومسيرة الأعلام تسخينات على الأبواب. 

قبل أربع سنوات بالضبط من اغتيال شيرين أبو عاقلة، أفرجت السلطات الإسرائيلية عن الجندي إيلور عزريا بعد قضائه تسعة أشهر فقط من عقوبة سجنية، حُكِم بها على إثر قتله للشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف برصاصة في رأسه بمدينة الخليل. كان عبد الفتاح جريحا ممددا على الأرض وتم تصوير الجريمة بالصوت والصورة، لتشكل يومها مادة خاما للشاشات وغرف الأخبار. العقوبة السجنية لم تتعد سنة ونصفا، وهو ما اعتبر وقتها تشجيعا للجنود على تنفيذ سياسة الإعدامات الميدانية بلا حساب.

اليوم، يرفض جيش الاحتلال التنازل وإجراء أي تحقيق، ولو صوري، على مرأى ومسمع العالمين. ومطالباتنا بالعدالة مجروحة، فلا فرق بين الجندي الصهيوني أو "الضابط أحمد" الذي بشره رئيسه أنه لن يحاكم بعد اليوم مهما نكل أو قتل من المتظاهرين، ومعهم فرق الاغتيال التي تجوب الأرض بحثا عن إسكات المعارضين.. وللأبد.


التعليقات (0)