كتاب عربي 21

سرفال والباشق وبرخان وتاكوبا.. المهم ألا نغادر إفريقيا!

طارق أوشن
1300x600
1300x600

الكولونيل كوتسي: مرحبا يا داني.

داني آرتشر: سيدي الكولونيل!

الكولونيل كوتسي: يبدو أن الثوار قد استردوا حقول الماس يا داني، وحكومة سيراليون تعاقدت معنا للذهاب هناك وإسقاط الثوار.

داني آرتشر: إذن أنت تبيع السلاح للثوار ثم تتعاقد مع الحكومة عندما يبدأون في استخدامه. رائع يا سيدي! أفترض أنك تنال حصة من التعدين.

الكولونيل كوتسي: نحن ننقذ الحكومة وعليهم أن يظهروا بعضا من عرفانهم بالجميل.

داني آرتشر: وأنت تزداد ثراء. أليس كذلك؟

وعندما أعلن داني آرتشر للكولونيل رغبته في مغادرة إفريقيا، جلس الأخير على الأرض وأخذ كمشة من التراب بين يديه.

الكولونيل كوتسي: داني.. أعطني يدك. هذه هي التربة الحمراء تلامس بشرتك. الـ (شونا) يقولون إن هذا اللون جاء من الدم الذي سال في الحرب على هذه الأرض. هنا وطنك.. أنت لن تغادر إفريقيا أبدا.

داني آرتشر جندي كان يعمل تحت إمرة رئيسه كوتسي في جيش مرتزقة صال وجال في مختلف حروب ونزاعات جنوب غرب القارة الإفريقية كما قدمهما فيلم (الماسة الدموية، 2006) للمخرج إدوارد زويك. آرتشر وكوتسي نموذجان مصغران لمرتزقة نالوا من القارة ما أرادوا بالسلاح وتحولوا بفضله إلى تجار ذهب وألماس ومعادن نفيسة يتم ضخها في التجارة الدولية عبر وسطاء أوروبيين وأمريكيين.

فرنسا، باعتبار تاريخها الاستعماري بالقارة الإفريقية، كان لها السبق في تبني سياسة الدفع بمرتزقة، مدعومين استخباراتيا ولوجستيا، لإعادة ترتيب الخرائط ودعم الانقلابات وتكريس الهيمنة الفرنسية على ثروات إفريقيا دون أن تتلطخ أيديها بشكل مباشر في النزاعات. لكن التدخل في تشكيل الحكومات والتلاعب السياسي والتجاري لضمان ولاء وتبعية القائمين على الحكم، لم يعد كافيا لضمان استمرارية استنزاف الثروات الطبيعية للقارة. كما أن تهافت كثير من القوى الدولية لتقاسم كعكة النفوذ في القارة السمراء، وظهور تنظيمات مسلحة جديدة، لم تعد تتخذ العرق مرجعا لها واستبدلت به الدين، أخرج الدولة الفرنسية من خلف الستار فدفعت بجيشها إلى القارة تحت ستار محاربة الإرهاب.

ربيع عام 2012، سقط شمال مالي، الذي تعتبره فرنسا منطقة نفوذ حيوي، في قبضة مجموعات مسلحة مختلفة قيل إن بعضها مرتبطة بتنظيم القاعدة وبعض آخر منشق عنها بالإضافة إلى الطوارق، فسارعت فرنسا إلى بدء عملية عسكرية هناك، دون انتظار تخويل من مجلس الأمن تحت ذريعة الاستجابة لطلب الحكومة المالية ومساعدتها في مواجهة المسلحين الإسلاميين، ومنع قيام كيان "إرهابي" في منطقة الساحل بما يشكل تهديدا للمنطقة والعالم. 

 

إفريقيا للأسف ستبقى للدول الاستعمارية مجرد منجم لاستنزاف الثروات وسوق للسلاح لإذكاء نار الصراعات. ومهما اختلفت التسميات من سرفال وباشق وبرخان وتاكوبا فالأكيد أنهم لن يغادروها.

 


وفي العام 2014 تحولت المهمة إلى تواجد يكاد يبدو دائما للقوات الفرنسية تحت مسمى عملية باراخان تعويضا لعمليتين سابقتين باسم الباشق وسرفال بكل من مالي وتشاد. 

باراخان عملية تستهدف إلى جانب الدولتين السابقتين دول الساحل الأخرى موريتانيا وبوركينافاسو والنيجر. الدول الخمسة تشكل منجما حقيقيا لا ينضب من الثروات الطبيعية بدءا بالبترول فاليورانيوم والذهب والماس، كما أنها تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية التي لا تزال تشكل مطمعا كبيرا للفرنسيين. الهدف المعلن كان القضاء على التنظيمات الإسلامية المسلحة ودرء الخطر الإرهابي من تهديد فرنسا ودول الجوار. 

سبع سنوات من "الحرب" أكدت أن باريس لم تتلق أي تهديد إرهابي حقيقي مصدره منطقة الساحل، بل صارت هدفا مفتوحا لتنظيمات وذئاب منفردة تستمد أفكارها وأوامرها من الداخل الفرنسي ومن باقي مناطق النزاع بالشرق الأوسط. كما أن النتيجة النهائية أن عنجهية القوات الفرنسية، التي صارت تقصف المدنيين وتقتل الأطفال والنساء دون رادع، وإصرارها على دعم ديكتاتوريات المنطقة وإنقاذها من السقوط كلما آن أوان قطفها، أتت بنتائج عكسية لخصها المغني المالي المعروف ساليف كيتا بالقول "إن ماكرون هو الذي يستخدم القتلة ضد الماليين". 

الأزمة الأمنية في المنطقة تتوسع في اتجاهات جديدة بدل أن تنحسر، وهو ما يعكس فشلا ذريعا في تحقيق الهدف المعلن. لكن من الغباء أيضا التسليم أن فرنسا تعتقد فعلا أن المواجهة العسكرية يمكنها دحر "الإرهابيين".

سعي فرنسا للإبقاء على نفسها "قوة عالمية" ولو برفع الحالة المعنوية للجيوش بعد الفشل السياسي والعسكري الذي واجهته في كثير من مناطق النزاع التي حاولت التدخل فيها في السنوات الأخيرة، وإحساسها المتعاظم بفقدان مناطق النفوذ التقليدية يجعل من بعض مناطق القارة الافريقية مجالا خصبا لاستعراض العضلات ولو أدى ذلك لمقتل ما لا يقل عن خمسين جنديا في مواجهة الأشباح.

يحكي داني آرتشر، في فيلم الماسة الدموية، عن تجربته في مختلف النزاعات والحروب التي خاضها بإفريقيا متحدثا إلى الصحفية مادي بوين.

داني آرتشر: لقد حاربنا جنبا إلى جنب مع السود. كان الكولونيل يخبرنا دوما أن لا وجود للتفرقة العنصرية في الخندق. لقد حاربنا سويا. معظم أهلنا البيض والسود لم يكونوا يعلمون أننا نحارب. منا نظن أننا نحارب الشيوعية. لكننا في النهاية علمنا أن الحرب كانت لأجل من ينال الغنيمة.. العاج، النفط، الذهب والماس.

 

عندما ظهرت في العام 2019 صور وفيديوهات تدعي إثبات ضلوع القوات الفرنسية في تهريب الذهب المالي، سارعت الأذرع الإعلامية لفرنسا، إلى المجاهدة في تفنيد تلك الصور دون قدرة على تفسير المفارقة وتكذيب حقيقة الأرقام.

 



الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك لم يجد حرجا من التصريح سنة 2008 بأنه "دون إفريقيا، سوف تنزلق فرنسا إلى مرتبة دول العالم الثالث"، وهو ما سبقه إليه سلفه فرانسوا ميتران منذ العام 1957، أي قبل توليه سدة الرئاسة بعقود، بالقول "دون إفريقيا، لن تملك فرنسا أي تاريخ في القرن الحادي والعشرين". لأجل هذا، لا يزال ساسة فرنسا على دعم الديكتاتوريات التي تحمي مصالح باريس مصرين. وكما قال الكولونيل كوتسي في المشهد الافتتاحي للمقال: نحن ننقذ الحكومة وعليهم أن يظهروا بعضا من عرفانهم بالجميل.

تشير التقارير السنوية إلى تواجد فرنسا ضمن الخمسة الأوائل عالميا في احتياطات الذهب وهي لا تملك منجما واحدا. أما مالي فتصنف ضمن الخمسة الأوائل إفريقيا في إنتاج المادة نفسها. وعندما ظهرت في العام 2019 صور وفيديوهات تدعي إثبات ضلوع القوات الفرنسية في تهريب الذهب المالي، سارعت الأذرع الإعلامية لفرنسا، إلى المجاهدة في تفنيد تلك الصور دون قدرة على تفسير المفارقة وتكذيب حقيقة الأرقام.

الفرنسيون لا يمكنهم السيطرة على موارد دول الساحل دون اختلاق الأزمات ودعم مختلف الفرقاء لضمان استمرار النزاعات. فهي في حالة السلام تسقط عن نفسها ورقة التوت التي تستر عورة إصرارها على الإبقاء على جنودها منتشرين ومتمركزين خارج البلاد. ولإسكات بعض الأصوات المعارضة بباريس، لا مفر من إخراج فزاعة الخطر الإرهابي الداهم على أبواب القارة العجوز.
 
وبقدر سهولة الاستمرار في نهب القارة، بجزرة الرضا الحكومي أو عصا دعم المتمردين والانقلابيين، يصعب الاستمرار في أكذوبة الاتكاء على الإرهاب وسيلة لإقناع الرأي العام، خصوصا مع توالي وصول جثامين الجنود الذين لا يعرف ذويهم ومواطنيهم سببا يحاربون من أجله غير ادعاءات قصر الإيليزيه وحكومة بلاد الأنوار.
  
لأجل ذلك، وضمانا لخروج آمن من مستنقع صار بعض الفرنسيين يشبهونه بالمستنقع الأفغاني الذي لم تخرج منه القوات الأمريكية إلا باتفاق سياسي مع طالبان، لم يجد ماكرون، وهو يتحدث إلى قمة دول الساحل وفرنسا، قبل أيام غير الدعوة إلى تقاسم الأعباء في الحرب ضد "الإرهاب الإسلاموي" بين الأوروبيين من خلال قوة جديدة أسماها "تاكوبا" ولم تحظ إلا بدعم دول الهامش الأوروبي. الكل يعلم أن فرنسا تسعى فقط للحصول على الغطاء الدولي لـ"جرائمها" مخافة فقدان ما تبقى لها من نفوذ إفريقي.

ماكرون المسكون بـ"عدم التراجع" عن غيه كلما وجد نفسه أمام الحائط، أكد للمجتمعين أن فرنسا مستمرة في مهمتها بالرغم من الأصوات التي تعالت أخيرا لطرح التساؤل عن الجدوى وراء رفض بلادهم، التي تواجه مهمة مستحيلة بمالي، محاولات بدء التفاوض مع الجماعات الجهادية والقبلية المتمردة إيذانا بإنهاء الصراع. ينسى هؤلاء أن إيمانويل ماكرون صار الصديق الصدوق لعبد الفتاح السيسي وملهمه في الحرب على ما يسميه الإثنان "الإرهاب الإسلامي". 

فيلم "السرب" في نسخته الفرنسية في الطريق، فوزيرة الجيوش الفرنسية لا تكف عن الحديث عن نجاح باراخان.

سلومون فاندي، فلاح بسيط في فيلم الماسة الدموية كل همه كان تعليم ابنه ديا، قبل أن تهاجم قوات المتمردين قريته فتخطفه للعمل في مناجم الماس، وتجند ابنه للمشاركة في الحرب ضد القوات النظامية.

يقول سلومون فاندي: لقد أخبرني جدي الكثير من القصص عن الحرب وكيف حارب المندي قبائل التمني، أو كيف كانت قبيلتان تتحاربان إن اختطف أحدهم امرأة. أفهم أن الرجال البيض يريدون ماسنا. لكن كيف يفعل شعبنا هذا بعضه ببعض... عندما يكبر ابني ويسود السلام سيصبح هذا المكان جنة.

إفريقيا للأسف ستبقى للدول الاستعمارية مجرد منجم لاستنزاف الثروات وسوق للسلاح لإذكاء نار الصراعات. ومهما اختلفت التسميات من سرفال وباشق وبرخان وتاكوبا فالأكيد أنهم لن يغادروها.


التعليقات (2)
برهان
الأحد، 21-02-2021 11:36 ص
كل ما يمكرونه للأبرياء يأكلهم شيئا فشيئا من الداخل كذلك ...
حضارة اللصوص
السبت، 20-02-2021 05:17 م
عندما قال الفرنسي ألان شوي " Alain chouet" الذي كان يقود جهاز المخابرات الفرنسية يوما أن القاعدة" خرافة " أصبح هذا المشؤوم في خبر كان، علينا نحن المسلمين فضح جرائم الغرب لا أحد يفغله بالنيابة