أخبار ثقافية

صفوت الشريف.. الرجل الذي "وحّد المصريين"

أدار صفوت الشريف ملف الإعلام في مصر لسنوات طويلة- تويتر
أدار صفوت الشريف ملف الإعلام في مصر لسنوات طويلة- تويتر

في كتابه "العقول المتهورة: المثقفون في السياسة"، يرصد مارك ليلا ظاهرة تأييد المثقفين لسلطات استبدادية ذات سمعة مشينة وتاريخ إجرامي ذائع. وفي تحليل الباحثة رباب كمال لعمل الأكاديمي مارك ليلا، نكتشف نماذج فادحة لمثقفين ومفكرين قرروا التماهي مع سلطات ظاهرة الانحطاط كالفاشية والنازية.

أطلق ليلا على هؤلاء المفكرين اسم "أبناء هيدجر"، وهو الفيلسوف الألماني، الذي تعاون مع الحزب النازي وبرّر سياساته التي لا يمكن تبريرها، وذلك حين كان رئيسا لجامعة فرايبورج. وفي تحليلها للكتاب ترصد رباب كمال اهتمام الكتاب بتحليل الخلفيات الثقافية والاجتماعية التي ساهمت في خلق المناخ الملوث بما يكفي لدفع مفكر كبير إلى تأييد رجل مثل هتلر. 

والحق أن هذا التحليل ذكرني بأنظمتنا العربية وكيف دأبت على تكييف أدوات الثقافة لتدجين المثقفين وتحويلهم إلى أدوات سياسية تسهم في تطويع المجتمع لهذه السلطة القمعية. من دواعي ذلك مخايلة السلطة بأنها تمثل مشروعا حداثيا أو تقدميا يواجه شبحا يخيف المثقفين.

تقوم هذه الفرضية على تخويف المجتمع من حالة فوضى "مفترضة"، سيواجهها المجتمع لو اهتزت هذه السلطة القائمة، فيكون ذلك مبررا لاصطناع السلطة بعض أدوات تدجين المثقفين وحشدهم تحت مظلتها. ولعل صفوت الشريف كان إحدى هذه الأدوات في مجالي الثقافة والإعلام.

لم يتورع الشريف عن التلويح بما تلوح به السلطات القمعية. يمكننا أن نقرأ مانشيتات قديمة مثل: "صفوت الشريف لـ «الدستور»: «الإخوان» يريدون اختطاف مصر". ومنذ بدأ عمله رئيسا لاتحاد الإذاعة والتلفزيون ثم وزيرا للإعلام (من فبراير 1981 حتى يوليو 2004)، لم يتوقف عن حشد الإعلام للترويج لمقولات السلطة، وترديد اتهامات حفظناها جميعا من مثل "قلب نظام الحكم، تكدير السلم العام..." وهكذا.

على أن فرض مقولات الدولة لم يكن السلاح الوحيد لصفوت الشريف، فقد حرص على إبعاد أي صوت "مختلف"، ولو لم يكن معارضا سياسيا صريحا لنظام مبارك، وربما يجدر بنا هنا تأمل حالة لافتة لمثقف وإعلامي مصري شاء القدر أن يموت في اليوم ذاته الذي مات فيه صفوت الشريف، وهو شفيع شلبي.

كان شلبي يمثل حالة من التمرد على ثوابت العمل الإعلامي والثقافي في مصر. فقد كان أول مذيع في التلفزيون المصري يقرأ نشرة الأخبار بقميص كاجوال مفتوح وشعر منكوش، وكان يذهب إلى مبنى التلفزيون راكبا دراجته بصندل عادي. كان مؤمنا بأهمية تماهي الإعلام مع رجل الشارع وهمومه، لا السلطة والمقولات التي تروجها.

كان لشفيع رؤية ثورية للعمل الإعلامي. لم يتقاض مالا من التلفزيون المصري، بينما قدم برامج مغايرة تماما لما يقدمه التلفزيون المصري في السبعينيات. مثلا: وقف في شارع المعز، حيث تظهر مياه المجاري وعربات "الكارو"، وقدم حلقة من برنامجه "الشارع المصري"، الذي صدم كثيرين ممن اعتادوا على المذيعين المتأنقين، المرتاحين في نوادي علية القوم، ليحاوروا مسؤولا لا يتوقف عن الكذب. 

لذلك، منعه صفوت الشريف من الظهور على التلفزيون المصري منذ اللحظة التي اختير فيها وزيرا للإعلام! ولم يشفع لشفيع أنه لم يكن متورطا في السياسة على نحو صريح قد يثير قلق المسؤولين المداهنين للسلطة؛ يكفي مقدار واضح من المهنية والصدق والحرص على ما قضايا المواطن البسيط ليطيح صفوت بشفيع مثلما هو متواتر من شهادات أرملة شفيع وأصدقائه.

لهذه الأسباب كلها، نلاحظ منذ سنوات كيف يختلف المصريون على ساحات السوشيال ميديا كلما مات سياسي معروف؛ فريق يرى أن الراحل مهما فعل، له ما له وعليه ما عليه، والموت له حرمته... بما يتضمنه ذلك من التحرج من سب ميت يقف الآن بين يدي الرحمن، وفريق آخر يرى أن كل شخصية عامة شاركت في صنع مشهد سياسي ما، يجب أن تتحمل مسؤوليتها عنه ولو بعد موتها، لأن الجرائم التي تهدم حياة الشعوب لا ينبغي التسامح مع مرتكبيها.

دائما ما نلاحظ الفريقين على ساحات السوشيال ميديا، مهما كان الميت طاغية، ظالما، مجرما بحكم محكمة مصرية كحسني مبارك. لكن يبدو أن صفوت الشريف وزير إعلام مبارك وأحد رموز عصره، وحّد المصريين على غير العادة.

لا يسع المتابع للسوشيال ميديا إلا أن يندهش من الحشد الكاره لصفوت، باستثناء أمثال الفنان المدهش حسن يوسف، الذي أشاد بدور الشريف في إنجاز مسلسل إمام الدعاة، وهو مسلسل لعب يوسف دور بطولته، ولم ينتبه الرجل إلى مقدار التناقض في الإشادة بإنتاج مسلسل ديني بدعم من رجل يتهم بمارسة أنواع شتى من الجرائم، واعترف بها صراحة في نص تحقيقات مكتب التحقيق والادعاء بمحكمة الثورة، كما أثبتتها شهادة الراحلة سعاد حسني في التحقيقات ذاتها.. ثم يرى حسن يوسف إنجازا في دعم الشريف لمسلسل ديني!


كما ترحمت عليه إلهام شاهين مذكّرةً جمهورها بأنها قدمت أفضل أعمالها الفنية في عهده!

لدى الطغاة دائما نوع من التأثير على شريحة من المسحوقين نفسيا، ممن يعبدون جلاديهم لأسباب نفسية معقدة، ليس هذا مقامها، لكن اللافت حقا أن بعض الطواغيت احتفظوا بنسبة ضئيلة من مسحوقي شعوبهم، أما صفوت الشريف، ففاز بالكراهية صافية، وافرة، بلا حدود.

بالطبع لعب الشريف أدوارا كثيرة، ارتبطت بالعمل المخابراتي في شبابه ثم الترقي في مؤسسات الدولة وتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي، وتولي وزارة الإعلام ثم رئاسة مجلس الشورى المصري، وغير ذلك مما يضيق عنه موضوع هذا المقال، الذي يكتفي بتأمل علاقة ضابط المخابرات بالفن المصري في ذلك الزمن؛ زمن عبد الناصر، الرجل الذي عسكر كل شيء حتى أفسده.

بعد نكسة 67 أمر عبد الناصر بسجن رجله السفاح صلاح نصر، فحوكم هو ورجاله فيما عرف بقضية انحراف المخابرات المصرية، وذلك سنة 1968. أسفرت القضية عن أحكام مشددة بسجن نصر وصل أحدها إلى 15 عاما، ثم أفرج عنه السادات بمناسبة احتفالات نصر أكتوبر سنة 1974، وكان من نتائج تلك المحاكمة فصل صفوت الشريف، لكنه سرعان ما عاد على واجهة الحياة السياسية بتأسيسه الحزب الوطني سنة 1977.

ما يهمنا هنا هو تاريخ الضابط بالمخابرات المصرية صفوت الشريف، وكانت شهرته وقتها الرائد موافي، ورؤيته للفن وكيفية تعامله مع الفنانين، وذلك خلال مرحلة باكرة من شبابه قبل أن يمر الزمن ويؤسس مدينة الإنتاج الإعلامي ويتولى وزارة الإعلام ذاتها. 

 

ومع أن السوشيال ميديا في مصر اشتعلت منذ وفاة صفوت بتصريحات إيهاب خورشيد شقيق الفنان الراحل عمر خورشيد الذي رحل إثر حادث مروري غامض، لا وثائق رسمية تربطه بصفوت الشريف حتى الآن، لكن بدا واضحا أن تصريحات إيهاب بتلقي العزاء في وفاة شقيقه الآن، بدا واضحا أنها لقيت صدى هائلا لدى المصريين.


لم تظهر أوراق التحقيقات ولا وثائق القضية إلا بعد ثورة يناير، التي ربما كان من إنجازاتها فضح هذه الجوانب المظلمة لدولة يوليو، حيث السلطة قائمة على إطلاق أيدي الضباط ليفعلوا ما شاؤوا بلا رقيب، ولا حقوق للمواطن المصري، إذا سقط بين أنيابهم.

نشرت صحيفة الوفد المصرية جزءا من محاضر التحقيق التي تم فيها استجواب صفوت الشريف، كما نشرت مواقع أخرى نص محاضر التحقيق كاملة، وفيها عدة نقاط مذهلة.

أولها أن صفوت الشريف يعترف بأنه خطط وشارك في استدراج فنانات مصريات، بقصد الإيقاع بهن وتوريطهن في فضائح أخلاقية، وبعد ابتزازهن بها، يتم تهديدهن بفضحهن إن لم يتعاونّ مع جهاز المخابرات. سميت هذه العمليات بعمليات "الكنترول"، لأنهم يسيطرون عبرها على الفنانة المستهدفة. يقول الشريف ضمن محضر التحقيق:

 

"س: وما المقصود بعمليات الكنترول؟

 

جـ: عمليات الكنترول والتي كان يطلق عليها أيضاً العمليات الخاصة أو بعبارة أدق التي كانت جزءاً من العمليات الخاصة يقصد بها الحصول على صور أو أفلام تثبت وجود علاقة جنسية مشينة للشخص المطلوب السيطرة عليه حتى يمكن استغلال هذا الأمر في أعمال المخابرات في الضغط على هذا الشخص علشان أشغله معايا أو تجنيده للعمل لحساب المخابرات..".

 

ويحكي الشريف عن كيفية استدراج سعاد حسني عن طريق ضابط متنكر ادعى أنه فرنسي، وأشرف الشريف على تصويرهما، لكنه يحكي عن مفاجأة قطعت سير الأحداث؛ فقد حضر صلاح نصر بنفسه إلى الشقة، ليأمر رجاله باقتحام الغرفة على سعاد حسني وحبيبها المزيف، ويصف تفاصيل الفضيحة وانهيار سعاد حسني بعد تهديدها بفضحها وإيهامها بأنها متورطة مع جاسوس فرنسي، وسوف تحاكم على ذلك إن لم تنفذ الأوامر!

على أن أقوال سعاد حسني في التحقيقات تضيف أبعادا أخرى للموضوع، فالضابط المتنكر ادعى أنه منتج وطلب لقاءها للاتفاق على عمل، ثم خدرها ولم تشعر بنفسها إلا عند القبض عليها متلبسةً. بالتأكيد لا يهمني هنا إدانة سعاد حسني، ولا يعنيني تقييم روايتها، بل يعنيني هنا تصور صفوت الشريف عن نفسه وعمله كضابط مخابرات، يمكنه تدمير مستقبل أي إنسان، فقط ليصبح عبدا مطيعا له ولرؤسائه!

يقول صفوت الشريف ضمن إجابته:


"وأنا تقديري الشخصي لهذه العملية الخاصة بسعاد حسني أنه لم يكن ثمة ما يدعو لاقتحام الغرفة عليها أثناء وجودها مع ممدوح والاكتفاء بمواجهتها بالصور التي حصلنا عليها من عملية الكنترول خاصة وأن الاقتحام تم أثناء ممارسة أوضاع جنسية..." والحق أنني كنت أنوي نقل الفقرة كاملة هنا لكنني حقا لم أجرؤ على ذلك لوضاعة محتواها.

الذي يهمني الآن أن هذا الرجل هو الذي أدار ملف الإعلام في مصر عبر عشرات السنين!

التعليقات (2)
sandokan
الخميس، 21-01-2021 01:04 م
نحن في زمن الفتنة حين يختلط الحق ب الباطل و حين يطفح الجدال على أسماعنا بلا فائدة ، فعليك ب كتاب الله و اغلق عليك بابك . نسأل الله العافية الإعلام في خبر كان .. هشام عبد الحميد يقول : ^^ أنا لدي حلم ^^ هي الكلمة الشهيرة التي ذكرها المناضل الأسود القس مارتن لوثر كينج، في خطبته الشهيرة ضد قوى الظلم والعنصرية والقمع والقهر والتمييز، وكذلك جون لينون، مغني البيتلز الشهير في أغنيته الشهيرة. الكلمة ملخص معناها: تخيل عالما بلا صراعات، بلا حروب، بلا عنصرية بلا قهر ولا قمع.. عالما تسوده والمحبة والسلام والحرية والإخاء والمساواة. وليسمح لي القارئ بأن أستعير هذه الجملة؛ لكي أحلم أنا الآخر، ونحن على مشارف نهايات عام، وبداية عام جديد. أحلم بمصرنا الحبيبة أن تسترد عافيتها.. أحلم بأن تعود القوى الناعمة من جديد؛ لدورها الحقيقي الذي تراجعت عنه لسنوات.. أحلم بنهضة مسرحية، تعيد لأذهاننا نشاط المسرح في الستينيات.. أحلم بطموح سينمائي حقيقي؛ لا مجرد أفلام من هنا وهناك، ولا تمثل تياراً أو اتجاها يعكس هم مصر والفنان المصري الحقيقي.. أحلم بعودة ميثاق الإعلام الذي يحترم أدمية وعقل المشاهد، وأن تعود للشاشة المصرية هيبتها، وأن ينفض مبنى ماسبيرو غبار سنوات جعلت منه ولأسباب كثيرة غير فاعل، أو مواكب لأهم المتغيرات السياسية والإجتماعية والثقافية في العالم، وأن يعود كسابق عهده قوياً شامخاً كما بدأ واستمر في فترته الذهبية.. أحلم بنقابات مهنية تمارس حقها والمهمات المنوط بها، في الدفاع عن حقوق أعضائها، وألا يقتصر دورها على مجرد نشاط خدمي.. أحلم بتفعيل آليات ديمقراطية حقيقية، تساعد المجتمع على الحوار، وتقبل الاختلاف في وجهات النظر، واحترام الآخر أي ما كان هذا الآخر. أحلم بنظام تعليمي متطور، يفجر طاقات الطلاب، ويكشف عن مناطق إبداعهم وتفوقهم.. أحلم بصحافة قوية جريئة.. أحلم باقتصاد يتعافى، وتنمية بشرية فاعلة في المجتمع؛ لا مجرد أرقام ومصطلحات داخل الندوات والمؤتمرات. أحلم بالكثير والكثير لبلادي، وأرجو أن تكون السنة الجديدة عنوانها الحق.. الخير.. الجمال.
ابوعمر
الخميس، 21-01-2021 08:22 ص
رجل...أم قواد...أعزكم الله...