صحافة دولية

MEE: هكذا محت السعودية تاريخها الثقافي الثري

جوانب مثيرة وثرية، ولكنها مكتومة ومقيدة، وربما مدمَّرة، لتاريخ السعودية الثقافي الثري، بما في ذلك إرث مكة المكرمة- واس
جوانب مثيرة وثرية، ولكنها مكتومة ومقيدة، وربما مدمَّرة، لتاريخ السعودية الثقافي الثري، بما في ذلك إرث مكة المكرمة- واس

نشرت صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية مقالا للكاتبة والمؤرخة "روزي بشير"، تحدثت فيه عن خلاصة عمل بحثي شمل زيارات متكررة إلى السعودية.

 

وخلصت "بشير" إلى عمل الدولة السعودية "بكل جد" لتنفض عن نفسها الموروث التاريخي الذي لا ينسجم مع الصورة التي تريد رسمها لذاتها.

 

وتحدثت بشير عن جوانب مثيرة وثرية، ولكنها مكتومة ومقيدة، وربما مدمَّرة، لتاريخ السعودية الثقافي الثري، بما في ذلك إرث مكة المكرمة ومنطقة الحجاز التي اجتذبت على مدار قرون ثقافات من شتى بقاع العالم.

 

ومؤخرا، أصدرت الكاتبة مؤلفا بعنوان: "حروب الأرشيف: سياسة التأريخ في المملكة العربية السعودية"، استعرضت في مقالها أبرز ما ورد فيه.

 

وتاليا نص المقال كاملا كما ترجمته "عربي21":

 


بدأت في أواخر عام 2009 بالسفر بشكل منتظم من الرياض إلى مكة. كنت أتواجد في المملكة العربية السعودية لإجراء بحث في التاريخ الموثق أرشيفياً وإثنوغرافياً وشفهياً حول إنتاج التاريخ والأماكن التذكارية في المملكة العربية السعودية خلال القرن العشرين.
 
وإلى جانب بحثي كنت أوثق بصرياً التحولات المكانية التي كانت تجري آنذاك في الوسط من مدينة مكة. تنقلت وبيدي آلة التصوير الصغيرة من حي إلى آخر، ابتداءً من المناطق المجاورة مباشرة للمسجد الحرام وانتهاءً بضواحيها على بعد عدة كيلومترات من المركز.
 
على مدى الأعوام الثلاثة التالية، ومع اكتسابي معرفة جيدة بالمدينة العامرة بالناس، غدوت شغوفة بعبق التاريخ في أحيائها المتنوعة، وبسكانها الذين تعددت لغاتهم وبعمارتها التي تميزها عن سواها.
 
وفي إحدى جولات التصوير التي كنت أقوم بها مررت بلوحة لمدرسة كنت قد صادفتها قبل سنوات، وبشكل عابر فقط، اسمها المدرسة الصولتية. حينها لم يكن قد كتب الكثير عن المدرسة، وخاصة في الصحافة العربية. ما لبثت أن عرفت بأنها تأسست على يدي رجل من الهند، كان عالماً في الدين ومناضلاً ضد الاستعمار، اسمه رحمة الله كيرناوي. وذلك أن الكيرناوي اضطر إلى اللجوء إلى مكة بعد أن دعا في عام 1857 إلى الخروج على الحكم البريطاني في الهند. وفي مكة احتك بالكثير من الناس وأثر في جيل كامل من المقيمين في المدينة اجتماعياً وسياسياً.
 
أسهم البحث الذي أجري فيما بعد في تدوين وتوثيق تواريخ منسية، أو ربما مكتومة، لنشطاء ومفكرين من أصول غير عربية وردوا من جنوب آسيا ومن أندونيسيا وأثروا في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية في حقبة أواخر العهد العثماني ومطلع العهد السعودي في مكة.
 
لقد ساهم خريجو المدرسة الصولتية وغيرها من المدارس التي أسسها مفكرون وردوا على مكة من آسيا وأفريقيا في تشكيل الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية في شبه جزيرة العرب وفي غيرها من مناطق العالم.
 
كاقتصاديين ونقاد في الأدب شارك بعض هؤلاء الخريجين في الحوار مع علماء النهضة العربية ودخلوا معهم في مناظرات، ثم فيما بعد انخرطوا في مهام بناء الدولة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وبفضل انحدارهم من أماكن مختلفة من العالم، شاركوا كذلك في رسم معالم الوهابية كما هي مألوفة لدينا اليوم.
 
ومنهم من أسس عدداً من أبرز وأشهر المدارس والصحف والأحزاب السياسية في شبه الجزيرة في مطلع القرن العشرين وشارك في الحياة الاجتماعية والسياسية هناك لعدة عقود. ومن بين من يعتبرون تلاميذ للكيرناوي الشريف الحسين بن علي ومفتي مكة الحنفي الشيخ عبد الله سراج، وكلاهما ينسب إليهما إطلاق الثورة العربية ضد العثمانيين في عام 1916.
 
ومع أن هذه التواريخ المنوعة بدأت تطفو مؤخراً على السطح، إلا أنها أوهن من أن تمثل ثلمة في الرواية التاريخية الرسمية (ذات الطابع القومي) لشبه الجزيرة، ناهيك عن الشرق الأوسط الحديث.

 

اقرأ أيضا: موقع إيطالي: هكذا أضعف محمد بن سلمان المملكة السعودية
 
مستقبل محتمل
 
يبدأ كتابي "حروب الأرشيف: سياسة التأريخ في المملكة العربية السعودية" بمراجعة تاريخية لجانب من الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في مكة أواخر العهد العثماني، وذلك بغية رسم ملامح مستقبل محتمل كان يمكن أن يتحقق ولكن لم يكتب له ذلك. ومع ذلك، فقد ترك ذلك التاريخ بصماته على الكثير من مناحي الحياة في زمننا المعاصر.
 
كان لا يزال بإمكان السائر في مكة حتى أواخر العشرية الأولى من الألفية الحالية أن يرى آثاراً باهتة لماضي ذلك المستقبل الذي كان محتملاً. ولكن، لا يكاد يبقى من هذه الآثار في يومنا هذا شيء، فقد محيت جميعاً. يعرض كتاب "حروب الأرشيف" للأساليب المنظمة التي انتهجتها الدولة العربية السعودية، والتي تأسست عام 1932، لإغلاق الباب في مناهج التعليم والمتاحف والأرشيف على الرواية التي لا تؤيدها الدولة لتاريخ هذه المنطقة.
 
يمضي الكتاب ليشرح كيف اكتسب هذا الإغلاق في تسعينيات القرن الماضي أهمية سياسية ومادية جديدة. فبعد حرب الخليج في 1990-1991، غدا التاريخ حلبة للصراع بين المزاعم الثقافية والسياسية والاقتصادية المتنافسة، سواء داخل النخب الحاكمة أو بينها وبين عموم الناس في المملكة.
 
ثم بعد الحرب، ذهب علية القوم في رأس هرم السلطة، على الرغم مما بينهم من تباينات، إلى أبعد مدى في سبيل إنتاج وأرشفة وتخليد واستغلال سردية أكثر علمانية لتاريخ آل سعود بعد أن أخضعوها للمراجعة والتنقيح.
 
وأوضح ما يكون ذلك في الرياض، حيث عملت الدولة جاهدة على التأسيس لصناعة تراثية كلفت عدة مليارات من الدولارات، واشتملت على المتاحف، ومراكز الأرشفة والمواقع التاريخية.
 
كما ركزت خطة ما بعد الحرب على التدمير الفعال، وكذلك الإهمال المتعمد، لمواقع وأماكن تاريخية بعينها نظراً لأنها تناقض الرواية الرسمية لتاريخ المملكة العربية السعودية. وهذه كانت في مجملها خارج العاصمة، وبشكل أساسي، وإن لم يكن استثنائياً، داخل مكة. لقد كان مسح الوقائع التاريخية المنوعة والمترابطة في شبه جزيرة العرب جزءاً لا يتجزأ من الإدارة الثقافية للحيز الحضري. ولقد وثقت بصرياً خلال زياراتي بعضاً من التدمير الشامل الذي تعرض له قلب مدينة مكة.
 
هدم متسارع
 
شهدت العشرية الأولى من الألفية الحالية هدماً متسارعاً للمواقع المقدسة والتاريخية في قلب مكة واستبدالاً لتضاريسها التي تعود إلى ما يزيد عن ألف عام بناطحات سحاب مهيمنة من الفولاذ والزجاج. وبنهاية تلك العشرية كان وسط البلدة أشبه بموقع بناء متواصل.
 
كانت العشرات من المباني ذات الاستخدامات المتعددة قيد الإنشاء في محيط المسجد، وحلت بالمكان حالة من الفوضى الحضرية والبيئية. كادت الرافعات تسد الأفق في سماء مهد الإسلام بينما أطبق الضباب الدخاني بيديه على المسجد الحرام الذي يغشاه ملايين الحجاج المسلمين كل عام.
 
غدت مواقع الإنشاء ومعدات الحفر الثقيلة جزءاً من المشهد العام للمدينة، وهي ذاتها تحدد للحجاج الممرات الضيقة التي بات عليهم أن يسلكوها، كما لو كانت أحجية معقدة، يزدحم فيها المشاة مع العربات والحافلات، حتى صار المرور اختباراً لقدرة المرء على ضبط أعصابه (وعلى التمسك بمكارم الأخلاق). في هذه الأماكن يستحيل أن تجد مكاناً تركن فيه سيارتك، ناهيك عما ابتليت به من تلوث وضجيج لا يطاق.
 
كان مشروع وقف الملك عبد العزيز، المطل على المسجد الحرام، ما يزال قيد الإنشاء، وبدا واضحاً أنه ببرج الساعة المقام في وسطه يحجب الشمس من جهة جنوب الغرب عن المسجد فلا تصل أشعتها إليها.
 
وفي الجانب الجنوبي تقبع حفرة عميقة تمتد على مساحة تبلغ ثلاثة كيلومترات مربعة، إنها الموقع الذي سيقام فيه مشروع الشامية. وهذا بالضبط هو الموقع الذي بنيت فيه لأول مرة المدرسة الصولتية الأصلية.
 
إلى جانب مشروع جبل عمر، والذي كان قيد الإنشاء إلى الغرب من المسجد، اكتسبت هذه المشاريع الضخمة أسماءها من الأحياء التاريخية التي أقيمت على أنقاضها، والتي كانت منذ العهد العثماني موطناً لبعض أهم المدارس والمعالم الثقافية والسياسية في المنطقة.

 

اقرأ أيضا: تعرف إلى هيئة البيعة السعودية.. 3 أعضاء رفضوا ابن سلمان
 
إزاحة بالإكراه
 
كما تقام هذه المشاريع الإنشائية الضخمة على أنقاض بيوت ومحلات كان يقطنها أو يعمل فيها عشرات الآلاف من سكان مكة، من مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، الذين أجبروا في سنوات ما بعد الحرب على إخلاء بيوتهم والمغادرة. لقد مُنح هؤلاء تعويضات زهيدة مقابل النزوح، ولكنهم تركوا بلا سند قانوني يركنون إليه.
 
بعض هؤلاء أعيد إسكانهم في مستوطنات جديدة أقيمت في الأطراف القاصية من المدينة، حتى بات يشق عليهم التوجه إلى وسط مكة للزيارة بشكل منتظم. وبعضهم انتهى بهم المطاف في عشوائيات على بعد حوالي كيلومتر واحد من المسجد الحرام، وسط غابة من ناطحات السحاب. خلف الواجهة اللامعة والوعود المقطوعة تعيش مدينة نشطة ذات تكوين حضري بالغ التنوع، إلا أنها مهددة بالاقتلاع من جذورها وتقطيع أوصالها.
 
ولذلك لم يكن مستغرباً في عام 2010 – بعد أن أزيلت معظم الأحياء في وسط المدينة – أن يُخضع أمير مكة الأمير خالد بن فيصل المدينة إلى عملية تعريب، حيث ينزع من جميع الشوارع والمباني ما كان لها من أسماء غير عربية.
 
تهدد ملامح مكة غير العربية (وكذلك غير السعودية) الحكام السعوديين، فعمدوا إلى شطبها بالتوازي مع تدمير الحياة المادية للمدينة وما يدل على ما لها من ماض منوع وتاريخ أممي، سواء كان دينياً أم علمانياً.
 
فهذه معاً تقف بالمرصاد لمزاعم آل سعود التاريخية، وهي المزاعم التي تبرر غزو العائلة السعودية لمختلف أرجاء شبه الجزيرة العربية بحجة أن العثمانيين وكذلك القوى المحلية فشلت في تحديث شبه الجزيرة وفي إنقاذها من "عصر الجاهلية" التي كانت غارقة فيه بزعمهم.
 
أركان الدولة الحديثة
 
تناقض تلك الجهود المبذولة في هدم التواريخ المتعددة لشبه الجزيرة بشكل صارخ العمليات التي تنفذ بدقة بالغة لإنتاج وحفظ تاريخ وإرث آل سعود في مدينة الرياض. ومع ذلك، وكما أشرح في كتابي، ما هذه الأشكال اليومية من العنف البيروقراطي سوى أركان الدولة الحديثة وما تدعيه لنفسها من سيادة.
 
يتيح لنا التأمل في ذلك إدراك التحالفات المتقلبة والتناقضات ما بين أعضاء النخبة الحاكمة، وما لا يحصى من المعارك التي يخوضونها، والطرق التي من خلالها يقاوم المواطنون السعوديون، أو يجدون أنفسهم رغماً عنهم في خضم هذه الصراعات، بتكلفة مرتفعة جداً.
 
مثلها مثل جميع الدول الحديثة، تبذل المملكة العربية السعودية جهوداً كبيرة للتخلص من التواريخ التي لا تنسجم مع الصورة القومية التي ترغب في رسمها لنفسها، بل هي تتصدر الآخرين في ذلك. وما من شك في أن التركيز على سياق هذه الممارسات يسلط الضوء على تشكل الدولة وعلى القوى المتنافسة في القلب منها.
 
لا يمكننا أن نفهم بشكل كامل صناعة التاريخ وإقامة الدولة في المملكة العربية السعودية – ناهيك عن الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في شبه الجزيرة – دون إدراك الطرق الشتى التي تم من خلالها طمس التواريخ ومن ثم إعادة تغليفها وإنتاجها خدمة للدولة الحديثة.

التعليقات (0)