مقالات مختارة

حين يتباكى ماكرون على الإسلام!

محمد بوالروايح
1300x600
1300x600

لم يكن إيمانويل ماكرون قبل اعتلائه كرسي الإليزيه شيئا مذكورا في ميزان السياسة، بل كان شخصية مغمورة على خلاف من سبقوه من رؤساء فرنسا المخضرمين الذين عايشوا الجمهورية الخامسة التي أسسها شارل ديغول، واتخذوها فيما بعد مرجعية لهم في العمل السياسي.لا تختلف تجربة ماكرون السياسية القصيرة التي تقترب من العدمية عن تجربة سلفيه فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي، فهؤلاء مع مراعاة الفارق الزمني بينهم ينتمون إلى جيل سياسي متأخر مقارنة بسابقيهم.

لكن ما يميز ماكرون هو قدرته على الظهور والبروز على الساحة السياسية سريعا، بفضل الشعبية العريضة التي اكتسبها بعد تأسيسه لحزب “الجمهورية إلى الأمام”، الذي مكّنه من الارتقاء من القاعدة إلى القمة، من خريج المدرسة الوطنية للإدارة إلى رجل الإليزيه الأول الذي يتطلع إلى عهدة رئاسية ثانية، ليست مستبعدة بحسب استطلاعات الرأي، ولو أن بعض مناوئيه يرونها بعيدة في ظل الأزمات التي واجهها منذ البدايات الأولى لحكمه، والتي اشتدَّت بعد اندلاع ما يسمى بانتفاضة أصحاب “السترات الصفراء”.

لقد مكن حزب “الجمهورية إلى الأمام” حديث النشأة ماكرون حديث العهد بالسياسة من الهيمنة على المشهد السياسي الفرنسي، ويرجع المحللون ذلك إلى أربعة أسباب رئيسية: أولها إعلان ماكرون في برنامجه الانتخابي القطيعة مع تقاليد العمل السياسي السابقة، التي اعتبرها متجاوزة وغير صالحة لقيادة فرنسا في الألفية الثالثة، وثانيها إعلانه ما يمكن تسميته “الوسطية السياسية” التي لا تدور في فلك اليمين ولا اليسار، وثالثها اعتماده على الفئة الشبابية التي لها بالتأكيد توجهات وقناعات بعيدة كل البعد عما كان متداولا من قبل الحرس السياسي القديم، ورابعها طبيعة الفكر السياسي الانفتاحي لماكرون، وخاصة على الثقافات والقناعات الدينية للجاليات، الذي مكّنه من كسب ثقة هذه الأخيرة، التي كان لها دور بارز في فوزه في الانتخابات الرئاسية.

لم يكن تصويت الجاليات الإسلامية على وجه الخصوص لصالح ماكرون في انتخابات الرئاسة مبنيا على أسس إيديولوجية، بل على أساس المواطنة ومبدأ احترام قيم الجمهورية التي منها احترام ثقافة الآخر وعقيدة الآخر، وهو ما التزم ماكرون بتحقيقه بحذافيره من أجل الحفاظ –كما قال- على النسيج المجتمعي وعلى الطابع الجمهوري والديمقراطي لفرنسا، الذي وضعته الثورة الفرنسية وسار على منواله شارل ديغول ومن جاء بعده من القادة الجمهوريين الذين اتخذ منهم ماكرون قدوة تاريخية، مع اختلافه معهم في وسائل تحقيق القيم الجمهورية بانتهاج وسيلة التغيير والتجديد السياسي.

إن معرفة الخلفية السياسية لماكرون مهمة لمعرفة موقفه من الإسلام الذي عبَّر عنه في مناسبات كثيرة، آخرها تصريحه المثير للجدل بأن “الإسلام يواجه اليوم أزمة في كل العالم؟!” و”على فرنسا مواجهة الأصولية”، فهذا التصريح هو امتداد لتصريحات سابقة لماكرون حول ما سماه “الإسلام السياسي”، الذي أكد بأنه “لا مكان له في فرنسا”، وهو امتدادٌ أيضا لمقاربته السياسية القائمة على رفض الوصل بين الإسلام والإرهاب.

يجب ألا نتعامل مع تصريحات ماكرون بسطحية ظاهرة أو سذاجة سياسية أو أن نعتقد أنها جاءت عفوية، فهذه التصريحات إنما هي ترجمة للتحركات السياسية التي يقوم بها ماكرون في المنطقة العربية، والتي حملت رسائل سياسية موجَّهة إلى حلفائه التقليديين، وكذلك إلى القوة الإسلامية الناعمة والتنويرية –حسب تعبيره- التي يعول عليها لرأب الصدع والشرخ التاريخي بين الإسلام والغرب، وخاصة في ظل توترات عالمية على أكثر من صعيد، يمكن أن تؤثر في الدور الاستراتيجي للسياسة الفرنسية في الداخل والخارج.

لقد تعامل إيمانويل ماكرون بدبلوماسية عالية ولغة سياسية هادئة عند حديثه عن الإسلام، وذلك بفضل المحفزات الإقليمية والدولية، ومنها زيارته المثمرة –حسب تقديره وتقدير إدارته- إلى لبنان، التي حولته على الأقل في نظر بعض اللبنانيين إلى زعيم مخلِّص، يمكنه أن يخلّص لبنان من أزمتها وخاصة بعد حادثة مرفأ لبنان التي زادت الطين بلة، ومنها أيضا رسائل السلام التي يبادر بها ويباركها البيت الأبيض بين إسرائيل والدول العربية، ولو أن فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي لم تتحمس لها إلا في نطاق محدود، يتلخص في تشجيع قيم العيش المشترك ونبذ ثقافة الكراهية، ومنها، وهذا ما لم يرد ماكرون الإفصاح عنه، أن العالم الإسلامي يواجه ضعفا غير مسبوق، وهذا يمثل فرصة ذهبية لفرنسا وحلفائها لدفعه إلى قبول مبدأ التكيف مع التوجهات العالمية أو التلاشي المحتوم، وبقائه وحيدا من غير سند ولا مدد في معركته ضد الجماعات المتشددة.

إن تصريح ماكرون بأن “الإسلام اليوم يواجه أزمة في كل العالم؟!” مبنيٌّ على قناعته بأن من يمثلون الإسلام على كل المستويات لم يعد لهم أكثر من أي وقت مضى قبولٌ لدى الغرب لتمثيل العالم الإسلامي، وهذا يمثل فرصة ذهبية لفرنسا لتقدم نفسها على أنها البديل الذي لا مناص منه.
 
لقد تعرَّض الإسلام في تاريخه الطويل إلى هجمات كثيرة ووقع أتباعه في أزمات خانقة، ولكنه ظل طودا شامخا عصيا على خصومه وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولعل الإسلام الذي يتحدث عنه ماكرون ويدّعي أنه “يواجه أزمة في كل العالم؟!” هو الإسلام السياسوي الذي صُنع في مخابر الغرب، وليس الإسلام الحقيقي الذي يحمل في طياته قيم البقاء والارتقاء، الإسلام الذي خذله أهله، ولكنه سيبقى بحفظ الله وإخلاص البقية الباقية من العلماء العاملين عصيا على الاختراق، مهيمنا على الآفاق.

لنفترض جدلا أن مقولة ماكرون بأن “الإسلام يواجه اليوم أزمة في كل العالم؟!” صحيحة، لكن ماذا عن المسيحية واليهودية؟ إن العارفين بشؤون الأديان يقولون إن المسيحية واليهودية تعيشان أسوأ أيامهما، وأنه لم يعد لهما دورٌ في المجتمع الأوروبي والمجتمع العالمي، فقد توقف دور المسيحية على سبيل المثال في أفريقيا، ودخل الفاتيكان في مرحلة السبات العميق الذي لن يفيق منه إلا على وقع ارتدادات كثيرة عن المسيحية، التي فقدت هيبتها وقدسيتها ولم تعد تمثل بالنسبة لكثير من الأوروبيين شيئا مذكورا، بعد أن كانت في عهد سابق مناطا للتقديس.


حينما يقول ماكرون؛ إن الإسلام يواجه أزمة في العالم كله، فيحب ألا يهلل لذلك المسلمون؛ لأن الإسلام الذي يتباكى عليه ماكرون هو الإسلام التنويري الذي تمثله مؤسسة إسلام فرنسا التي يرأسها غالب بن الشيخ، والتي من أهدافها إيجاد إسلام فرنسي قائم على مبادئ الجمهورية الفرنسية، لا يلتقي مع الإسلام الحقيقي إلا في الشعائر الظاهرة، أما السياسات والتوجهات فمختلفة تماما وتحدَّد وفق الاجتهادات المعاصرة التي يدعي التنويريون أن المسلمين بحاجة إلى أن يستأنسوا بها، ويؤسسوا عليها إذا أرادوا حماية كينونتهم الدينية والاجتماعية من الزوال في ظل عولمة طاغية وعلمانية مهيمنة.

يجب ألا يستغرب المسلمون تصريح ماكرون بأن “الإسلام يواجه أزمة في كل العالم؟!” لأنه ما كان لماكرون ولا لغيره أن يقول ذلك لو أننا نحن المسلمين قمنا بواجبنا في الدفاع عن الإسلام، فالطبيعة لا تقبل الفراغ. لذا، فإن رسالتي إلى كل الدعاة في العالم، أن يرتقوا بخطابهم الدعوي وأن يكشفوا للعالم عن الدرر الثمينة والقيم الإنسانية النبيلة التي جاء بها الإسلام، القيم التي تدعو إلى تعارف الحضارات وإلى السلم العالمي وتنبذ ثقافة التعصب للجنس والعرق.

 

إن دعاتنا -إلا من رحم ربّك- لا يزالون يدورون في حلقة مفرغة، يركزون على الفروع ويهجرون الأصول، يستهدفون بدعوتهم الدائرة الضيقة في العالم الإسلامي، ويغفلون أو يتغافلون عن الدائرة الواسعة وهو المجتمع الإنساني، مع أن قرآنهم يأمرهم بذلك: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”. والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هنا الشامل الذي يشمل الإسهام في عمارة الأرض وتأمينها من كل شرّ محتمَل أو خطر، منتظر من قبيل الحروب المدمرة التي يفرضها الأقوياء على الضعفاء، تحت ذريعة تأمين البشرية ومحاربة ما يسمونه زورا وبهتانا “الإرهاب الإسلامي” في المقام الأول.

 

(عن صحيفة الشروق الجزائرية)

2
التعليقات (2)
مسعود زدام
الثلاثاء، 13-10-2020 04:36 م
شكرا لك استاذ على هذا المقال الى ترى ان ماكرون يريد مزيدا من الظهور وذالك على حساب الاسلام الذي يحاصر حتى في عقر داره
مصطفى العياشي
الأربعاء، 07-10-2020 01:09 م
بارك الله في شيخنا لفاضل افاد واجاد